تتصاعد حدة المواجهات بين حزب الله وإسرائيل وتتسارع وتيرتها على جانبي الحدود اللبنانية الإسرائيلية، وتشهد تطورات كمية ونوعية في ضرباتهما المتبادلة، فقد كثفت إسرائيل من ضرباتها الجوية ضد البنى التحتية وقادة في حزب الله؛ كان من أبرزها اغتيال قائد وحدة "نصر" في الحزب طالب سامي عبد الله في 12 يونيو 2024، في المقابل صعد الحزب من هجماته ضد إسرائيل ففي 13 يونيو أطلق نحو 150 قذيفة، وشهدت هجماته تطوراً ملحوظاً من حيث الأسلحة المستخدمة والأهداف المُهاجمة. وعليه يُنذر التصعيد باتساع المواجهة نحو حرب مباشرة، وسط مخاوف من توسع نطاقها إقليمياً.
مؤشرات التصعيد
يدخل الاشتباك المتواصل بين حزب الله وإسرائيل منذ 8 أكتوبر 2023، مرحلة "حاسمة". حيث يتحضر الطرفان لحرب شاملة، إذ أعلن الجيش الإسرائيلي في 18 يونيو، أنه أنهى "خطة لتنفيذ هجوم في لبنان"، وفي 26 يونيو، أعلن الجيش عن نقل قوات من الجبهة الجنوبية في قطاع غزة إلى الحدود مع لبنان، وفي الواقع لم تستبعد إسرائيل سيناريو الحرب مع لبنان منذ اليوم الأول للاشتباك، وقد اعتمدت تدميراً ممنهجا يُمهد الميدان لحالة الحرب، من بينها اغتيال عدد من القادة الميدانيين في حزب الله، ومحاولاتها خلق منطقة عازلة بالقوة في جنوب لبنان، إذ تركزت أغلب ضرباتها العسكرية في نطاق 10-15 كيلومتر داخل الحدود اللبنانية، ووفقاً لتقرير نشرته صحيفة فايننشال تايمز البريطانية أواخر يونيو، فإن إسرائيل قد حولت نحو 5 كيلومتر من الحدود اللبنانية إلى منطقة غير صالحة للسكن، لا سيما مع "استخدامها الفسفور الكيميائي الذي يتسبب بأضرار للبنى التحتية والبيئية"، وذلك يُشير إلى السعي الإسرائيلي للمنطقة العازلة، سواءً تم ذلك بالأدوات العسكرية أو في انتظار النتائج الدبلوماسية.
في المقابل؛ يستعد حزب الله هو الآخر إلى سيناريو الحرب منذ بداية الاشتباك، وقد ذكر نائب الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم، في يناير 2024، أن الحزب يستعد "لعدوان له بداية وليس له نهاية"، ومنذ الربع الثاني من العام أصبحت خطوات الحزب نحو الحرب أكثر وضوحاً، إما من خلال التقارير التي تناولت تهيئة الميدان لعمليات اشتباك واسعة برية وجوية، بإنشاء الحزب أنفاقاً وخنادق في مناطق مختلفة من جنوب لبنان وسهل البقاع، أو بإدخاله أسلحة جديدة في الاشتباك، من بينها الطائرات المسيرة الانقضاضية والصواريخ الموجهة الثقيلة، واستخدامه صواريخ ألماس إيرانية الصنع، التي استهدف بها قاعدة ميرون العسكرية الإسرائيلية في أبريل الماضي، وكذلك تنفيذ عمليات بمسيرة هجومية مسلحة من طراز (أس-5)، والمزودة بصاروخين، والتي استخدمها للهجوم على موقع عسكري إسرائيلي في منطقة المطلة في مايو 2024.
مع ذلك؛ بات يُنظر إلى التصعيد غير المنضبط تماماً بأنه مقدمة للحرب، سواءً كان ذلك اتجاهاً مقصوداً أو انجراراً وراء معطيات الميدان، وقد بدأت العديد من الدول تدعو رعاياها لمغادرة لبنان، من بينها دول أوروبية كألمانيا وكذلك دول الخليج العربي، بالإضافة إلى إرسال دول عدة قواتها للمنطقة استعداداً لإجلاء رعاياها، من بينها كندا والولايات المتحدة. فبالرغم من انخراط واشنطن بمساعي التهدئة على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، ومعارضتها الصريحة للحرب، إلا أنها لا تستبعد قيامها، وبدأت باتخاذ إجراءات استباقية بإرسال سفينة برمائية ووحدة من المارينز للبحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى تحريك حاملة الطائرات "يو إس إس دوايت دي أيزنهاور" USS Dwight D. Eisenhower، والطرادات المرافقة لها من البحر الأحمر إلى شرق البحر الأبيض المتوسط قبل عودتها إلى الولايات المتحدة.
دلالات التصعيد
يحمل التصعيد المتبادل في الضربات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل، دلالات سياسية واستراتيجية، آتية من الدور العسكري والإعلامي للطرفين طيلة الأشهر الثماني للحرب في غزة، فقد ربط الأمين العام لحزب الله حسن الله في خطابه الأول في 3 نوفمبر 2023، موقف الحزب بمجريات الحرب من جهة، وبسلوك إسرائيل في لبنان من جهة أخرى، وفي حالة الحرب في قطاع غزة، فقد بدأت إسرائيل منذ 7 مايو عملياتها في آخر معاقل حركة حماس في القطاع، في مدينة رفح، وهو ما ترافق بتصعيد شهدته مختلف ساحات "محور المقاومة"، من ضمنها مناطق سيطرة الحوثيين باليمن، والفصائل المسلحة في العراق. ففي أواخر مايو أعلن الحوثيون عن دخول عملياتهم إلى المرحلة الرابعة، والتي ستشهد تصاعداً كمياً وكيفياً، والتهديد بنقل المواجهة إلى البحر الأبيض المتوسط، وفي 27 يونيو أعلن طرفا المحور في اليمن والعراق عن تنفيذ عمليات مشتركة استهدفت هدفاً في ميناء حيفا، في مسار متنامي ومتصاعد منذ أول إعلان مشترك لهما في 6 يونيو.
مع ذلك؛ لا يُمكن النظر إلى مجريات التصعيد بالاستناد إلى معطيات الميدان في قطاع غزة فحسب، إذ شهدت الساحات الثانوية بوادر لاستقلال أهدافها وغاياتها عن الساحة الرئيسية، ووفق مستجدات تخص كل ساحة أو ترتبط بإيران، فبالرغم من وصول الحرب في قطاع غزة إلى "نقطة مفصلية" مع قرب انتهاء العمليات العسكرية في رفح، وبإعادة هندسة جغرافيا القطاع بما يضمن وجوداً أمنياً وعسكرياً طويل المدى للجيش الإسرائيلي، إلا أن تصعيد الحزب الأخير اقترن في إطار الرد على السلوك الإسرائيلي في لبنان، ودلالة ذلك أن الهجمات الأكثر دراماتيكية للحزب جاءت رداً على عمليات إسرائيلية، لا سيما في هجوم 12 يونيو الأكبر منذ 8 أكتوبر 2023، والذي جاء انتقاماً لاغتيال قائد وحدة "نصر" في الحزب، وكذلك جاء إطلاق الحزب في مارس الماضي نحو 100 قذيفة للرد على استهداف إسرائيل، مدينة بعلبك في العمق اللبناني.
في المُقابل؛ تبدو الخطوات الإسرائيلية أكثر تصعيداً ليس تجاه الحزب فحسب، بل وتجاه المحور بشكل عام، لا سيما في عمليات الاغتيال ضد قيادات الفصائل الفلسطينية في لبنان ومن أبرزها اغتيال صالح العاروري في الضاحية الجنوبية مطلع يناير 2024، واغتيال عدداً من القادة العسكريين والمستشارين الإيرانيين في سوريا، من بينها استهداف إسرائيل لمنشأة دبلوماسية، أدت إلى مقتل القائد في الحرس الثوري محمد رضا زاهدي داخل قنصلية بلاده في دمشق. وذلك من جهة للحيلولة دون خلق تصور رسمي وشعبي في إسرائيل بأن معادلة الردع ضد إيران ومحورها قد تآكلت من جانب أحادي، وبأنها لا تزال المبادرة في فرض قواعد اشتباك جديدة وموسعة، إلى جانب أن "الهزة الاستراتيجية" التي أصابت إسرائيل بفعل هجمات الفصائل الفلسطينية في مناطق غلاف غزة في 7 أكتوبر 2023، دفعت إسرائيل إلى البحث عن استعادة صورتها، وتقويض خصومها على حدودها بغض النظر عن كُلف وتداعيات ذلك، حيث يُكرر المسؤولون الإسرائيليون للداخل والخارج أنهم في خضم "حرب وجودية"، وأنهم في مواجهة 7 جبهات (قطاع غزة، والضفة الغربية، وحزب الله اللبناني، والحوثيون، والفصائل العراقية، والفصائل المسلحة في سوريا، وإيران). بالتالي فإن اندلاع حروب في كافة الجبهات لاستعادة الأمن الإسرائيلي بما يجعل تكرار مسار هجمات 7 أكتوبر أمراً مستحيلاً، سيكون أفضل من حسم الحرب في قطاع غزّة فقط وبقاء الساحات الأخرى كمصدر تهديد مستقبلي.
مسارات تطور التصعيد
يطرح التصعيد بين حزب الله وإسرائيل تساؤلاً حول مستقبل المواجهة بين الطرفين وفق مسارات تتحدد بمعطيات الطرفين والظروف المحيطة بالحرب بشكل عام، وضمن خيارات زيادة التصعيد أو ضبطه أو تسويته دبلوماسيًا. وهي بذلك تنحصر فيما يلي:
المسار الأول: مناورة عسكرية محدودة
هناك احتمال أن تنفذ إسرائيل مناورة عسكرية محدودة لممارسة أكبر ضغط ممكن من أجل ثني الخصم أو تعظيم المكاسب. وقد شهد التصعيد بين الطرفين بوادر عدة لتشديد الضغوط المتبادلة إما بشكل مباشر في الميدان أو في إطار الحرب النفسية، فقد كثف المسؤولون الإسرائيليون من تصريحاتهم بشأن الاستعداد لفتح جبهة حرب ضد حزب الله، وبـ "إعادة لبنان للعصر الحجري"، وكذلك في التطمينات الأمريكية بدعم إسرائيل في أي حرب قادمة مع لبنان. في المقابل عزز حزب الله من حربه النفسية بعد نشره لقطات صورتها طائرة مراقبة دون طيار وتظهر منشآت إسرائيلية حساسة في حيفا ومشاهد عن مناطق لشمال إسرائيل.
وفي هذا المسار فإن احتمال تنفيذ خطوات تتعدى الحرب النفسية واردة، عبر قيام إسرائيل بتنفيذ هجمات نوعية ودقيقة ضد البنى التحتية الرئيسية لحزب الله في العمق اللبناني، إلى جانب توغل بري محدود في الجنوب. وفي الأثناء يُرجح أن تشهد المناورة استخداماً مكثفاً للنيران، وعلى استمرار أسابيع، وقد تكون نتائجها مفتوحة أمام التحول إلى حرب شاملة وواسعة، أو أن تنتهي بتدخل أمريكي ودولي واسع يقودها نحو مسار دبلوماسي.
المسار الثاني: الحرب الشاملة
إن تطور التصعيد إلى حرب شاملة، أو حتى توسع الحرب في المسار الأول من المحدودة إلى الشاملة، مرهون باعتبار بانتهاء الحرب في قطاع غزة واعتبارها جبهة ثانوية مقابل فتح جبهة رئيسية جديدة في لبنان، وارتباطا بالتداعيات العكسيّة لعمليات "حزب الله" على منظومة الردع التي عملت إسرائيل على ترسخيها كسياسة استراتيجية مركزية، وهو ما قد يدفع نحو المضي بحرب شاملة في سبيل محاولة استعادة قوة الردع الإسرائيلي لكبح أي شكل من الاشتباكات المستقبلية، ولتأمين عودة آلاف النازحين من الشمال إلى المستوطنات التي جرى إخلاؤها رسميًا أو بفرار سكانها. وفي الواقع يُهدد التصعيد الحالي بجر الطرفين إلى حرب مباشرة، وقد حذر وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن من أن عمليات حزب الله اللبناني قد تجر إسرائيل ولبنان إلى حرب مفتوحة، وبالرغم من أن هناك ضغوطات أمريكية تُمارس على الطرفين لكبح التصعيد، والعودة إلى المسارات الدبلوماسية، إلا أن تقرير نُشر على موقع "بوليتيكو" كشف عن إرسال واشنطن برسالة عبر وسطاء إلى حزب الله، تُشير إلى أن أمريكا لن تمنع إسرائيل من مهاجمة لبنان. في المقابل يُرجح في هذا المسار توسع التصعيد والاشتباك إقليمياً، وانضمام فصائل ما يُعرف بـ"وحدة الساحات"، وقد كشف تقرير نشرته وكالة أسوشيتد برس، أن آلاف المقاتلين من الفصائل المسلحة المدعومة من إيران على استعداد للانضمام إلى حزب الله في حال تحول التصعيد إلى حرب شاملة مع إسرائيل.
المسار الثالث: التسوية الدبلوماسية
يتمثل هذا المسار في التهدئة ووقف الاشتباكات بين الطرفين. وهو ما يعتمد على عاملين أساسيين يقضي أولهما إلى الثاني. إذ يتمثل الأول في نجاح مقترح صفقة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في التهدئة ووقف إطلاق النار؛ وذلك وفقا لربط "حزب الله" مواجهاته باستمرار الحرب في القطاع وأنه سبق وأوقف عملياته في الهدنة المؤقتة في نوفمبر 2023، إضافةً إلى تصريح بايدن أثناء عرضه لمقترح الصفقة بأن على الإسرائيليين قبول الصفقة وستعمل الولايات المتحدة دبلوماسيًا لحل مشكلتهم على الحدود اللبنانية. وهذا ما سيبنى عليه عامل التهدئة الثاني المتمثل بجهود دولية دبلوماسية للتسوية، تعمل من خلال وسطاء فرنسيين وأمريكيين على الدفع نحو تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي "1701" المجمّد منذ انتهاء الحرب عام 2006.
المسار الرابع: استمرار الوضع الراهن
إن مسار بقاء الأوضاع الميدانية على وتيرتها الأقرب لحرب الاستنزاف، يرتبط باستمرار الحرب في قطاع غزة، ونجاح الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين في منع طرفي الصراع من ممارسة المزيد من التصعيد، وفي هذا الإطار يقرأ توقف حاملة الطائرات الأمريكية يو إس إس دوايت أيزنهاور USS Dwight D. Eisenhower، في البحر الأبيض المتوسط أثناء رحلة عودتها من البحر الأحمر إلى الولايات المتحدة، في رسالة ردع إلى حزب الله بعدم السير نحو الحرب، وبشكل مماثل للإرسال السابق لمجموعة حاملة الطائرات (يو إس إس جيرالد فورد- USS Gerald R. Ford) قُبالة السواحل الإسرائيلية شرقي البحر الأبيض المتوسط في مطلع الحرب. وكذلك في الرسائل الأمريكية الموجهة لإسرائيل من مخاطر الحرب مع حزب الله، والتي جاء أبرزها من رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة تشارلز براون، حول أن قدرة الولايات المتحدة على الدفاع عن إسرائيل ضد هجمات حزب الله قد تكون محدودة، مقارنة بقدرتها على اعتراض الهجوم الصاروخي والطائرات المسيرة الذي شنته إيران في أبريل 2024. وبذلك قد يستمر التصعيد لشهور قادمة وضمن منحنيات متغيرة بين التصعيد والهدوء، بانتظار تحوله إلى أحد المسارات الثلاثة السابقة.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: