في الوقت الذي تشهد فيه إيران تصاعداً في الاحتجاجات المناهضة للنظام، يأتي الحديث عن طبيعة الدور الإيراني في العراق في ضوء الوضع السياسي الراهن، لتُثار العديد من التساؤلات حول طبيعة هذا الدور وتأثيراته، وعليه يحاول هذا التحليل تسليط الضوء على طبيعة الاستراتيجيات الإيرانية وأولوياتها، والطريقة التي تدير بها الصراع الشيعي - الشيعي، والكيفية التي تنظر بها لعملية تشكيل الحكومة الجديدة، وانعكاس ذلك بالمجمل على مستقبل دورها في العراق.
النهج الإيراني الجديد في العراق
أظهرت مرحلة ما بعد اغتيال قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني، بمحيط مطار بغداد الدولي في يناير 2020، حالة خلل كبيرة تعرض لها الدور الإيراني في العراق، وتمثلت أبرز ملامح هذا الخلل في تعثر قائد فيلق القدس الجديد إسماعيل قاآني في ملء فراغ سليماني، فضلاً عن متغيرات داخلية وخارجية عقَّدت بدورها من فعالية الدور الإيراني في العراق، أبرزها الضغوط الأمريكية والاحتجاجات الشعبية، إذ حاولت إيران تجاوز هذا الخلل عبر إجراء إعادة هندسة لأدوارها في العراق، بدءً من سيطرة التيار المحافظ على الساحة الداخلية، ومن ثم الوصول إلى الانتخابات الرئاسية في يونيو 2021، والتي أفرزت بدورها فوز مرشح التيار المحافظ إبراهيم رئيسي بها.
أرسى وصول رئيسي تحولاً جديداً بالدور الإيراني في العراق، إذ أن اكتمال سيطرة المحافظين – الثوريين - على كل المؤسسات السياسية والأمنية في إيران، خلق حالة وحدة وتكامل في الأهداف الإيرانية بالعراق، بشكل أفضى إلى إعادة تموضع إيراني جديدة في الساحة العراقية، يختلف عما كان عليه خلال فترة الرئيس السابق حسن روحاني، حيث تعددت الجهات والخطابات والوسائل الإيرانية في العراق، ويمكن القول إن ملامح النهج الإيراني الجديد تمثلت في أربع مستويات رئيسة هي:
أولاً: على مستوى الخطاب السياسي الإيراني
أدى وصول رئيسي إلى خلق وحدة في الخطاب السياسي الإيراني الموجه للعراق، وهي أحد أبرز الأسباب التي تقف وراء اختيار رئيسي من قبل التيار المحافظ والحرس الثوري، بدعم وتأييد من المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، في محاولة لإنهاء الخلافات التي ظهرت خلال فترة روحاني، وتحديداً بين مؤسسة الرئاسة والحرس الثوري حول الدور الإقليمي الإيراني بصورة عامة، وفي العراق بشكل خاص، بالشكل الذي جعل الساحة العراقية أمام سياسة وخطاب إيراني واحد، وليس أمام عدة سياسات وخطابات مُتباينة ومُتداخلة.
ثانياً: على مستوى دور فيلق القدس
قامت استراتيجية فيلق القدس في العراق، وتحديداً في مرحلة ما بعد اغتيال سليماني، على إحداث عملية استمرارية وتغيير في طريقة عملها، من أجل تعضيد نفوذها في العراق، في مواجهة تأثير ونفوذ جهات إيرانية أخرى، أبرزها الاطلاعات (وزارة الاستخبارات والأمن الوطني) ووزارة الخارجية، حيث تسيطر هذه الجهات على مساحات نفوذ متعددة داخل العراق، وهذا التداخل الإيراني في العراق عقَّد كثيراً من دور هذه القوة وفعاليتها، إلا إنه مع وصول رئيسي تم إعادة دور هذه القوة وتحكُّمها في مسار الواقع العراقي، بعيداً عن تأثيرات الجهات الأخرى، والتحكم بأنساق التهدئة أو التصعيد مع الولايات المتحدة، حسب ما تقتضيه مصلحة الواقع الإيراني الجديد، وهو ما يتضح من أن الدور الإيراني في العراق اليوم، يُدار من قبل شخصيات حرسية مؤثرة، فإلى جانب قاآني، هناك أدوار مؤثرة يقوم بها حسن دنائي فر مسؤول ملف العراق في الخارجية الإيرانية، وهو سفير سابق لإيران في العراق، كما أنه جنرال سابق بالحرس الثوري، إلى جانب دور السفير الإيراني الجديد في العراق محمد كاظم آل صادق، وهو أيضاً جنرال سابق في الحرس الثوري.
ثالثاً: على مستوى دمج دور الخارجية بالحرس الثوري
شكلت عملية اختيار حسين أمير عبد اللهيان، كوزير للخارجية في عهد رئيسي، تحولاً مهماً بالنهج الإيراني في العراق، فهو الشخصية الأبرز من الجيل الثاني للثورة، دبلوماسي متمرِّس ومتأثر بسليماني، يحظى بثقة المرشد الأعلى والحرس الثوري، وله شبكة علاقات عامة قوية مع جميع وكلاء إيران في العراق، خصوصاً أن له دور بارز كدبلوماسي سابق في العراق، حيث أصبح مساعداً خاصاً لوزير الخارجية الإيراني للشؤون العراقية بين عامي 2003 و2006، ومن ثم عمل في السفارة الإيرانية في بغداد بين عامَي 2006 و2007، وبالتالي فإن المجيئ به على رأس الخارجية الإيرانية في عهد رئيسي، هو بهدف استخدام هذه الخبرة والعلاقات؛ بالإطار الذي يدعم جهود الحرس الثوري في العراق أولاً، ويوازن فشل قاآني في ملء فراغ سليماني ثانياً، وإعادة ترتيب الأوراق الإيرانية المبعثرة في العراق ثالثاً، بالشكل الذي يسعى من خلاله لإعادة الفاعلية للدور الإيراني في العراق.
رابعاً: على مستوى الثنائيات السياسية الإيرانية
أشارت ملامح النهج الإيراني الجديد في العراق، إلى صعود لثنائية "المحافظين والحرس الثوري" التوافقية، مقابل أفول ثنائية "الرئيس والحرس الثوري" الخلافية، ورأس الحربة في هذه النقطة هي بإعطاء الأمن أولوية مقدمة على أولوية الدبلوماسية في العراق، خصوصاً أن أكثر الملفات المعقدة التي تواجهها إيران في العراق هي ملفات ذات بعد أمني، وتحديداً على مستوى إدارة العلاقة مع الفصائل المسلحة المرتبطة بها، بعيداً عن تأثير ودور الأجهزة الإيرانية الأخرى، كالخارجية.
الأولويات الإستراتيجية لإيران
هناك العديد من الأولويات الاستراتيجية التي تحاول إيران المحافظة عليها في العراق، رغم العديد من التحديات التي تواجهها، ومن ثم فإن هذه الأولويات حضرت بقوة أيضاً في أجندات إيران في مرحلة ما بعد سليماني، والتي جاء في مقدمتها السعي للحفاظ على النفوذ الإيراني في العراق، ومواجهة تداعيات أي عملية انفتاح عراقي على محيطيه العربي والدولي، وتحديداً على مستوى الاقتصاد والتجارة والطاقة، إلى جانب إفشال أي مساعي إقليمية تحاول إبعاد العراق عن الدور الإيراني، إذ شهد العراق اندفاعاً عربياً نحوه خلال العام الأول من رئاسة رئيسي، تمثلت هذه الاندفاعة على شكل مشاريع إقليمية وتنموية، فضلاً عن الحضور العربي القوي في العراق، الذي تمثل بمؤتمر قمة "بغداد للتعاون والشراكة" في أغسطس 2021.
كما حرصت إيران على تسريع عملية إخراج القوات الأمريكية من العراق؛ وهي أولوية حظيت بدعم واهتمام رئيسي، كمحاولة لإنهاء اللعبة المزدوجة مع الولايات المتحدة في العراق، عبر زيادة وتيرة الضغط السياسي والعسكري، وتمكين الفصائل المسلحة المرتبطة بها في الداخل العراقي، وتقوية قابليتها لاستيعاب الإجراءات الحكومية التي اتخذتها حكومة مصطفى الكاظمي ضدها، من أجل احتواء تأثيرها ونفوذها.
وقد أظهرت تحركات الحرس الثوري في العراق خلال الفترة الماضية، محاولة لجعل العراق جزءاً من معادلة التوازن الاستراتيجي الإيراني في الشرق الأوسط، عبر ربط العراق بالدور الإقليمي للحرس الثوري، ومحاولة إبعاده عن أي نقاشات إقليمية أو دولية تتعلق بالنفوذ والسياسات الإقليمية الإيرانية، سواءً على مستوى المحادثات النووية، أو الحوارات الإقليمية مع السعودية، وذلك من أجل تجاوز حالة الخلل في التوازن الاستراتيجي الإيراني في العراق بعد اغتيال سليماني، خصوصاً على مستوى ضبط وإخضاع الحالة العراقية لمركزية فيلق القدس.
وكذلك حرصت إيران على تكريس مفهوم الواقعية السياسية القائمة على عدم تخطي المصالح الإيرانية، في أي تحركات عراقية على المستوى الداخلي والخارجي، والأكثر من ذلك الحفاظ على الوحدة السياسية "للبيت الشيعي" في العراق، ولعل هذا ما يبدو واضحاً من الدور الذي تقوم به إيران في دعم جهود الإطار التنسيقي الشيعي، في المضي قدماً بحلحلة جمود المشهد السياسي بعيداً عن تأثير الفاعلين السياسيين الآخرين في العراق، وفي مقدمتهم زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر.
ولم يغيب عن مخيلة إيران أهمية ترسيخ موقع العراق في البعد الاقتصادي والاستثماري والخدمي، من خلال توسيع مجالات التعامل بين البلدين على مستوى استيراد الطاقة والكهرباء وغيرها، فإيران تدرك جيداً أن ضمان دورها في العراق، هو بالمقابل ضمان لفاعلية أدوارها في الشرق الأوسط، فنجاح دورها في العراق، سيُعطيها زخماً إقليمياً لتحريك أدوات نفوذها الأخرى في المنطقة على أقل تقدير، باعتبارها المستهدف الأول من الاستراتيجية الإيرانية.
إيران وتحدي إدارة الصراع داخل البيت الشيعي
لا زالت إيران تنظر بخشية كبيرة لخطوة انسحاب الصدر من العملية السياسية، وتحديداً بعد الأحداث الأمنية الخطيرة التي شهدتها المنطقة الخضراء في نهاية شهر أغسطس 2022، بعد محاولة أنصار الصدر اقتحام القصر الرئاسي والاعتصام فيه، وحصول مواجهات مع أفراد يتبعون فصائل مسلحة موالية لها. وحتى مع نجاح الإطار التنسيقي في تمرير عملية انتخاب رئيس الجمهورية في 12 أكتوبر 2022، ومنح البرلمان الثقة للحكومة الجديدة في 27 أكتوبر 2022، إلا أن إيران تتخوف من عودة الصراع بين الصدر وقوى الإطار مرة أخرى، بشكل قد يؤدي إلى إعادة تشكيل المعادلة الشيعية في العراق، وفق أنساق جديدة قد لا تتناسب مع الدور الإيراني وأهدافه.
إن الإشكال الرئيسي الذي تواجهه إيران اليوم في العراق، وتحديداً على مستوى ترميم البيت السياسي الشيعي، والحفاظ على التوافقات الشيعية-الشيعية ضمن سقف المصالح الإيرانية في البلاد، نابع في الأساس من عدة أسباب، أهمها؛ اللحظة الحرجة التي تولى فيها قاآني قيادة فيلق القدس في يناير 2020، والتي أظهرته وكأنه بلا برنامج واضح في العراق. إذ كشف أن النظام الإيراني لم يكن مستعداً بالأساس للتعامل مع قضية بحجم اغتيال سليماني، أو حتى في ترتيب الأولويات الاستراتيجية الإيرانية في العراق بعد اغتياله.
من الواضح أن عدم امتلاك قاآني رؤية وتصور واضح عن الحالة العراقية، بما تحتويه من تفاعلات وتيارات وتقلبات، إلى جانب عدم وجود شخصية مساندة له في العراق، كما كان عليه الحال مع قائد قوات الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، والدور الذي كان يلعبه إلى جانب سليماني، كلها متغيرات انعكست بطريقة أو أخرى على دور قاآني أولاً، والحرس الثوري ثانياً، في كيفية إدارة الصراع الشيعي الشيعي في العراق. وعلى ما يبدو أن إيران اختارت مؤخراً مراقبة الوضع العراقي، دون التدخل المباشر فيه، خصوصاً بعد تمكن قوى الإطار من من اختراق الجمود الحاصل في الساحة السياسية، وذلك بسبب ردود الأفعال القوية التي أظهرها الصدر وتياره ضد الدور الإيراني، وما تبعه من شعارات مناهضة لإيران "إيران لن تحكم العراق" رفعها متظاهروا تشرين في احتجاجاتهم الأخيرة التي شهدتها العاصمة في بغداد مطلع شهر أكتوبر الجاري.
مع التحولات الكبيرة التي حدثت في القيادة بعد مقتل سليماني، ومع بروز صراع داخلي بين المعسكر الشيعي، للحصول على مركز مهم في العراق، صارت إيران تواجه مخاوف واضحة، من استنزاف القدرة العسكرية والبشرية للفصائل المسلحة المرتبطة بها في صراع مع الصدر، خصوصاً وإن إيران بذلت جهوداً مالية وتسليحية في دعم ومساندة هذه الفصائل، لتكون بالصورة التي هي عليها اليوم، وهي مخاوف تأتي مترافقة مع دعوات مستمرة من قبل الصدر لحل هذه الفصائل وحصر سلاحها بيد الدولة، وهي دعوات عبر عنها الصدر صراحة في مناسبات عدة.
وعلى الرغم من أن الصدر قد نجح نسبياً في تغيير قواعد اللعبة السياسية، إلا أنه لا زال لا يمتلك اليد العليا في العراق حتى الآن، ففي أواخر شهر أغسطس الماضي، أعلن المرجع الديني الشيعي كاظم الحائري، اعتزاله العمل المرجعي والتقليدي، مُطالباً مقلديه بتقليد المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي وليس الصدر. ورغم عدم وجود ما يثبت إن خطوة الحائري جاءت بتنسيق إيراني، إلا إنها سحبت البساط من تحت أقدام التيار الصدري، لاسيّما قائدهم مقتدى الصدر، الذي كان يستمد غطاءه الشرعي من الحائري.
ومع ذلك، ما زال معسكر الصدر يقاوم، إذ يحاول الصدر من خلال معارضته للسلوك الإيراني، انتزاع اعتراف إيراني بمركزية التمثيل الشيعي، إلا إن ما يحصل الآن يعكس خيبة أمل كبيرة يواجهها الصدر، فقد كان يطمح بأن تلجأ إليه إيران بعد اغتيال سليماني لإدارة الوضع العراقي، إلا إن إيران بدلاً من ذلك لجأت لقيادات محلية أخرى، فضلاً عن تفعيل دور زعيم "حزب الله" اللبناني حسن نصر الله داخل العراق، إلى جانب ذلك يعتقد الصدر بضرورة الحفاظ على ثنائية "قم والنجف"، ولا يجوز أن تغير إيران هذه المعادلة، ولعل هذا ما يوضح قوله بعد اعتزال الحائري، بأن المرجعية الشيعية هي في النجف وليست في قم.
وفى حين يواجه الصدر اليوم، بعض العقبات الكبيرة في طريقه، إلا إنه يبدو أن إيران حريصة على الجلوس على الهامش والاكتفاء بالمشاهدة، على الأقل في الوقت الحالي. فسيطرت حلفاؤها على المشهد السياسي، تشير بأن الديناميات الحالية في العراق، لا تزال تؤدي، بطريقة أو بأخرى، إلى إعادة صياغة المشهد السياسي الشيعي والعراقي بشكل يخدم مصالح إيران ونفوذها بالعراق.
على أرض الواقع، فإن الشقاق بين الصدر وإيران واضح بشكلٍ كبير، من خلال الشعارات والهتافات التي يرفعها أنصار التيار الصدري، ومنها "لا شرقية ولا غربية"، الذي يقصد فيه "لا إيران ولا أمريكا"، إضافة إلى شعار "لا للتبعية" الذي يُقصد به الفصائل المسلحة المرتبطة بإيران. وبالنظر إلى هذه البيئة المتوترة، لا زالت طهران تراهن على ترك الصراع العراقي الداخلي للتبلور دون ممارسة نفوذها عليه. علاوة على ذلك، لا يزال بإمكان طهران استخدام الصدر كمصدر قوة في العراق، خصوصاً إذا ما تعرضت الحالة الشيعية لتهديد خارجي مشترك، فحتى شعار الوطنية العراقية الذي يرفعه الصدر قد لا يعني بالضرورة معاداة إيران، بقدر ما يعني إعادة تشكيل الدور الإيراني في العراق، بالشكل الذي يجعل الصدر بمنزلة المستقل وليس التابع لإيران.
حلفاء إيران يسيطرون على المشهد السياسي
تعكس قُدرة الإطار التنسيقي على الانخراط في ائتلاف جديد "ائتلاف إدارة الدولة"، تحولاً في طبيعة الدور الإيراني بالعراق، إذ أن الائتلاف كان قادراً على تجاوز الانسداد السياسي الحاصل في البلاد منذ الانتخابات النيابية في العام 2021، وبينما يُستثنى التيار الصدري من الائتلاف، فذلك يعني بشكل أو بآخر أن الإطار التنسيقي سيكون الطرف الأقوى فيه. وحتى باستقلالية الحكومة الجديدة ورئيسها عن التبعية لأي من أطراف الأزمة أو لإيران نفسها، فإن العديد من مكونات الإطار التنسيقي هم حلفاء لإيران، ويُحتمل سعيهم للسيطرة على أهم المؤسسات الأمنية والعسكرية والنفطية في الدولة، بطريقةٍ تبدو مقلقة لكثير من الأوساط الإقليمية والدولية، إذ إن نجاحهم في تحقيق ذلك وضمان استدامته سيمثل فرصة نادرة لطهران التأثير بالسلطة لفترة طويلة، تعويضاً عن السنوات الأخيرة التي تراجع فيها نفوذ إيران نسبياً في الحياة العراقية بعد اغتيال سليماني.
ورغم أن إيران تبدو أكثر الأطراف الإقليمية الرابحة من تجاوز حالة الانسداد السياسي، فإنها متخوفة منها أيضاً، حيث لا يزال الشارع العراقي يعيش حالة من الاحتقان بسبب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة، وقد يعني استمرارها تجدد الاحتجاجات والمواجهات في الشارع، بشكل قد يجعلها تخسر ما تبقى من تأثير سياسي، هذا فضلاً عن أن إيران حتى اللحظة، غير مرحبة بفكرة أن تمضي قوى الإطار مُنفردة في إدارة المشهد السياسي بمعزل عن الصدر.
إذ تدرك إيران جيداً أن وجود الصدر في العملية السياسية أفضل لها من وجوده خارجها، لأنه سيكون شريكاً في نجاحها أو فشلها، لأن إيران تبدو اليوم غير مستعدة، لأسباب داخلية وخارجية، لمواجهة موجة شعبية جديدة في العراق قد تعرض مجمل نفوذها السياسي في العراق للخطر، خصوصاً في ظل تصاعد الحركة الاحتجاجية بالداخل الإيراني على خلفية مقتل المواطنة الكردية الإيرانية مهسا أميني على يد شرطة الآداب الإيرانية، بسبب مخالفتها لشروط ارتداء الحجاب.
وفي ظل هذا الوضع السياسي المعقد في العراق، تنظر إيران إلى أن المراهنة على قوى الإطار في تنفيذ المهمة الإيرانية في العراق، تبدو مرتبكة للغاية، وتحاول طهران اليوم إيجاد مسار سياسي جديد يخدم رؤيتها السياسية في العراق، فهي تنظر بأهمية كبيرة لحجم نفوذها في العراق، فضلاً عن مكانة العراق كجسر إقليمي يغذي دورها في سوريا ولبنان، ومن ثم فهي تحاول تطويع المتغيرات السياسية العراقية، بالشكل الذي يجعلها تمثل فرصة أكثر من كونها تهديداً.
قد تكون إيران الطرف الأبرز في المعادلة السياسية العراقية المقبلة، خصوصاً وأن الإطار التنسيقي خرج منتصراً من الأزمة، بعد نجاحه في جلب الأكراد والسنة للاشتراك في معادلة السلطة، فرغم عدم مشاركة الصدر بالحكومة. إلا أن إيران ستحاول احتوائه، والحيلولة دون استفزازه، لتفادي تأزيم المشهد من جديد ومن أجل تأمين نفوذها في العراق ثانياً، بعيداً عن أي مفاجآت قد يقدم عليها الصدر أو قوى تشرين بالمرحلة المقبلة.
مستقبل الدور الإيراني في ضوء المرحلة الراهنة
بقدر تعلق الأمر بدراسة الاحتمالات المستقبلية للدور الإيراني في العراق، فإنها تنطوي على أهمية كبيرة، كونها ستحدد شكل التفاعلات الداخلية والإقليمية والدولية في العراق، وتداعياتها ونتائجها اللاحقة، وانعكاساتها على مجمل العلاقات سلباً أم إيجاباً، وعلى مستوياتها المختلفة "عراقياً وإقليمياً ودولياً ".
أولاً: سيناريو استمرار الوضع الراهن
يفترض هذا السيناريو المرجح استمرار الدور الإيراني في العراق، على نفس الشاكلة السياسية والاستراتيجية والأمنية، وذلك بسبب استمرار ذات المتغيرات المؤثرة في هذا الدور، وتحديداً المتعلقة بالداخل العراقي والإيراني، فعلى الرغم من نجاح حلفاؤها بالسيطرة على المشهد السياسي، إلا إن إمكانية إدامة هذه السيطرة تقف أمامها العديد من التحديات، وهو ما يشير إلى أن إيران ستبقى متأرجحة في العراق على المستوى المنظور، وأن إمكانية تأمين نفوذها ومستقبل حلفائها لا زالت غير محسومة، حتى تتضح الملامح النهائية للمشهد السياسي الراهن.
ثانياً: سيناريو نجاح الدور الإيراني في العراق
يفترض هذا السيناريو المحتمل نجاح الدور الإيراني في العراق، انطلاقاً من الفرضية التي تقول بأن التأثير الإيراني بالقرارات الأمنية والسياسية، وغياب المنافس الإقليمي، واحتواء المعارض الداخلي، وصعود حليفها السياسي، وإمكانية التوافق الدولي، قد تزيد من فرص نجاحها في العراق، فهناك عدد من المؤشرات التي تشير إلى إمكانية نجاح الدور الإيراني في العراق على الصعد المختلفة، خصوصاً إذا ما سعت إيران إلى تدعيم هذه المؤشرات لإنجاح مشروعها في العراق والمنطقة، في سبيل الحفاظ على مصالحها الجيواستراتيجية وتعزيز هيمنتها الإقليمية.
ثالثاً: سيناريو إخفاق الدور الإيراني في العراق
يفترض هذا السيناريو المستبعد، أن الدور الإيراني في العراق سيخفق، إنطلاقاً من الفرضية القائلة بأن المتغيرات الداخلية -العراقية والإيرانية- والإقليمية والدولية المتزايدة ضد إيران، سوف تدفع باستراتيجيتها في العراق، إلى مواجهة مجموعة من التحديات والكوابح، التي ستؤدي بدورها إلى تزايد العقبات التي تواجهها، مما قد يؤدي إلى إخفاقها، وعليه يمكن القول بأن الدور الإيراني وبموجب هذه الاعتبارات سيتعثر، أو ينكمش في الداخل العراقي، لتتحول إيران من دولة مؤثرة إلى دولة ثانوية.
الخاتمة
إن الدور الإيراني في العراق وضمن افتراضات التحوط الاستراتيجي، يهدف إلى ضمان وحماية متطلبات الأمن القومي، والحفاظ على سلامة المصالح الحيوية الإيرانية، وينطوي هذ الدور على عدد من الأهداف والأولويات الاستراتيجية المختلفة، والتي تصب بمجملها في تحقيق المصلحة القومية العليا في العراق، عبر التأثير السياسي، والسيطرة الاقتصادية، والحد من المنافسين الإقليميين، فضلاً عن إنهاء اللعبة المزدوجة مع الولايات المتحدة في العراق، وهي أهداف وأولويات بدأت حاضرة بقوة في ملامح الدور الإيراني بالعراق.
إذ دخلت إيران بتحول مهم بعد اغتيال سليماني، وهذا التحول كان بمثابة نهج إيراني جديد للتغلب على التحديات التي تواجهها في العراق، سواءً تلك النابعة من الداخل العراقي، أم الناتجة عن المزاحمة الإقليمية والدولية لإيران، ورغم المزايا التي تملكها إيران في العراق؛ إلا إن الطرق في العراق لم تكن سالكة أمامها، فواجهت استراتيجيتها العديد من المتغيرات المؤثرة فيها، وأبرزها تصاعد الأزمة السياسية والاجتماعية المناوئة لها، وتعثرها في احتواء تداعياتها.
حيث تدرك إيران إن موقعها في العراق بات يواجه تحديات سياسية كبيرة في المرحلة الراهنة، لذلك فإنها ستندفع استراتيجيا نحو إعادة إنتاج تموضع إيراني جديد في العراق، يخدم نفوذها ومصالحها، وذلك بدعم جهود حلفائها في السيطرة على المشهد السياسي، فضلاً عن ترسيخ فكرة ارتباط العراق بها اقتصادياً وتجارياً وفي مجال الطاقة، بشكل يُنهي أي إمكانية لخلق وضع داخلي أو إقليمي مناوئ لها في العراق بالمرحلة المقبلة.
*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: