أثناء حملته الانتخابية، وبعد أن أصبح الرئيس المنتخب؛ يستمر بايدن في التركيز على وعوده بإعادة الولايات المتحدة إلى قيادة العالم، وتأهيل تحالفاتها في العالم من الشرق الأوسط إلى أمريكا اللاتينية وآسيا وأوروبا على وجه التحديد.
وبالنسبة للكثيرين، لا يجلب بايدن للبيت الأبيض الخبرة في السياسة الخارجية فقط، بل أيضاً الرؤية التقليدية للنظام العالمي ما بعد الحرب العالمية الثانية، المرتكزة على المؤسسات الدولية والقيم الليبرالية، وذلك يبعث بالاطمئنان للكثيرين من القادة الذين عانوا مؤخراً من عدم القدرة على التنبؤ بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة إلى الحد الذي دفع مراقبين للإشارة إلى حقيقة ترجُّل تلك البلاد عن قيادة العالم وانكفائها عن المسرح العالمي في سياق سياسة ترامب "أمريكا أولاً".
ولن يكون الحديث في هذه المادة عن الأربع سنوات السابقة والقلق والحيرة اتجاه مستقبل تحالفات الولايات المتحدة ومدى دورها في المؤسسات والمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية وحلف شمال الأطلسي "الناتو" وغيرها، بل سيكون عن الأبعاد الرئيسية في السنوات الأربع القادمة. وبالرغم من أن طموحات بايدن في تصحيح المسار الأمريكي واضحة للعيان، لا ينفي ذلك جملة من التحديات الداخلية والخارجية ليس فقط في سياق العلاقات والتحالفات وإنما في شكل النظام العالمي ككل.
قد تكون أوروبا منقسمة حول بايدن
في الوقت الذي ينتظر فيه العالم من بايدن الكثير لتقديمه؛ قد لا تعكس مظاهر التهنئة والبهجة التي أعقبت الإعلان عن فوزه الكثيرَ من الآراء والتصورات في الأروقة المغلقة، باستثناء بعض أجزاء من أوروبا ونظرائها من النظم الليبرالية الديمقراطية، إذ شعر العديد من قادة أوروبا بالارتياح نتيجة لفوزه، باعتباره رئيساً متمرساً في الحوار والدبلوماسية بثوابتها الأطلسية، ويتطلع هؤلاء إلى إعادة ترميم العلاقات التي تأثرت بشدة خلال إدارة ترامب، وهم يستقبلون خطاب بايدن بأهمية التعددية والحلفاء والمعاهدات مثل اتفاق باريس للمناخ والاتفاق النووي الإيراني، ومع ذلك؛ فمن المنطقي التساؤل: هل ما زالت أوروبا الشريكَ المطلوب للولايات المتحدة؟
من المؤكد أن أوروبا تجتمع على وجوب بقاء الولايات المتحدة قوية لكونها الضامن والحامي للنظام العالمي الذي أسسه الغرب، ولذلك ترى في فوز بايدن بداية للتعافي ولتصحيح ما فُقد خلال السنوات الماضية، لكن أوروبا ليست ذاتها اليوم. وفي المقابل قد يُغير بايدن من الخطاب اتجاهها لكن السياسة لن تتغير كثيراً، فمطالب ترامب "الفظة"، ستبقى حاضرة؛ إذ إن هناك إجماع في الولايات المتحدة على ضرورة زيادة مساهمة أوروبا في حلف الناتو، ولن يتغير موقف بايدن من الحرب التجارية بين شركتي بوينج وإيرباص، كما يتفق مع مخاوف ترامب من ولوج شركات التكنولوجيا الصينية إلى أوروبا، إضافة إلى مشروع خط أنابيب "نورد ستريم 2" بين روسيا وألمانيا.
من جهة أخرى، تعلم أوروبا أن فوز بايدن لا يعني إغفال العدد القياسي من الأصوات التي حصل عليها ترامب. ودلالة ذلك أن نهج "أمريكا أولاً" سيستمر في واشنطن لسنوات عديدة في المستقبل. وإن التعافي الذي تريده أوروبا للقوة الأمريكية يجب أن يبدأ من الداخل الأمريكي من خلال إنعاش الاقتصاد وخلق الوظائف وتخفيف حدة الاستقطاب السياسي، وتحقيق ذلك قد لا يتم دون الاستمرار في اتباع سياسة خارجية أقل مشاركة ونظام مالي أكثر قيوداً.
في المقابل، ليس واضحاً ماذا سيعني وجود رئيس أمريكي من اليسار الوسطي؛ تضغط عليه قاعدة انتخابية عريضة من اليسار التقدمي بالنسبة للنمو المفرط للأحزاب اليمينية التي كان ترامب يشكل مصدر إلهام لها، ناهيك عن أن ممثيلها يحكمون في دول أوروبية كبيرة مثل بريطانيا وإيطاليا وحتى قادة اليسار باتوا يستعطفون هذه الشرائح لغايات انتخابية. وفي هذا السياق لا يُخفي بايدن امتعاضه لليمين حين وصف رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، بأنه "استنساخ جسدي وعاطفي لترامب".
العالم اكتفى من القيم الليبرالية
يعتقد الكثير من المحللين أن يعيد بايدن رسم المشهد الإقليمي في الشرق الأوسط وشرق آسيا كلاً وفقاً لسياقه. بمعنى آخر، بالنسبة للشرق الأوسط يركز هؤلاء على إعادة الاتفاق النووي الإيراني وهي السياسة التي شكَّلت ملامح الإقليم إبان إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، وأعادت تشكيله لاحقاً بعد انسحاب ترامب منه، فهذا الاتفاق في الواقع ليس مجرد تفاهمات دولية حول القضية النووية الإيرانية فحسب، بل هو أداة تُدار من خلالها توازنات القوى وتفضيلاتها في منطقة الشرق الأوسط.
بينما في شرق آسيا، قد تكون سياسة بايدن أكثر وضوحاً، فهو يميل إلى التعددية والتحالفات، وهذا يدل على أنه سيواجه النمو الصيني من خلال تفعيل آلية عمل متعددة الأطراف، وقد يسعى لاحتواء الصين من خلال العمل بشكل أفضل مع الحلفاء؛ مثل: اليابان، وأستراليا، وكوريا الجنوبية، والهند.
ولكن بينما يشدد بايدن على أهمية التحالفات والتعددية من أجل استعادة الولايات المتحدة لدورها، سيرغب الكثير من قادة العالم في معرفة أي من المتطلبات قد تتناسب وإدارة بايدن لتحقيق صفة الحليف؟
يوضح الخطاب العام لبايدن ميله إلى الأصول التقليدية للقيم الأمريكية، المرتكزة على الديمقراطية والإعلاء من شأن حقوق الإنسان، وذلك يُبرز قضية قد تكون محط ترقب لدى الكثير من قادة دول العالم سواء أكانوا من الحلفاء أم من المنافسين، وهي التزام بايدن بإعادة الديمقراطية إلى مركز السياسة الخارجية للولايات المتحدة، إذ وعد بعقد قمة للدول الديمقراطية بعد تعيينه كرئيس للبلاد، من أجل توحيدها في مواجهة الاستبداد المتصاعد عبر العالم.
وبالنسبة للشرق الأوسط، فمن المتوقع أن نشهد عودة التوتر بين قادة الدول في هذه المنطقة وبين بايدن، حيث ينظر الكثيرون إلى أن هذا الخطاب الغربي كان سبباً في الاضطرابات التي شهدتها المنطقة وما زالت تشهدها بعد أحداث ما عُرف بــ "الربيع العربي"، وحتى قبل ذلك من خلال المخططات الأمريكية بتغيير المشهد في الشرق الأوسط والتي على أثرها تدخلت الولايات المتحدة في العراق عام 2003، وغيرت موازين القوى فيها.
وفي حين أن بايدن من المحتمل أن يستمر في اتباع سياسة ترامب بالانكفاء الجزئي وعدم التدخل المباشر في نزاعات وصراعات المنطقة، حيث سئم الشعب الأمريكي من التدخلات الأمريكية المتكررة في أفغانستان والعراق وحتى التواجد المحدود في سوريا، قد ترتكز توجهاته على الدعوات ذات الصلة بحقوق الإنسان والديمقراطية.
وفي الوقت الذي يتنبأ فيه الكثيرون بأن العلاقات الأمريكية ستسوء مع العديد من شركائها في الشرق الأوسط نتيجة لهذا الخطاب، من المتوقع أن يكون هناك رابحون أيضاً، فقد تتخلص هذه الدول من الضغوطات التي كان يمارسها ترامب لوقف وتحجيم تعاملاتها مع الدول المنافسة كالصين وروسيا، والتي لجأت إليها في الأساس لخلوّ شراكاتها من المتطلبات. ولذلك، فمن المتوقع أن تزيد هذه الدول من توجهها نحو الشرق والابتعاد أكثر عن الغرب.
لكن هذا الخطاب لن يؤثر فقط على الحلفاء، بل وعلى الدول المنافسة أيضاً مثل الصين وروسيا، وحيث تجسَّد التنافس الأمريكي الصيني في ظل إدارة ترامب بما عُرف بـالحرب التجارية، والتي من المتوقع أن تستمر أيضاً في ظل إدارة بايدن، إلا أن التوتر المضاف سيكون بشأن حقوق الإنسان، حيث من المتوقع أن يضاعف بايدن الضغط على الصين في مجالات حقوق الإنسان بشكل أكثر صرامة منها في إدارة ترامب التي لم تشدد كثيراً على دعم هذه الحقوق. وهذه الاستراتيجية روًّج لها بايدن إبان حملته الانتخابية، ناهيك عن وصفه للرئيس الصيني بــ "السفّاح"، بسبب سياسته تجاه الأقلية المسلمة الأويغور، فضلاً عن موقفه المماثل من ملف هونغ كونغ شديد الحساسية بالنسبة للصين.
قد يشكل النهج القائم على الديمقراطية وحقوق الإنسان قلقاً بالغاً للقيادة الصينية إذ إن الحرب التجارية كان يتخللها المفاوضات والقدرة على الردع لامتلاكها الأدوات والقوة الاقتصادية، بيد أن تشكيل جبهة ديمقراطية في مواجهة الصين سيقلل من فرصها للولوج إلى النظام العالمي؛ حيث إن مشاركتها في هذا النظام ستكون مقترنة بالامتثال لقواعده.
لن يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لروسيا، فقد وصفها بايدن في خطابه الأخير كنائب للرئيس عام 2017، بأنها "أكبر تهديد للنظام الدولي"، والآن كرئيس فإن وعوده بالعودة إلى سياسة خارجية قائمة على الدعوات الديمقراطية تثير قلق موسكو التي لطالما تخوفت من المد الديمقراطي في الثورات الملونة والانتفاضات الشعبية منذ التسعينيات وصولاً إلى الثورة الأوكرانية عام 2014، والمظاهرات في بيلاروسيا اليوم، وهنا ينبغي أن ننظر إلى الكيفية التي سيدير فيها بايدن سياساته اتجاه المظاهرات المستمرة في موسكو والتي تزايدت بشكل ملحوظ في العام 2019، وموقفه من الاتهامات إزاء التعرض للمعارضة الروسية وآخرها كان تسمم المعارض الروسي البارز، أليكسي نافالني.
الخاتمة
تنظر أوروبا بأمل نحو توجه بايدن بالنسبة للعلاقات عبر الأطلسي، لكن يعي الجميع التحديات التي تواجه مثل هذه العلاقات. ومن المتوقع أن تترسخ بشكل أعمق لمواجهة الصعود الروسي والصيني من الناحية الأيديولوجية، لكنها قد تصطدم بالعديد من العراقيل المتعلقة بالملفات الأخرى كالتجارة والتكنولوجيا الصينية وخط الأنابيب "نورد ستريم 2". وفي غضون ذلك؛ لم تعد الولايات المتحدة في موقع يتيح لها الدفاع عن أوروبا والإبقاء على مساهمتها الكبيرة في حلف الناتو للضغط نحو مساهمة أوروبية أكبر، وإذا كان التغيير في إطار الدفاع الخطابي عن القيم الليبرالية والنظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية يطفو على السطح، فإن الخلافات والصدوع ستبقى على حالها في عمق هذه العلاقة.
من جهة أخرى، لن يكون لدى بايدن الكثير من التغييرات التي يمكن اعتبارها نهجاً جديداً قادماً للسياسة الخارجية الأمريكية. وعلى عكس ذلك؛ فإنه يسعى إلى العودة للنهج التقليدي، الذي لأجله أعلنت دول مثل الصين وروسيا علانيةً نقدها وامتعاضها منه. ومن جهة أخرى، لن يعد لواشنطن الكثير لتقدمه لدول العالم وهنا سيكون على بايدن توضيح الآلية التي ستمتثل من خلالها دول العالم لتوجهاته. ونقيض ذلك؛ هو مزيد من الابتعاد من قبل الحلفاء، الذين سيعززون من اعتمادهم وعلاقاتهم مع الصين وروسيا.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: