انعقد مؤتمر ميونخ للأمن في الفترة (16-18) فبراير 2024، بمشاركة حوالي خمسين من قادة العالم، والخبراء وممثلي المنظمات الدولية. وترافق المؤتمر بالذكرى الستين لتأسيسه، مع مستويات عالية من الضبابية بشأن مستقبل النظام الدولي، ومصير الهيمنة الغربية التي يُجسدها المؤتمر، فقد سيطرت قضايا الحروب والصراعات على مناقشاته، لا سيما التطورات التي تشهدها الحرب الأوكرانية، بعد سيطرة الجيش الروسي على مدينة أفدييفكا الاستراتيجية في إقليم دونباس، والتعظيم الغربي للمخاوف من التهديدات الروسية المتوقعة على أراضي حلف الناتو، إلى جانب التحديات المرتبطة بالحرب في قطاع غزة، والتصعيد في الساحات المساندة وخاصة في البحر الأحمر، بالإضافة إلى التغيرات التي تشهدها القارة الأفريقية، بعد سلسلة من الانقلابات التي كان آخرها في الغابون، والتصعيد المتزايد في بحر الصين الجنوبي، وجميع تلك القضايا يُجسدها عنوان المؤتمر (خسارة الجميع)، في اعتراف صريح للمرة الأولى من بأن الصراع الدولي يتحول إلى "الصفري".
الغرب القلِق
تعكس مداولات مؤتمر ميونخ، القضايا المحورية التي تؤرق العالم الغربي وتشغله، بالرغم من أنه يعتبر حدثاً وتجمعاً عالمياً، لكنه يتكلم نيابة عن الذهنية الأوروبية، والكيفية التي تنظر بها إلى العالم، ويُمكن ملاحظة ذلك، عند مقارنة أجواء المؤتمر لهذه السنة مع السنوات السابقة، ففي العام الماضي، عكس عنوان المؤتمر "لم شمل الأسرة الغربية"، الموقف الغربي المُوحد من الحرب الروسية-الأوكرانية، ومن الصعود الصيني، وكان ذلك التوحد بمثابة الفُرصة لاستعادة العلاقات عبر الأطلسي، والحفاظ على مكانتها وهيمنتها على النظام الدولي القائم، في إطار رؤيتها للصراع الدولي بين معسكرين ديمقراطي وآخر استبدادي.
لكن؛ تلك العزيمة الغربية جاءت بنتائج مُقلقة للغاية، فرغم الدعم الغربي المالي والاقتصادي واللوجستي والعسكري لأوكرانيا، جاء الهجوم المضاد للجيش الأوكراني بنتائج "محبطة"، خاصة بعد الرهان الغربي عليه بهزيمة روسيا أو تراجعها وإحراج قيادتها، بل إن انعقاد المؤتمر تزامن مع الأنباء الواردة من روسيا، بسيطرة الجيش الروسي على مدينة أفدييفكا الاستراتيجية وشديدة التحصين، وبوفاة المعارض الروسي أليكسي نافالني في سجنه، والخوف من سيطرة الجيش الروسي على بقية مدن دونباس توالياً، لا سيما هدفها القادم في مدينة سوليدار، ما يعني إحكام القوات الروسية على جنوب وشرق أوكرانيا.
وتدخل الحرب عامها الثالث، وسط تراجع الدعم والمساعدات الغربية لأوكرانيا، نتيجة لتعثر الهجوم المضاد، وعدم ثبات الدعم الغربي، حيث يعرقل الكونجرس الأمريكي مساعدات إلى أوكرانيا بقيمة 60 مليار دولار، في وقت تتآكل فيه شعبية الدعم المقدم. وتزايد انعكاسات الحرب على الأوضاع الاقتصادية في أوروبا، التي تشهد احتجاجات واسعة النطاق يقودها المزارعون في معظم مدن أوروبا الكُبرى.
كل ذلك يتزامن مع توجه الأوروبيين لزيادة الانفاق على الأمن والدفاع، إذ يُرجح أن تنفق 18 دولة من أصل 31 في حلف الناتو، 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع خلال العام 2024، في المقابل سترفع روسيا إنفاقها العسكري إلى حوالي 6% من ناتجها المحلي الإجمالي.
وللمرة الأولى في تاريخه؛ يُناقش المؤتمر فكرة نجاح روسيا في أوكرانيا، ومحاولتها استعادة نفوذها التاريخي في أوروبا، لا سيما في أراضي حلف شمال الأطلسي (الناتو) وخاصة دول بحر البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا)، وفي 9 فبراير، حذر وزير الدفاع الدنماركي ترويلز لوند بولسن من أن روسيا قد تهاجم الناتو خلال فترة تتراوح من (3-5) سنوات. وفي سياق متصل تم ابلاغ أعضاء مجلس النواب الأمريكي في 14 فبراير بمعلومات تتعلق بروسيا تُشكل تهديداً خطيراً على الأمن القومي الأمريكي.
عالم من الأزمات
شكلت الحرب في قطاع غزة، وتداعياتها الإقليمية لا سيما في بيئة البحر الأحمر والتصعيد في لبنان، أحداثاً هامة في مداولات المؤتمر ونقاشاته، وأظهرت الفجوة في مقاربات المجتمع الدولي لحل الصراعات، لا سيما بين دول الشمال والتي تمثلها الكتلة الغربية ودول الجنوب التي تصف الدول النامية. فبينما يعتبر مؤتمر ميونخ منصة عالمية لتبادل الأفكار والمواقف والنقاشات في المجال الأمني حول العالم. وخلال ستين عاماً حاول القائمون عليه أن يعكسوا التزامهم الثابت بتصدير فكرة مفادها؛ أنهم قادرون على تعزيز الأمن من خلال مشاركة العقول اللامعة في جميع أنحاء العالم؛ الذين يجتمعون من أجل التصدي للتحديات الأمنية الأكثر إلحاحًا في عصرنا. وبالرغم من أجواء المؤتمر التي توحي بأنها احتفالية بالجهود الدؤوبة لأولئك الذين يكرسون جهودهم لحماية عالمنا، من خلال قوة العمل المجتمعي والجماعي في التصدي للتهديدات دائمة التطور. إلا أن قضايا الشرق الأوسط تناقش من زاوية واحدة ووجهة منفردة، وأحكام مسبقة بالرغم من عدد الضحايا والمتأثرين؛ وذلك لأن الصراعات العالمية لها ترتيب طبقي؛ فلا تصلح أن تكون بذات الأهمية والاهتمام.
ينطبق ذلك على الحرب في غزة، حيث الموقف الغربي الداعم لإسرائيل، لا يأخذ بعين الاعتبار ما يترتب عن الحرب من تداعيات إنسانية غير مسبوقة، وقد تدخل ألمانيا إلى جانب إسرائيل كطرف ثالث في القضية المرفوعة ضدها في محكمة العدل الدولية. وحتى أن نقاشات ما يُفضى عن الحرب من تداعيات إقليمية ودولية ركزت على انعكاساتها على المصالح الغربية، ففي ديسمبر 2024 أطلقت الولايات المتحدة تحالف "حارس الازدهار" لحماية الملاحة في البحر الأحمر، وفي فبراير 2024، أطلق الاتحاد الأوروبي خطة "أسبيدس" وهي مهمة بحرية للتصدي إلى هجمات الحوثيين ضد السفن التجارية في البحر الأحمر.
ولا تقتصر السياسات الغربية الأحادية على الشرق الأوسط أو الموقف من الحرب في غزة فقط، بل تمتد إلى أقاليم أخرى من العالم، إذ لطالما ركزت الدول الغربية على مصالحها في القارة الأفريقية، دون الاهتمام بالأبعاد الاجتماعية والاقتصادية لدولها. وقد شكل ذلك أحد أسباب انحسار التجربة الديمقراطية في أفريقيا، حيث تتعرض مناطق نفوذها التقليدية في الساحل والصحراء الأفريقية لتغيرات جوهرية، ففي السنوات الثلاث الماضية، حدثت 8 انقلابات كان آخرها في الغابون، ومن قبل في النيجر وبوركينا فاسو وغينيا وتشاد ومالي، والعديد من القادة الوافدين من العسكريين المناوئين للنفوذ الأوروبي وتحديداً الفرنسي، وكذلك من المعارضين لمطالب الغرب تطبيق المبادئ والممارسات الديمقراطية. وذلك لا يدفع المنطقة لإحلال النفوذ الروسي بديلاً عن الأوروبي فحسب، بل يُفاقم من مشكلات الهجرة غير النظامية واللجوء نحو أوروبا، ففي العام 2022، ارتفع عدد المهاجرين غير الشرعيين عبر البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا لنحو 56% مقارنة بالعام 2021. وقد استدرك القائمون على مؤتمر ميونخ هذه الإشكالية، وجاء في تقرير المؤتمر دعوة لاعتماد رؤية شاملة لإرساء الاستقرار في أفريقيا، تشتمل على العوامل السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، بدلاً من تغليب الحلول الأمنية فقط. لكن هذه الخطوة قد تكون متأخرة نظراً للتغيرات العميقة في القارة الأفريقية.
"خسارة الجميع"
حددت الدول الغربية وعلى مدار سنوات سابقة، كل من روسيا والصين، باعتبارهما التهديد المُباشر الذي يطال أركان النظام العالمي، وبينما يتزايد التخوف من نتائج الحرب الروسية في أوكرانيا، وتداعياتها الجيوسياسية على القارة الأوروبية، فإن العلاقة مع الصين تشهد هي الأخرى مرحلة شديدة الحساسية، من جهة حاجة الدول الأوروبية لتنويع شراكاتها واستثماراتها، وأهمية السوق الصينية للشركات الأوروبية، لكن من جهة أخرى تشتد المنافسة في المحيطين الهندي والهادئ، وتحديداً في بحر الصين الجنوبي بين الولايات المتحدة والصين، وبدأ الصراع بتسارع التسلح يأخذ طابعاً صفرياً، مع سعي الصين للهيمنة المنفردة على البحر، وتحويل المنطقة إلى ساحة نفوذ حصرية لها، وإصرار الولايات المتحدة على تنويع علاقاتها مع دول شرق آسيا وتقليل اعتمادها الاقتصادي على الصين، وتمكينها في أدوار أمنية وفق سياسات وشراكات متعددة الأطراف مع الهند واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وغيرها.
مع ذلك؛ جاء تقرير ميونخ هذه المرة واضحاً في الإشارة أن التنافس بين القوى العُظمى، يعني أن الجميع سيخسر. لكن مفهوم الخسارة هنا يتعلق بالمقصد الغربي منه، خاصة في تراجع نفوذها في أقاليم عدة من العالم. فمن وجهة نظر دول الجنوب، ليس من المفترض أن يكون تنافس ليكون فيه خاسرين، وإنما تحاول الدول الغربية فرض هيمنتها على العالم بقوة السلاح والعقوبات، وتتجاهل اتجاهات التنمية العالمية التي بدأت تميل بعيداً عن الغرب، حيث تشهد دول في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا طفرات على مختلف المستويات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية مثل الهند والصين والبرازيل وروسيا وإندونيسيا وتركيا وغيرهم، في الوقت الذي لا تزال الدول الغربية تُفضل اعتبار من دونهم أطرافاً في النظام الدولي وليسوا شركاء. ويُمكن فهم التحول الحاصل في دول الجنوب، في الدعوات المتصاعدة من أجل معالجة هيمنة الأقلية على القرارات الدولية، من خلال المؤسسات والهيئات الأممية، مثل مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، وتعزيز أدوار هذه الدول التي باتت تسير نحو صنع مكانة لنفسها في المجتمع الدولي.
وبالتالي؛ فإن مفهوم "الخسارة" الذي تبناه المؤتمر، يعبر عن النتائج وليست الأسباب، فقد جاء صعود الجنوب نتيجة للسياسات طويلة الأمد من اتباع سياسات الهيمنة على الدول، والاستحواذ على مواردها، لصالح الحفاظ على حالة الرفاه في دول الشمال، وقد عبر عن هذا النهج مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، في أكتوبر 2022، عندما وصف أوروبا بـالحديقة ومعظم العالم بأنه غابة، قبل التراجع والاعتذار عن تلك التصريحات، وفي الواقع تلك النظرة تعبر عن ثقافة المركزية الأوروبية التي حكمت علاقتها بالعالم لقرون.
وأخيراً؛ قد يكون مؤتمر ميونخ للأمن في نسخته الستين بداية "صحوة" غربية نتجت عن الفجوة بين مواقف دول الشمال ودول الجنوب من معظم القضايا الحاضرة في مداولات المؤتمر، لكنها تعتبر "صحوة متأخرة" بحكم تسارع التحولات التي تعجز دول الشمال عن اتخاذ مواقف جادة بشأنها، وهي تحولات في مجملها موضوعية.
*يُعبر هذا المحتوى عن وجهة نظر كاتبه، ولا يتحمل معهد ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبه بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا يعكس المحتوى بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المعهد.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: