مقدمة
أثار موقف حركة حماس في قطاع غزة خلال الأيام التي شهدت حالة من التصعيد العسكري ما بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي، إثر قيام إسرائيل باغتيال القائد العسكري في حركة الجهاد الإسلامي تيسير الجعبري ومجموعة من نشطاء الحركة في قطاع غزة؛ الكثير من التساؤلات حول هذا الموقف الذي اتسم بالدبلوماسية وعدم التدخل العسكري من قبل كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحماس.
فموقف حماس من اللحظات الأولى التي تلت اغتيال الجعبري ظهرت أولى ملامحه بعد تأخر رد "غرفة العمليات المشتركة" للفصائل الفلسطينية المسلحة، رغم الإعلان عن عقد اجتماع فوري لتلك الغرفة، وهو ما تم تفسيره بسعي حماس لتثبيت معادلة جديدة للرد، بحكم كونها صاحبة السلطة في قطاع غزة، والقوة العسكرية الأكبر فيها.
وازداد موقف حماس وضوحاً بعد بدء عمليات الرد من قبل "سرايا القدس"، الجناح العسكري لحركة الجهاد، حيث لم تشارك "كتائب القسام" نهائياً في عملية الرد بإطلاق القذائف الصاروخية من قطاع غزة نحو إسرائيل، واقتصرت المشاركة بشكل رئيس على سرايا القدس، مع مشاركة رمزية من قبل مجموعات مسلحة تابعة لحركة فتح والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية، واستمر ذلك حتى سريان وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة الجهاد، في 7 أغسطس 2022؛ ناهيك عما يُمكن مُلاحظته من تحركات وتصريحات لإسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، التي حاول من خلالها الظهور "كرجل دولة" يسعى لحشد الجهود السياسية والدبلوماسية من أجل وقف التصعيد، وإدانة الاعتداءات الإسرائيلية.
حماس من "المقاومة" إلى السلطة
من أجل تقدير موقف حماس من التصعيد بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي، والأسباب وراء عدم تدخلها عسكرياً، من المهم الانطلاق ابتداءً من المحددات التي تؤثر على سياسات حماس بشكل عام، وفي قطاع غزة بشكل خاص، فحركة حماس، المعروفة بسياساتها البراغماتية، تحولت إلى "سلطة سياسية" تحكم القطاع، وهذا التحول يزداد رسوخاً يوم بعد يوم في ضوء استبعاد إنهاء الانقسام الفلسطيني الداخلي والعودة إلى ما قبل عام 2007، لكنه تحول جاء، ولا يزال يتفاعل في سياق جملة من الأحداث المضطربة وحالة عدم الاستقرار على مستوى الأوضاع الداخلية في غزة، خاصة الاقتصادية منها، كما في العلاقات مع السلطة الفلسطينية في رام الله وإسرائيل، بالإضافة إلى تعقيد حالة تحالفات حماس وعلاقاتها العربية والإقليمية، وهو ما يزيد من تحديات حماس في سعيها لتثبيت سلطتها السياسية في غزة، وسعيها للعب دور عربي وإقليمي مؤثر.
كل ذلك ظهر في السلوك السياسي لإسماعيل هنية خلال أيام التصعيد بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي، وهو سلوك لا يكاد يختلف عن سلوك قيادة السلطة الفلسطينية في رام الله، حيث لعب هنية دور "رجل الدولة" السياسي رغم أنه رئيس المكتب السياسي لحركة "مقاومة" مسلحة.
ومن مؤشرات ذلك:
- تصريحات هنية التي أدانت اغتيال إسرائيل للجعبري، والتي قال فيها: "أجريت اتصالات على مستويات إقليمية وأممية، إنّ الاحتلال وحده يتحمل تداعيات عدوانه على قطاع غزة"، وتأكيده "أنه يتابع جهود وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة".
- تلقّي هنية اتصالًا هاتفيًا من منسق الأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط تور وينسلاند، حيث "جرى بحث التطورات السياسية والميدانية الأخيرة، والاعتقالات التي يقوم بها الاحتلال، وعمليات الاقتحام والاعتقال والاستيطان في الضفة المحتلة، وإغلاق المعابر في غزة. وتأكيد هنية على ضرورة وقف الاحتلال لكل اعتداءاته على الشعب الفلسطيني والتوقف عن سياسة الاستيطان واقتحام المسجد الأقصى المبارك، معتبرًا أن هذه الإجراءات من شأنها التضييق على الشعب الفلسطيني، وتؤدي إلى تردي الحالة الإنسانية في الضفة والقطاع" كما جاء في موقع حركة حماس الرسمي.
- الاتصال الهاتفي بين هنية وميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي المبعوث الخاص للرئيس الروسي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث "بحثا العدوان الصهيوني على قطاع غزة وضرورة وقفه بشكل فوري، والاعتداءات المتواصلة بحق المسجد الأقصى المبارك، واستعراض هنية للجرائم التي يقوم بها الاحتلال ضد المواطنين الفلسطينيين، سواء الاغتيالات أو قتل الأطفال، مؤكداً صمود الشعب الفلسطيني وتمسكه بحقوقه الوطنية" حسبما جاء في وكالة "شهاب" الإخبارية القريبة من حماس.
- تأكيد هنية في اتصال هاتفي مع وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، أن "جرائم الاحتلال ضد غزة تعبير عن نيات يضمرها بمبررات واهية، وتشديده على ضرورة وقف العدوان الإسرائيلي ورفع اليد الآثمة عن القطاع" حسب بيان لحركة حماس.
الأسباب المباشرة
بالاتكاء على ما سبق يمكن قراءة الأسباب المباشرة لموقف حماس من التصعيد بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي، والأسباب وراء عدم تدخلها عسكرياً، وهي دوافع لا تحتاج حماس لتلقي رسالة مباشرة من قبل إسرائيل أو أطراف عربية وإقليمية ودولية من أجل التوقف عندها، رغم عدم استبعاد إرسال تلك الرسائل من قبل تلك الأطراف لحماس.
وهنا يمكن الإشارة إلى الأسباب المباشرة التالية:
أولاً: عدم قدرة حماس على تحمّل ضربات إسرائيلية شديدة تستهدف قطاع غزة بشكل عام، وبنيتها التحتية وقادتها السياسيين والعسكريين بشكل خاص، ومجرد قيام إسرائيل باغتيال تيسير الجعبري يحمل في طياته رسالة لحماس، مفادها أنّ قادتها ليسوا بمنأى عن ذلك المصير إن هي قررت التدخل العسكري في الأحداث.
ثانياً: صعوبة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في قطاع غزة، وهو ما استطاعت حماس تحقيق انفراجات جزئية فيه من خلال موافقة إسرائيل على منح الآف العمال من غزة لتصاريح عمل في إسرائيل، ووعدها بزيادة العدد في الأشهر القادمة، وهو الأمر الذي انعكس، نسبياً، على الحياة الاجتماعية للمواطنين الفلسطينيين في القطاع، لدرجة ملاحظة بعض المراقبين ازدياد نسبة "الأضاحي" بشكل غير مسبوق خلال عيد الأضحى لهذا العام، ويكفي تهديد إسرائيل لحماس بوقف تصاريح العمل لتفكر جيداً قبل اتخاذ قرار بالتدخل العسكري في الأحداث.
ثالثاً: ملفات المنحة المالية القطرية واللجنة القطرية لإعادة إعمار قطاع غزة، وهي ملفات تساهم بشكل رئيس في حل مشكلة الرواتب لدى الموظفين الحكوميين "المدنيين والعسكريين" في قطاع غزة، كما تساهم في النشاط الاقتصادي وبالتخفيف من أعباء مسؤولية حماس عن الأسر الفقيرة والحالات الاجتماعية، ويكفي في هذا السياق رسالة من إسرائيل أو من قطر لحماس بتجميد تلك الملفات أو إعاقتها حتى تقوم حماس باتخاذ موقف بعدم التدخل العسكري في الأحداث.
رابعاً: ملف صفقة "تبادل الأسرى" الذي يشكّل نقطة قوة كبيرة لحماس على المستويات السياسية والشعبية والتنظيمية، وهو ملف تتم إدارته بالتنسيق مع المخابرات العامة المصرية، ويكفي توجيه رسالة مباشرة من القادة الأمنيين المصريين لحماس، أو غير مباشرة من إسرائيل بتأجيل المفاوضات حول ذلك الملف، أو تشديد الشروط الإسرائيلية لإنجازه حتى تتريث حماس كثيراً قبل اتخاذ قرار بالتدخل العسكري في الأحداث.
خامساً: وجود مصلحة ضمنية لحماس في لجم حركة الجهاد الإسلامي والحد من تأثيرها المتصاعد في قطاع غزة والضفة الغربية، فحركة الجهاد هي المنافس الأقوى لحماس سياسياً وعسكرياً، وكلاهما تستهدفان ذات الجمهور بذات الخطاب، وقيام إسرائيل بتوجيه ضربات قوية لحركة الجهاد تساهم في إضعافها من ناحية، وفي تعزيز سيطرة حماس على نشاطات حركة الجهاد العسكرية وضبطها لتلك النشاطات من ناحية ثانية في المستقبل.
سادساً: سعي حماس لتعزيز مكانتها السياسية العربية والإقليمية والدولية من خلال إثبات قدرتها على ضبط الأوضاع الأمنية في قطاع غزة، رغم حساسية الموضوع لدى المزاج الشعبي الانفعالي، وهذا السعي تم إثباته على أرض الواقع خلال أيام المواجهة ما بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي رغم الكثير من الانتقادات الانفعالية لموقف حماس.
سابعاً: احتمال تلقّي رسائل من جهات دولية "أمريكية وأوروبية" تحذر حماس من التدخل العسكري، انطلاقاً من حقيقة ارتباط حركة الجهاد بإيران وضرورة ابتعاد حماس عن الاصطفاف مع المحور الإيراني في المنطقة، وربما يؤيد ذلك جملة المواقف الغربية "الأمريكية والأوروبية" التي سارعت في الوقوف إلى جانب إسرائيل في حربها ضد الجهاد واغتيالها للجعبري، وهو الاغتيال الذي جاء بعد فترة وجيزة من إعلان الولايات المتحدة الأمريكية نجاحها في اغتيال زعيم تنظيم "القاعدة" أيمن الظواهري.
خاتمة
في حسابات حركة حماس السياسية تخضع المواقف لنوع من الموازنة البراغماتية ما بين السلبيات والإيجابيات، ولا تخضع لمقاييس المبادئ والمثل والشعارات المرفوعة، وهذا ليس غريباً على حركة هي امتداد لجماعة الإخوان المسلمين فكراً وممارسة، وهي الجماعة المؤسسة لفقه "الأولويات" وفقه "الموازنات" وفقه "الواقع" وغيرها من أنواع الفقه البراغماتي.
وفي موازين الربح والخسارة السياسيين تبدو مكاسب حماس أكثر من خسائرها، في حين تنقلب الصورة تماماً في حالة قررت حماس المشاركة العسكرية، وهذا الأمر قد يؤسس لمرحلة جديدة في مشروع حماس السياسي، عنوانها الاستعداد للانخراط في اللعبة السياسية بوصفها لاعباً رئيساً غادر بشكل جدي مربعات المقاومة أو "الإرهاب"، بل هو جاهز للمضي أبعد من ذلك، من خلال المساهمة الصريحة أو الضمنية، في ضبط الجماعات المسلحة وردود أفعالها حتى في حال تعرضها لاعتداءات مباشرة من جانب إسرائيل.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: