بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في مطلع العقد الأخير من القرن المنصرم، سادت حالة من الفوضى في عدة مناطق من العالم، كاستجابة إلى انهيار قطب عالمي مقابل صعود آخر في إعادة هيكلة لشكل النظام العالمي ما بعد الحرب الباردة، فكان هناك بعض الدول المستندة على الكتلة الشرقية مادياً ودبلوماسياً، إلى جانب وجود العديد من النزاعات التي كانت معلّقة إلى حين الانهيار الذي أشعل معه حراكات عسكرية أدت إلى حالة من عدم الاستقرار أصابت عدداً من الدول في مناطق مختلفة من العالم.
وهنا تكوّن في الأوساط الأكاديمية والسياسية مفهوم "الدولة الفاشلة" الذي يناقش مدى قدرة الدولة كجهاز مؤسسي على القيام بوظائفها الأساسية مثل: بسط السيطرة على جميع المناطق الجغرافية الداخلة ضمن سيادتها، وتقديم قدر معين من الخدمات لمواطنيها، واحتكار وسائل العنف، وانسجام المجتمع المكون لشعب هذه الدولة، ومدى استقرار الوضع الاقتصادي فيها، وغيرها.
أكاديمياً، كان للأبحاث التي قام بها كل من: ستيفن راتنز، وجيرالد هيرمان، ووليام زارتمان، في تسعينيات القرن الماضي، السبق في الإشارة إلى مفهوم الدولة "الفاشلة" أو "المنهارة"، ما أسس لنقاش نظري مهم حول طور أو نوع آخر للدولة من الممكن أن يتعرض له مجتمع معين، نقاش تشتد وتيرته في أيامنا هذه التي تشهد ارتفاع حدة التوتر في أغلب المناطق الجغرافية في العالم، إلى جانب ما يمكن أن تسببه أحداث طارئة من آثار سلبية قد تسم الدولة بالفشل، مثل ما نراه من التأثير الهائل الذي فرضه تفشي فيروس "كورونا" المستجد على معظم دول العالم.
وعملياً، أطلق صندوق السلام "Fund For Peace" بالاشتراك مع مجلة "Foreign Policy" في عام 2005 مؤشراً يسعى إلى تصنيف الدول بواسطة تدرج معياري من الأشد فشلاً إلى الأكثر استقراراً، بحيث يعتمد على عدد من المعايير التي تحدد في مجموعها موقع الدولة على المؤشر الذي يضم جميع الدول في العالم.
وكأي ظاهرة في حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية، لا يوجد إجماع على الأبعاد المفاهيمية لمصطلح "الدولة الفاشلة"، وذلك لكثرة الأمثلة التطبيقية والعملية عليه، وتطورها بالترافق مع الأحداث الواقعة في عدد من الدول، إلى جانب تناول المنظرين والمحللين السياسيين لهذا المفهوم من منطلقات أيديولوجية وثقافية متباينة، إلا أن البناء المعرفي والتاريخي لمفهوم "الدولة الفاشلة" يركز بشكل عام على عجز الدولة عن القيام بواحدة أو أكثر من وظائفها تجاه ما هو متعارف عليه من أدوار على الصعيد الداخلي والخارجي.
إن الدولة كما هو معروف نظرياً، تستند على أربعة عناصر أساسية هي: الأرض، والشعب، والسلطة السياسية، والاعتراف الدولي، وإذا ما أردنا التمحيص بشكل أكثر دقة في العلاقة الجدلية بين هذه الركائز، يمكننا القول بأن جوهر الدولة وشكلها وصيرورة بقائها اليومي وما يرتبط به من خصائص وسمات تاريخية وبنيوية، كل هذا، يقوم - إلى حد ما - على تفاعل السلطة السياسية مع العناصر (الركائز) الثلاثة الأخرى.
وبعبارة أخرى، إن طبيعة العلاقة التي تربط بين النخبة السياسية المكونة للسلطة وأدواتها المؤسسية وبين التيارات الاجتماعية الموالية والمعارضة هي التي تضمن أو لا تضمن الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي يشير إلى شرعية النظام السياسي المعني، وإن وجود إرادة وبرنامج اقتصاديين يؤديان إلى توظيف الإمكانيات المادية والمعرفية لتحقيق استخدام أمثل للموارد المتواجدة على سطح وفي باطن البقعة الجغرافية التي تحتضن الدولة، وبالتالي تصبح الدولة قادرة على إدارة الملف الاقتصادي وتحديد دور القطاع الخاص فيه، كما أن السلطة السياسية هي من تتعامل مع الشخصيات القانونية على المستوى الدولي (دول، منظمات، أفراد)، حيث يترتب على هذا التعامل أن تكون الدولة فاعلاً منفتحاً على جميع الأطراف من خلال شغلها لموقع يكون على مسافة واحدة من جميع نظرائها، أو أن تكون مؤسساً أو جزءاً من محور يمتلك رؤية استراتيجية مختلفة عن تلك التي تمتلكها المحاور الأخرى، أو أن تكون منعزلة ومنغلقة على نفسها، جاعلة من علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية السارية عند حدها الأدنى.
بناء على ما سبق، يمكن التعامل مع "الدول الفاشلة" من الناحية الاصطلاحية كتركيز على الدور الوظيفي للسلطة السياسية أكثر من أي عنصر آخر من عناصر الدولة، عبر دراسة سلوك السلطة تجاه الاستحقاقات المحلية والإقليمية.
وبما أن الدولة هي جزء من المجتمع الدولي الذي يضم أطرافاً تجمعهم مصالح معينة وتفرقهم أخرى، فمن الممكن أن تتأثر هذه الدولة أو تلك بحالة الاستقطاب والتجاذبات السياسية التي هي سمة عامة تحكم تاريخ العلاقات الدولية منذ تبلور شكل الدول القومية في أوروبا بعد معاهدة "وستفاليا" في منتصف القرن الـسابع عشر، وهذا يمكن أن ينتج عنه أن تدخل الدولة بكل أركانها في مواجهة تحديات خارجية تنعكس تداعياتها على الوضع المحلي، كما في فرض العقوبات الاقتصادية، واستنزاف الموارد، والابتزاز العسكري، وذلك نتيجة لانضمامها إلى محور أو حلف دون آخر سواء أكانت مجبرة على ذلك أو بمحض اختيارها. المقصود من كل ذلك هو أن وظائف السلطة السياسية من الممكن أن تتأثر بشكل سلبي بسبب الظروف الخارجية في المقام الأول، التي قد تؤدي بها إلى أن تصبح دولة فاشلة في نهاية المطاف.
وكأي تحليل نظري، هناك بعض الثغرات والتناقضات التي ينطوي عليها مفهوم "الدولة الفاشلة"، حيث أن المعايير التي تطرحها بعض المؤسسات وبعض المحللين لتصنيف الدول ما إذا كانت فاشلة أو مستقرة، لا تستند على السياق التاريخي الذي أدى سببياً بشكل مباشر أو غير مباشر إلى نشوء وتطور هذه المعايير، ولا تفسر لمَ أن دول العالم الثالث (إفريقيا، وأجزاء من كل من: أمريكا اللاتينية وآسيا) تحتضن العدد الأكبر من الدول الفاشلة، ألا يدل هذا على حالة تاريخية مشتركة؟
إن الحديث عن معايير لقياس مدى فشل الدول ضمن مؤشرات اقتصادية وسياسية واجتماعية وأمنية، هو أمر غاية في الأهمية إذا ما كانت هذه المعايير مبنية على تفسير سببي للأحداث التي تتضمنها كل دولة على حدة حتى وإن تطلب ذلك الرجوع إلى فهم جذور هذه الظاهرة أو تلك - سواء أكانت سلبية أم إيجابية - في الدولة المراد تصنيفها، بما في ذلك مدى التأثير الخارجي على المسيرة الاجتماعية والاقتصادية، ومدى أثر ارتباط فئات من النخبة السياسية بأطراف خارجية على الاستقرار السياسي والأمني في المجتمع المعني، بالإضافة إلى فهم طبيعة العلاقات التجارية والمالية بين الدول، وما إذا كانت تقوم على أسس المنفعة المتبادلة، أم على الاستغلال الأحادي والتبادل غير المتكافئ.
وبالتالي فإن استخدام معايير ذات مضمون كمي (رقمي) فقط لن يؤدي إلى توصيف دقيق إلى حالة الدولة المعنية وتصنيفها على سلم الدول الفاشلة، بل يجب أن تكون هناك قراءة تاريخية واجتماعية معمقة لفهم الطبيعة السببية للفشل بهدف تجاوزه؛ وذلك من خلال آلية توافقية يتم إقرارها من قبل المنظمات الدولية ضمن أحكام القانون الدولي.
في الختام، إن اعتبار أي دولة على أنها دولة فاشلة، لا يعني بالضرورة أنها تشهد حالة من الانفلات الأمني أو النزاع العسكري على شكل حرب أهلية أو حرب بالوكالة أو كلاهما والقائمة على انقسام عرقي ومناطقي مغذى من أطراف إقليمية ودولية، فعلى الرغم من أن هذا هو الإطار العام لتوصيف البلدان الفاشلة في الوقت الحالي على المستوى الإعلامي على الأقل، إلا أن هناك معايير أخرى مثل: مستويات التنمية الاقتصادية، والتمثيل والتنظيم السياسيين، وحجم ومستوى الرعاية الاجتماعية، وغيرها، وكما ذكرنا أعلاه؛ فلا بد من البحث في مسببات هذه المعايير حتى لا يقتصر تعريف الدولة الفاشلة على تعريف فني وإجرائي منفصل عن الواقع.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.