أدت الحرب على "داعش" في سوريا إلى تغيير حجم وشكل مناطق النفوذ على الخريطة لصالح الحكومة السورية والجيش النظامي من حيث المساحة والسيطرة الإدارية، إلا أنها وفي نفس الوقت خلقت مناطق معزولة عن القرار السيادي لدمشق، في ظل مشهد عسكري معقد من حيث تعدد القوات والفصائل المتنازعة بالترافق مع تضارب الأجندات على المستوى الإقليمي في اتصالها بالأزمة السورية إما بشكل مباشر من خلال عناصرها العسكرية أو عبر علاقتها بواحدة أو أكثر من الفصائل غير المنطوية تحت لواء القوات النظامية والتي عادةً ما تكون معادية لها.
في أواخر نوفمبر 2020، عاد التصعيد إلى بلدة عين عيسى في الريف الشمالي لمحافظة الرقة بعد قصف متبادل بين قوات سوريا الديمقراطية "قسد" والجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، وبالتالي جرى التعدي - عملياً - على قرار وقف إطلاق النار في شمال شرق سوريا والذي تضمنه اتفاق بين روسيا والولايات المتحدة من جهة وبين تركيا من جهة أخرى والموقَّع في أكتوبر 2019، ولم تكن مناطق أخرى بمنأى عن هذا التصعيد المتقطع منذ يوليو 2020، حيث شهدت مدينة منبج في شمال شرق محافظة حلب، ومدينة تل تمر شمال محافظة الحسكة اشتباكات مماثلة.
تدفع الأحداث الأخيرة إلى إعادة النظر بشكل شامل في الخريطة السورية للنفوذ العسكري السوري بالأخص في شمال شرق سوريا، وذلك بهدف الإجابة على السؤال التالي: إلى متى ستستمر حالة الجمود الأمني والجيواستراتيجي في المناطق غير الخاضعة لسيطرة الدولة السورية؟ وهل هي حالة جمود أم تغييرات عسكرية بطيئة؟
يمكن اعتبار 4 مايو 2017 تاريخ التأسيس لهذه الحالة، ففيه اتفقت كل من روسيا وتركيا وإيران، الدول الراعية لمحادثات أستانا بنسختها الرابعة، على مذكرة تفاهم لإنشاء مناطق لخفض التصعيد، يتوقف فيها العمل العسكري بين الجيش السوري النظامي وبين الفصائل المسلحة المعارضة، وهذا لا يشمل الفصائل الإرهابية مثل "داعش" وهيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً)، وهذه المناطق هي محافظة إدلب، ومناطق في حماة، واللاذقية، وحلب ودرعا. ومنذ ذلك الحين استطاعت دمشق وبمعاونة روسية الضغطَ على المسلحين في تلك المناطق من خلال مناوشات عسكرية وضغوطات تنظيمية أدت إلى خروج الفصائل المسلحة منها - بعد التخلي عن أسلحتهم الثقيلة والمتوسطة - إلى محافظة إدلب.
وتوازى إنشاء مناطق خفض التصعيد مع عمليات عسكرية أقدمت عليها القوات التركية والفصائل العسكرية الموالية لها، حيث أدت عمليتا درع الفرات (أغسطس 2016 - مارس 2017) وغصن الزيتون (يناير 2018 - مايو 2018)، إلى السيطرة على مناطق عفرين وجرابلس بشكل رسمي إلى جانب إدلب بالطبع التي تضم العديد من الفصائل الموالية لتركيا بما يجعلها خاضعة للإشراف التركي بطبيعة الحال.
وبالتالي، يتركز الحديث حالياً عن منطقة شمال شرق سوريا، ذلك لأن المناطق الواقعة إلى الشمال الغربي أو غرب نهر الفرات هي تحت السيطرة التركية باستثناء مناطق تل رفعت ومنبج الخاضعة لسيطرة فصائل موالية لـ "قسد".
الحجة التي تُسوّقها أنقرة لحراكها العسكري داخل سوريا كانت وما زالت هي ذاتها، والتي تتمثل في القضاء على التنظيمات الإرهابية التي تضم إلى جانب "داعش" - بحسب المنظور التركي - وحدات حماية الشعب الكردية التي تشكل جزءاً مهماً من "قسد"، وذلك بهدف تأسيس منطقة آمنة في الشمال السوري بشكل عام، إلا أنها من المفترض أن تكون بعمق 32 كم في شمال شرق سوريا (من شرق نهر الفرات وحتى الحدود العراقية)، من أجل تأمين عودة آمنة للاجئين السوريين في تركيا بعد أن تهيأت الظروف التي تتضمن تحييد التنظيمات الإرهابية.
عين عيسى تلخص المشهد
أعلن الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، في ديسمبر 2018 عن انسحاب القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا، إلا أن التطبيق الفعلي لهذا الإعلان بدأ بعد قرابة العام في أكتوبر 2019، مما سمح للقوات التركية والفصائل المسلحة الموالية لها بالتوسع في العديد من المناطق تحت غطاء عملية عسكرية جديدة حملت اسم "نبع السلام"، انطلقت على إثر الفراغ الأمني الذي خلّفه الانسحاب المذكور، فعلى سبيل المثال جرت السيطرة على بلدتي تل أبيض ورأس العين بمجرد الانسحاب الأمريكي منهما.
تجدر الإشارة إلى أن الانسحاب الأمريكي لم يكن انسحاباً بالمعنى المجرد للكلمة، بل يمكن وصفه بأنه إعادة تموضع تكتيكي في شمال شرق سوريا، وهذا مشابه لما حدث في نوفمبر 2020 عندما أعلن وزير الدفاع الأمريكي بالوكالة، كريستوفر ميلر، عن أن موعد الانسحاب من سوريا قد حل إلا أن ذلك لم يحصل إلا بشكل محدود، وإذا ما أردنا الاستدلال على نتيجة ما هنا، يمكن القول بأن أهمية منطقة شمال شرق سوريا بالنسبة للولايات المتحدة غير متعلقة فقط بآبار النفط في الحسكة ودير الزور التي شدّد دونالد ترامب على السيطرة عليها في أكثر من مناسبة في أواخر عام 2019، بل بإمكانية توفير حد أدنى من التفاوض على حجم تطبيق الرؤية الاستراتيجية الأمريكية لهذه البؤرة الأوسطية المتوترة.
إن التوجهات الاستراتيجية لمختلف القوى الدولية المنخرطة في الملف العسكري السوري أصبحت نسبية بحكم السياق الذي ذهبت الأحداث في اتجاهه، فعلى سبيل المثال؛ كانت تحبذ الولايات المتحدة إسقاط النظام السوري في بداية الأحداث خلال عهد باراك أوباما؛ إلا أنه مع مجيء إدارة ترامب والتدخل العسكري الروسي، وتصاعد الحرب على الإرهاب، كل هذا أدى في مجموعه لتغيير المخطط إلى مجرد ضمان التواجد العسكري الأمريكي على الأرض من خلال إعادة انتشار دورية لهذا التواجد، مع الإبقاء على غطاء جوي تحت مظلة التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن.
وفي المقابل تسعى موسكو إلى الإبقاء على شعار "الحفاظ على وحدة أراضي الدولة السورية" مرفوعاً على الرغم من الإدراك العياني لاستحالة تطبيقه نظراً للتواجد التركي بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى السعي الحثيث من قبل روسيا إلى الحفاظ على توازن معين في العلاقة مع تركيا خوفاً من أي انقلاب مفاجئ لصالح الغرب عموماً، وهذا ما يُستبعد حدوثه في المدى القريب لوجود العديد من القضايا الشائكة بين تركيا والدول الغربية فيما يخص الصراع في ليبيا وأزمة حوض المتوسط وغيرهما.
إن الجزء الأكبر من هذا الشعار الذي ترفعه موسكو هو لإرضاء الحكومة في دمشق وتبرير يمكن أن تستخدمه هذه الأخيرة أمام بعض الأصوات التي قد تنتقد التواجد الروسي بشكل عام، وبالتالي هذا الموقف الروسي لا يمنع التوغل التركي في الأراضي السورية وإنما يحتويه بشكل عام، فعملية "نبع السلام" التي أتت في إطار الحراك العسكري التركي الممتد منذ 2015، لم تستمر لأكثر من عشرين يوماً لتنتهي باتفاق وقف النار في أكتوبر 2019 المشار إليه أعلاه.
إن هذا المشهد الغريب يعني أن روسيا ومن خلفها الدولة السورية يتفهمان التخوفات التركية تجاه قوات "قسد"، لكن هذا لا ينفي أن دمشق لا تنظر إلى التدخل العسكري التركي منذ أن بدأ على أنه احتلال لأراضيها، وفي نفس الوقت لا تتقبل سلطات الإدارة الذاتية و"قسد" لارتباطهما بالدعم الأمريكي ورفضهما للتنسيق معها، وبالتالي فإن الدافع إلى إيجاد حالة من الجمود الأمني هو التنسيق الروسي بين الأطراف المتصارعة، ومثال ذلك الهدنة الأخيرة التي سعت موسكو إلى فرضها في مطلع مارس 2020 بين دمشق وأنقرة بعد تصاعد حدة الاشتباك العسكري في مناطق شمال حماة وجنوب إدلب بالأخص في بلدة خان شيخون بين الجيشين التركي والسوري.
بالعودة إلى التصعيد في عين عيسى التي تعتبر العاصمة الإدارية والسياسية للإدارة الذاتية، ترفض "قسد" تسليمها للروس والجيش السوري النظامي، هذا السيناريو الذي يلائم الأتراك الساعين إلى إخراج "قسد" من المدينة وإن حلت مكانها القوات السورية التي ستحتكم في نهاية المطاف إلى قناة التنسيق الروسية، وأدى هذا القرار إلى انسحاب القوات السورية من البلدة في ديسمبر الماضي كما امتنعت القوات العسكرية الروسية من مرافقة المركبات المدنية على طول طريق "M4"، ربما للضغط على "قسد" التي تواجه الجيش الوطني السوري والمدفعية التركية لوحدها، من أجل تسليم المدينة.
إن "قسد" تخشى من أن تخسر عين عيسى لا لرمزيتها السياسية فقط، وإنما لموقعها الاستراتيجي الواقع على الطريق الدولي "M4"، فإذا سقطت المدينة في يد الأتراك - كما حصل لعفرين وتل أبيض في وقت سابق بعدما سُلّمت للقوات السورية والشرطة العسكرية الروسية - ستفقد الإدارة الذاتية حلقة الوصل في السيطرة على مناطقها الممتدة من شمال شرق حلب حتى محافظة الحسكة وصولاً إلى الحدود مع العراق، كما ويبدو أن الولايات المتحدة دخلت على الخط لدعم موقف "قسد" وذلك من خلال الزيارة المفاجئة التي قام بها قائد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط الجنرال، فرانك ماكنزي، إلى محافظة الحسكة في 22 ديسمبر 2020 ومقابلته مع رئيس "قسد"، مظلوم عبدي، وهذا ما يمكن قراءته على أنه عمل غير مريح بالنسبة لموسكو وأنقرة على السواء.
ويبدو أن التعويل الكردي على دور الإدارة الجديدة للرئيس جو بايدن تضاعف بعد تعيين هذا الأخير لبريت ماكغورك، في منصب المنسق العام لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجلس الأمن القومي في مطلع الشهر الجاري، وماكغورك من أشد منتقدي التدخل العسكري التركي في سوريا، وهذا ما برز بوضوح عندما كان يشغل منصب المبعوث الخاص للتحالف الدولي لمحاربة "داعش" في عهد باراك أوباما حيث استقال من هذا المنصب في عام 2018 على إثر قرار ترامب بسحب القوات الأمريكية من سوريا.
لكن من يضمن عدم تسارع الأحداث وتطورها من ناحية التصعيد العسكري قبل الفعل الأمريكي المرتقب إن حدث، فمن جانب تقوم القوات السورية النظامية بتعزيز تواجدها في ريف الرقة الغربي وهذا ما حصل في 19 يناير الجاري عندما تم إرسال عشرات العناصر، بالإضافة إلى محاصرة مواقع القوات الكردية في ريف حلب الشرقي، قابله إقدام قوات "قسد" من خلال ذراعها الأمني "أسايش" على محاصرة قوات الجيش السوري في القامشلي وأماكن تواجده في محافظة الحسكة، وكانت الاستجابة الروسية لذلك هي إرسال 300 عنصر من الشرطة العسكرية الروسية إلى تلك المناطق بالإضافة إلى مناطق تل تمر وعين عيسى لتعزيز نقاط المراقبة المشتركة مع الجيش السوري بحسب تعبير المسؤولين الروس، وقد تؤدي هذه التعزيزات الأخيرة من الجانب الروسي إلى زيادة رفض "قسد" الوساطة الروسية للتهدئة وإعادة الأمور إلى نصابها، ومن جانب آخر تتوالى الاشتباكات بين الفصائل الموالية لأنقرة و"قسد" في أرياف بلدة عين عيسى، هذه الفصائل غير المعنية من حيث المبدأ بأي نتائج للمفاوضات بين الأكراد والسوريين والروس، حيث إن المعني هو الجيش التركي الذي تربطه قناة اتصال -ليست بالفعالية المطلوبة - مع القوات الروسية.
ختاماً، يمكن أن نستنتج أن الوضع في شمال شرق سوريا في غاية الهشاشة من الناحية الأمنية، وأن المعادلة ستتغير بشكل شبه نوعي مع دخول بايدن إلى البيت الأبيض باتجاه فرض حالة من الجمود مع بقاء الاحتكاكات العسكرية على خطوط التماس والالتفات لمحاربة خلايا "داعش" في المحيط الشرقي لمحافظة دير الزور، وكانت من السيناريوهات المتوقعة قيام تركيا تصعيد نشاطها العسكري للسيطرة على عين عيسى قبل 20 يناير سعياً منها إلى اكتساب ورقة تفاوضية جديدة لترفعها في وجه التغيرات الحاصلة في واشنطن، لكن هذا لم يكن بالسهولة أن يحصل مع وجود "قسد" التي من الممكن أن تخلط الأوراق من خلال نقل المعركة إلى القامشلي التي تعتبر المعقل الوحيد للجيش السوري في شمال شرق سوريا بالإضافة إلى المربع الأمني التابع لها في الحسكة، وهذا ما بيّنه الاحتكاك الذي حدث هناك في ديسمبر الماضي والذي استدعى تدخلاً روسياً لإنهائه، لكن ما يحصل اليوم من احتكاك بين قسد من جهة وبين القوات النظامية والفصائل المدعومة من تركياً كل على حدا، يُنذر بتصعيد عسكري غير مسبوق وعنيف في ظل عدم فاعلية الوساطة الروسية هذه المرة.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: