تناول الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، في المجلد الأول من مذكراته الرئاسية "أرض الميعاد"، أبرز محطات حياته، وروى ما يمكن أن نسميه قصته ومسيرته بشكل مفصل حتى وصوله الساحة السياسية الأمريكية، بدايةً من حملته لانتخابات مجلس الشيوخ عام 2004، ووصولاً إلى تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية.
يناقش الكتاب الأحداث بشكل مفصل جداً، لدرجة أن المجلد الأول المكون من 701 صفحة يصف فقط أول عامين ونصف من الفترة الرئاسية الأولى، وسيُكمل سرد أحداث ما تبقى من الفترة الرئاسية في مجلد ثاني، سيصدر لاحقاً.
وثّق أوباما موقفه من فترة رئاسة دونالد ترامب وكتب :"الأمر الأكثر قلقاً، ربما يبدو أن نظامنا الديمقراطي يغرق في أزمة"، معتبراً أنه بمجرد مغادرة ترامب للبيت الأبيض فإن ذلك يعد كافياً لوضع الولايات المتحدة في مسار تصحيحي، مُرحباً بفوز نائبه السابق، جون بايدن، الذي ينتظر تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية في الشهر الأول من 2021، لكنه يعترف أن انتخابات واحدة قد لن تكون كافية لمعالجة "الانقسامات العميقة والتحديات الرهيبة".
ترك أوباما مساحة جيدة للحديث عن العلاقات الدولية، وتوصيف بعض الشخصيات السياسية التي تعامل معها أثناء فترة رئاسته، ومن بين هذه الشخصيات، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إذ وصفه بأنه "ذكي وحصيف في مراوغاته" و"يعرف متى يكون ساحراً، ومتى ما كان ذلك مفيداً له". ولا بد من الإشارة إلى أن العلاقة بين أوباما ونتنياهو في النصف الأول من الفترة الرئاسية الأولى كانت غير مريحة للطرفين على المستوى الشخصي، وهو ما انعكس على علاقة الرئيس الأمريكي مع جماعة الضغط النافذة "AIPAC" التي اعتبرها تتسق مع التحولات السياسية في إسرائيل حتى ولو كانت أفعال إسرائيل تتناقض مع السياسة الأمريكية.
كما أبدى أوباما أسفه من كون السياسيين الذين ينتقدون علناً السياسات الإسرائيلية يخاطرون في أن يتم تصنيفهم في خانة "معاداة إسرائيل" أو حتى "معاداة السامية"، مما يؤدي بهم إلى أن يواجهوا خصماً ممولاً بصورة كافية في الانتخابات القادمة.
من المتوقع أن نتنياهو سيكون أحد القادة الذين لم يحتفوا بفوز نائب أوباما السابق، جون بايدن، في الانتخابات الأمريكية 2020، إذ تظهر صورة أكثر غموضاً بالنسبة للعديد من القادة في منطقة الشرق الأوسط؛ وخاصة أولئك القادة الأكثر استفادة من إدارة الرئيس ترامب المنتهية ولايته.
في الواقع، يخشى نتنياهو أو أي رئيس حكومة إسرائيلية من أن رئاسة بايدن ستكون تكراراً لعهد أوباما، ولن يكون هناك المزيد من العطاء اللامتناهي والدعم السياسي، الذي كان قد حصل عليه أثناء تواجد ترامب في البيت الأبيض، لدرجة وصفه ذات يوم بأنه "أعظم صديق لإسرائيل"، ولا شك في أنه سيفتقد التقارب الشخصي والأيديولوجي الذي جمعه مع ترامب طوال السنوات الأربع السابقة.
ويبدو أن نتنياهو يمهد الطريق لاستقبال رياح التغيير التي قد تهب من الإدارة الأمريكية الجديدة، في وقت يواجه فيه تحديات داخلية جمّة؛ حيث تحاصره قضايا الفساد وجملة من التشكيك الشعبي في طريقة تعامل حكومته مع وباء كوفيد-19، لكن الأكثر أهمية أن حكم الحزب الديمقراطي للولايات المتحدة سيكون له تبعات وحساسية كبيرة بالنسبة لليمين الإسرائيلي الذي يمثل نتنياهو جزءاً منه، وقد يحفز ذلك أيضاً لصحوة يسارية في إسرائيل بعد عقود من التواري عن الأنظار.
بطبيعة الحال، يأتي كل من بايدن-نتنياهو من اتجاهات فكرية مختلفة، حيث انتقد الرئيس الأمريكي المنتخب العام السابق ما يراه انجرار نتنياهو نحو اليمين المتطرف، في المقابل يلقى بايدن ضغوطاً من اليسار التقدمي والذين شكلوا قاعدة انتخابية كبيرة ساهمت في فوزه بالانتخابات، وعلى وجه الخصوص بعد دعوة بيرني ساندرز لأنصاره بدعم المرشح الديمقراطي. وهؤلاء يطالبون بسياسة أمريكية أكثر حزماً ومعارضة مع إسرائيل.
مع ذلك قد يكون من المبكر الحكم على مسار الرئيس، جون بايدن، وفيما إذا كان سيتبع خطوات الرئيس السابق أوباما، إذ يُعتبر بايدن من التيار الوسطي في اليسار الأمريكي، وحتى في أسوأ لحظات العلاقة بين نتنياهو وأوباما وصفه أحد الدبلوماسيين الإسرائيليين بأنه "الشرطي الجيد"، ناهيك عن أنه قد أعلن نفسه "صهيونياً"، تماماً كما فعل الرئيس المنتخب بايدن.
ما يتضح حتى الآن، أن بايدن لن يقدم الامتيازات ذاتها التي منحها ترامب لإسرائيل، ومن غير المستعبد أن يُلغي أيضاً بعضاً من القرارات التي اتخذها ترامب؛ فقد يعيد فتح قنصلية بلاده في القدس الشرقية التي تنسق العلاقات الفلسطينية الأمريكية، وقد يعيد أيضاً فتح مقر بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، والذي كان قد أغلقها ترامب منهياً التمثيل الدبلوماسي الفلسطيني في العاصمة الأمريكية، وكذلك يعد بايدن بإعادة المساعدات المخصصة للسلطة الفلسطينية.
ومع ذلك؛ فإن هناك ما لا يمكن للرئيس المنتخب التراجع عنه، حيث إنه لم يشر إلى نواياه في إعادة السفارة الأمريكية من القدس إلى تل أبيب، أو إلغاء الاعتراف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان، فمثل هذه القرارات تتطلب مساراً تشريعياً وإدارياً محدداً، ولا يُتوقع إقدام الديمقراطيين على خطوات من شأنها إثارة غضب المحافظين الداعمين للسياسات الإسرائيلية.
بالنسبة لملف الاستيطان؛ فثمّة موقف مشترك بين أوباما وبايدن حول المخططات الإسرائيلية، والتي مكّن الضوء الأخضر الذي منحه ترامب من المضي قدماً في بنائها وحتى الإسراع فيها، حيث لا يخفي بايدن موقفه المعارض منها، فهو يدعم حل الدولتين ويرى أن المستوطنات تقف حائلاً دون تحقيق هذا الحل، ونستذكر هنا الموقف الذي أبداه أثناء زيارته لإسرائيل عندما كان نائباً للرئيس، حين قال للقادة الإسرائيليين إن بناء وحدات سكنية في القدس الشرقية يضر العلاقة الأمريكية الإسرائيلية. وبالتالي فمن المرجح أن يؤدي استمرار موقفه هذا إلى إبطاء بناء هذه المستوطنات.
وبهذا الصدد، قد يلقى بايدن نفسه في مواجهة المعارضة الكبيرة من جانب إسرائيل، وقد يلقى ما ناله أوباما في وقت سابق نتيجة موقفه من الاستيطان؛ حيث يسرد أوباما في "أرض الميعاد" المناورات الإسرائيلية للضغط عليه، فالضغوطات من حلفاء إسرائيل في واشنطن جعلت إدارته في حالة دفاع دائم عن النفس، ويصف ذلك المشهد بالقول "بدأت الهواتف في البيت الأبيض ترن بلا توقف"، من مشرّعين وصحفيين وقادة يهود ليتساءلوا حول الأسباب التي تدفعنا للتعامل هكذا مع إسرائيل.
ما هو مؤكد أن بايدن سيستمر في دعم وتشجيع التقارب الإسرائيلي مع بعض دول منطقة الشرق الأوسط، وسيشجع أيضاً مساعي إسرائيل للتقارب من المملكة العربية السعودية، والتي يتضح أن الملك سلمان بن عبد العزيز غير متشجع نحوها حتى اللحظة؛ لكنه من الممكن أيضاً أن يضغط على الدول التي تسعى لتوقيع اتفاقيات سلام جديدة مع إسرائيل لفرض ضمانات من شأنها أن تحقق فائدة أكبر للفلسطينيين.
بيد أن بايدن سيضع نتنياهو في موقف حرج أمام علاقاته العربية الجديدة فيما يخص الملف النووي الإيراني، فوفقاً للرواية الإسرائيلية؛ إن التقارب مع بعض الدول العربية كان نتيجة للموقف الإسرائيلي من إيران، وفي حين لا يخفي بايدن نواياه حول العودة "المرضية" للاتفاق النووي مع إيران، ونستخدم "مرضية" لاعتقادنا أنها ستخضع لمحادثات جديدة قد تطال المخاوف الإسرائيلية والخليجية في نواحي عدة، فقد استبق نتنياهو هذه الوعود وأعلن عن أنه لا يمكن العودة إلى الاتفاق النووي السابق، حيث قال "يجب أن نتمسك بسياسة لا هوادة فيها لضمان عدم تطوير إيران أسلحةً نوويةً".
لا بد من الاعتراف بأنه كما كان أوباما يواجه ضغوطاً داخلية نتيجة تعامله الفاتر مع إسرائيل، فإن بايدن سيواجه ضغوطاً من بيئة سياسية إقليمية مختلفة، حيث تتشكل تحالفات جديدة مناهضة لإيران في المنطقة.
ختاماً، لقد تمكن نتنياهو من البقاء والاستمرار وتحقيق بعض المكاسب لدولته في ظل إدارة ترامب، حيث إنه احتفل بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وبارك انسحاب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، وتفاخر بإقامة علاقات طبيعية مع بعض الدول العربية، وهو اليوم أمام تحدٍ جديد وفي مواجهة رئيس وصفه أوباما بأنه "شخص صريح بشكل مفرط"، وبالتالي سيقدم وجهة نظره ليس للقادة فحسب، بل أيضاً للجمهور الأمريكي والعالمي، ولذلك تستعد إسرائيل لصياغة استراتيجية جديدة للتعامل المحتمل مع إرث فترة أوباما.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: