استقطب حراك الطلبة داخل حرم العديد من الجامعات الأمريكية المطالب بوقف الحرب في قطاع غزة، والذي بلغ ذروته خلال أبريل 2024، اهتمام العالم بأسره، وتحديداً في تحليل وتفسير ذلك الحراك الذي انطلق في المؤسسات الأكاديمية والمعروفة بنسقها النخبوي والرأسمالي، ما جعل منه حدثاً يصعب تجاوزه، بالرغم من لجوء بعض الجامعات لأجهزة إنفاذ القانون لفض الاعتصامات وتفريق الطلبة المتظاهرين، واعتقال المئات منهم، وهو ما يطرح عدة تساؤلات حول تأثير هذا الحراك على مجريات الحرب في غزة؟ وهل يؤسس لعلاقة جديدة ما بين الجيل القادم وإسرائيل؟ وهل يُشكل "كرة الثلج" التي قد تمتد إلى الجامعات العربية والفلسطينية؟
عوامل الحراك الجامعي الأمريكي
ساهمت الحرب في قطاع غزة، وما رافقها من معاناة إنسانية غير مسبوقة في القطاع، والأعداد المرتفعة من الضحايا المدنيين، في إحداث تحولات في المواقف الرسمية والشعبية العالمية تجاه القضية الفلسطينية، والذي بدأ على شكل احتجاجات شعبية في العديد من دول العالم، قبل أن يتصاعد ليتمركز بين فئة الشباب، التي تعتبر محركاً للرأي العام على المستويات المحلية والدولية. ولفهم تأثيرات ذلك الحراك يُمكن العودة إلى المظاهرات الحاشدة للطلبة الفرنسيين عام 1968 احتجاجاً على الحرب الأمريكية في فيتنام، وامتداداها بشكل سريع عبر العالم، والتي تركت صورة قوية حول كيفية تطور احتجاجات الشباب على وجه التحديد إلى ظاهرة جماعية عالمية، والتي غالباً ما تنحاز إلى قناعات إنسانية وحقوقية.
وفيما يتعلق بالحراك الطلابي الراهن في الجامعات الأمريكية، والذي جاء مفاجئاً بحكم خصوصية العلاقات الأمريكية الإسرائيلية على المستويين الرسمي والشعبي، والنفوذ الإسرائيلي في مراكز صنع القرار الأمريكي، والعلاقات ما بين الجامعات الأمريكية والشركات الراعية المرتبطة بإسرائيل، فإن تفسير ذلك الحراك يرتبط بجملة من الأسباب المتشابكة وهي:
1- الكلف الإنسانية الباهظة وغير المسبوقة للحرب المتواصلة على غزة، حيث قارب عدد الضحايا الفلسطينيين الأربعين ألفاً؛ غالبيتهم من النساء والأطفال، فضلاً عن الدمار الهائل في البنية التحتية لقطاع غزة، والمخاوف الأممية والدولية من مجاعة وشيكة في ظل الحصار الإسرائيلي الخانق، والمعيقات أمام إدخال المساعدات للقطاع.
2- الفجوة بين الأجيال فيما يتعلق بمشاعر الأمريكيين تجاه إسرائيل والفلسطينيين، وقد سلط استطلاع رأي أجراه مركز بيو للأبحاث خلال العام 2023 وفي فترة ما قبل الحرب، الضوء على تباين تلك المشاعر بين الشباب وكبار السن، حيث يُفضل الأمريكيين تحت سن الـ 30 الفلسطينيين بنسبة 61%، مُقابل 78% ممن تبلغ أعمارهم 65 فما فوق، يتعاطفون مع الإسرائيليين. علاوة على ذلك؛ كشفت نتائج استطلاع أجراه معهد هاريس ومركز الدراسات السياسية الأمريكية بجامعة هارفارد في 13-14 ديسمبر 2023، أن 51% من الأمريكيين ضمن الفئة العمرية 18-24، مناهضين لإسرائيل، وأن 67% يؤيدون بقاء حماس في السلطة.
3- التحولات الداخلية في الحزب الديمقراطي، والتي يقودها التيار اليساري في الحزب رفضاً لسياسات الإدارة الامريكية الداعمة لإسرائيل، وهو ما عبر عنه السيناتور الأمريكي الديمقراطي بيرني ساندرز في تصريحاته لشبكة CNN الأمريكية في 18 أبريل 2024 بقوله إنه من المهم محاسبة الحكومة الإسرائيلية على أفعالها في غزة، وأنّ "الغالبية العظمى لا تريد إرسال المزيد من المساعدات إلى إسرائيل"، وتأكيده أنه ليس من معاداة السامية أن يقوم المتظاهرون بمحاسبة نتنياهو على أفعاله في غزة، والتي وصفها بأنها "غير مسبوقة في تاريخ الحرب الحديث".
4- شكلت الحرب رافعة لمشاركة الجاليات والأقليات الأمريكية (الأفريقية والعربية والإسلامية واللاتينية والآسيوية)، حيث ساهمت بشكل كبير في المظاهرات اليومية في المدن الأمريكية، ويعتبر الطلبة من تلك الجاليات جزء رئيسي في الاحتجاجات داخل حرم العديد من الجامعات الأمريكية.
5- تأثيرات أدوات الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي والبث المباشر، سواءً من ناحية نقل مشاهد الحرب في قطاع غزة على مدار الساعة، أو من ناحية مزاحمة التعددية في الآراء ووجهات النظر للرواية الإسرائيلية التقليدية التي كانت سائدة عبر وسائل الإعلام التقليدية.
6- ساهم تدخل قوات الشرطة الأمريكية في جامعة كولومبيا، في مفاقمة غضب الطلبة، ودخول المنظمات والهيئات الحقوقية على خط الأزمة، وأدت في توسّع الاحتجاجات حتى خارج نطاق الجامعات في الولايات المتحدة.
الآثار المستقبلية لحراك الجامعات
إن الزخم الذي اكتسبته حراكات الطلبة في العديد من الجامعات الأمريكية، واتساع نطاقه مقارنة بالفترة الأولى التي نشطت بها مع اندلاع الحرب في 7 أكتوبر، ومروره بفترات من الانقطاع، يترتب عليه مجموعة من التأثيرات القريبة والبعيدة المدى، منها ما يرتبط بمواقف الإدارة الأمريكية من الحرب في قطاع غزة، ويُمكن تقديم التأثيرات على المدى القريب كالآتي:
1- القلق داخل الحكومة الإسرائيلية من تأثير الاحتجاجات على دعم إدارة بايدن للحكومة في الحرب، ومحاولة القادة الإسرائيليين الاشتباك مع الاحتجاجات، إذ وصفها بنيامين نتنياهو، بأنها "أمر مروع، حيث استولت حشود معادية للسامية على جامعات رائدة، حشود تدعو إلى إبادة إسرائيل، وتهاجم الطلاب وأعضاء هيئة التدريس اليهود"، كما وصف وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت تلك الاحتجاجات بقوله إنها "ليست معادية للسامية فحسب، بل تحرّض على الإرهاب أيضاً".
2- أدت التحولات في الرأي العام الأمريكي تجاه الحرب في قطاع غزة، إلى تكثيف الإدارة الأمريكية لضغوطها على الحكومة الإسرائيلية فيما يتعلق بإدخال المساعدات، وغيرت من موقفها الرافض من وقف إطلاق النار، مع المطالبات المتكررة من المسؤولين الأمريكيين لإسرائيل بعدم اجتياح رفح ووقف القتال من جانب أحادي.
3- قد يدفع تصاعد الاحتجاجات وعدم جدوى تدخل الشرطة الأمريكية في وقفها، إلى تقديم إدارات الجامعات تنازلات للطلبة المحتجين، بما يشمل علاقات الجامعات مع إسرائيل ومواقفها من الحرب، ومن مقدمات ذلك إبرام جامعة "براون" في 30 أبريل اتفاقاً مع الطلبة المحتجين يقضي بمراجعة إدارة الجامعة علاقاتها مع الشركات المرتبطة بإسرائيل، مقابل إزالة خيم الاحتجاج.
4- امتد حراك الجامعات الأمريكية بشكل سريع إلى العديد من الجامعات الغربية الكبرى والمهمة؛ في كندا، وفرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، وأستراليا، وحتى اليابان، وهو امتداد يعني أنّ تداعيات الحراك الطلابي بات شأناً عالمياً.
5- وصل الحراك إلى بعض الجامعات العربية، حيث شهدت الجامعة الأمريكية في القاهرة مظاهرات طلابية، كما هو الحال في عدد من الجامعات المغربية، والتونسية التي شهدت احتجاجات واسعة في 29 أبريل، فيما نظمت الجامعات الموريتانية إضراباً عاماً في التاريخ نفسه.
أما فيما يتعلق بالآثار المترتبة عن الاحتجاجات في المستقبل البعيد والمتمثلة في تحول الاهتمام الأمريكي والغربي بالقضية الفلسطينية وضرورة تسويتها، وبالعلاقات الغربية الإسرائيلية والتوجهات الحزبية والفكرية في الدول الغربية، فهي بشكل أكثر تفصيلاً كما يلي:
أولاً: انتقلت الاحتجاجات من الشارع، إلى النخبة، فما بدأ على شكل مظاهرات واحتجاجات عفوية، انتقل إلى جامعات النخبة الأمريكية -رابطة آيفي (Ivy League)- التي تضم أهم ثماني جامعات وأعرقها (هارفارد، وييل، وبرنستون، وبنسلفانيا، وكولومبيا، وبراون، وكلية دارتموث، وكورنيل)، ومنها تخرج أجيال القادة السياسيين والاقتصاديين. وذلك دلالة على حدوث تحوّل كبير في الرؤية الأمريكية للقضية الفلسطينية والعلاقات مع إسرائيل، وبشكل يُغاير مخرجات "مؤتمر بالتيمور 1942" الذي أرسى التحالف الاستراتيجي الأمريكي الإسرائيلي.
ثانياً: عادت القضية الفلسطينية لنقطة بدايتها الأولى بوصفها قضية إنسانية دولية عادلة عابرة للمذاهب والقوميات، ومتجاوزة للتوظيف السياسي الإقليمي خدمة لمصالح قومية ومذهبية لدول الإقليم، وهذا ما يمنح تلك القضية زخماً جدياً ويساهم في كشف الغطاء عن مشاريع تجييرها أو الاتكاء عليها من قبل محاور بعينها.
ثالثاً: سيكون لحراك الجامعات الأمريكية تأثيرات مستقبلية عميقة في توجهات الأحزاب اليسارية والديمقراطية الغربية وتوجهاتها، من حيث دفعها لتبني برامج سياسية جديدة مختلفة تسعى لإنصاف حقوق الشعب الفلسطيني، وغالباً ما سيتركز ذلك التحوّل في الدول ذات الحياة الحزبية الفاعلة، كفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، وإسبانيا، وستكون له تداعيات على سياسات تلك الدول الخارجية المتعلقة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
وأخيراً؛ تستمر الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية والغربية رغم تصاعد حدة القمع وتحوّل بعض تلك الجامعات لثكنات عسكرية، في مشهد غير مألوف بتاتاً في المجتمعات الغربية، وهذا ما يرفع من احتمالات تطور تلك الاحتجاجات وزيادة قوتها وتأثيرها بوصفها واحدة من أهم الأدوات الفاعلة في وقف الحرب، ولكنها أيضاً تُشير إلى تحولات أوسع نطاقاً في مواقف الشعوب الغربية من القضايا الإنسانية في العالم الثالث والتي غالباً ما كانت غائبة عن دوائر اهتمامهم، وذلك ما سيبقي من القضية الفلسطينية حالة متابعة وفي نطاق اهتمام الشعوب الغربية حتى في السنوات التالية للحرب.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: