في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ أثبتت اليابان نفسها كدولة ديمقراطية؛ حيت تمتلك ثالث أكبر اقتصاد في العالم بإجمالي ناتج محلي يبلغ 5 تريليون دولار، وهي عضو مؤسس في مجموعة الدول الصناعية السبع، وتُعتبر الركيزة الأساسية للاستراتيجية الأمريكية في آسيا، وهي مركز من مراكز الثقل الاستراتيجي في المحيط الهادئ وآسيا، وبرزت في عهد رئيس الوزراء السابق، شينزو آبي، كإحدى القوى في شرق آسيا.
وهذه الأهمية السياسية والاقتصادية تجعل من الضروري أن يحظى اليابان بمزيد من الاستقرار السياسي، في وقت تجددت فيه المخاوف من عودة الحكومات الضعيفة بالتزامن مع استقالة آبي في28 أغسطس 2020، فعلى مدى عقود كانت حالة عدم الاستقرار السياسي سمة بارزة - لا بشكل ظرفي أو عرضي - بل بوصفها معضلة متكررة ومنتشرة في ممارسات السلطة اليابانية، إذ تعد هذه هي الاستقالة الثانية لآبي منذ العام 2008، بالإضافة إلى استقالة رئيسي الوزراء الأسبقيْن: ياسو فوكودا عام 2008، ويوكيو هاتوياما عام 2010، وغيرهما.
وبالرغم من أن الأدبيات كثيراً ما أنتجت مجموعة واسعة من المؤلفات التي تحاول الكشف عن مدى تأثير عدم الاستقرار السياسي على الأداء الاقتصادي والاستثمار الخارجي؛ إلا أن القليل منها بل والنادر ما تطرق إلى تأثيرات عدم الاستقرار السياسي على السياسة الخارجية وخاصة فيما يتعلق بالدور الذي تضطلع به الدول إقليمياً وعالمياً؛ وحيث إن الاستقرار السياسي والسياسة الخارجية مرتبطان ببعضهما على مستويات مختلفة، فإن هذه العلاقة لا يمكن اعتبارها أحادية الاتجاه، ولدينا مثال على أحد أوجهها يتمثل في قدرة رئيس الوزراء السابق آبي على بناء علاقة مع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، لم يحظى بها معظم قادة العالم، والحقيقة أن فهم العلاقة بين آبي وترامب لا يمكن فصلها عن حقيقة تمكُّن آبي من البقاء لمدة أطول في منصبه، على عكس الحكومات الضعيفة السابقة التي كان بقاؤها في السلطة محدوداً بسنوات قليلة وفي أحيان عدّة في سنة واحدة فقط، وذلك يشكل تحدياً أمام قادة العالم عامة والولايات المتحدة خاصة الذين عليهم التعامل في كل مرة مع حكومة ونهج جديديْن.
وفي سياق متصل، تظهر ديناميكيات التأثير بين الاستقرار السياسي والسياسة الخارجية لليابان بشكل جلي في رئاسة آبي الثانية 2012 - 2020، إذ أثبت أنه كلما كان البقاء في السلطة أطول؛ كلما كانت قدرته على خط نهج خارجي واضح وبناء التحالفات وإبرام الشراكات أكبر، حيث تمكن من ترجمة أفكاره النابعة من التيار القومي اليميني الياباني، والمنادية بدور بارز لليابان في الساحة العالمية لا سيما السياسية والاقتصادية.
وعلى نطاق واسع دفع آبي اليابان للقيام بدور هام في العديد من القضايا الدولية والإقليمية، فقد أسهم في تشكيل اتفاقية التجارة في المنطقة الواقعة بين المحيطين الهندي والهادئ عام 2018 والتي عُرفت باسم "اتفاق الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ"، كما ساعد تقربه من أستراليا والهند في إعادة إحياء "التحالف الأمني الرباعي" إلى جانب الولايات المتحدة عام 2017، وقد عزّز تواصله مع أوروبا وجنوب شرق آسيا في جعل اليابان من الشركاء المهمين في هذه التكتلات؛ فكانت اتفاقية الشراكة الاقتصادية بين اليابان والاتحاد الأوروبي الموقّعة في يوليو 2018، واتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة مع المملكة المتحدة في سبتمبر 2020 إحدى أبرز هذه الشراكات.
وعلاوة على ذلك؛ فقد تجلّت محاولة آبي لموازنة الثقل الجيوسياسي لليابان ودورها العالمي، في عدد من القرارات المتعلقة بالأمن والدفاع، وخاصة محاولاته لإصلاح المادة التاسعة من الدستور الياباني؛ والتي وصفها ذات يوم بـ "إعادة بناء الأمة"، وهي التي أُدرجت بطلب أمريكي ودخلت حيز التنفيذ في مايو 1947 وتنص على: "في تطلعهم بإخلاص إلى سلام عالمي قائم على العدل والنظام، يشجب اليابانيون الحرب وإلى الأبد، كحق سيادي للأمة، والتهديد أو استخدام القوة كأداة لحل النزاعات الدولية". وفي العام 2013، أصدرت اليابان أولى استراتيجياتها للأمن القومي والتي تركز على إعادة إنشاء جيش ياباني قوي لمواجهة النمو الصيني، وبالرغم من أن ميزانية الدفاع اليابانية لا تتعدى 1% من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن اليابان تمكنت عام 2020 من أن تحتل المرتبة الخامسة في قائمة القوى العسكرية، بحسب موقع "Global Firepower" للإحصاءات والتصنيفات العالمية.
ومن جهة أخرى، فإن تأثيرات عدم الاستقرار على السياسة الخارجية؛ يمكن فهمها عند مقارنة الاتجاهات الخارجية لرئاسة آبي الأولى 2006 - 2007 برئاسته الثانية، فحين نُصّب كرئيس للوزراء لأول مرة، كانت اليابان والهند في شراكة استراتيجية عالمية خاصة منذ العام 2001، إلى جانب القمم الثنائية التي تُعقد سنوياً منذ العام 2005، إلا أن وتيرة هذه العلاقة لم تنضج إلا بعدما استقر آبي في الحكم بعد العام 2012 حيث تطورت هذه العلاقة إلى (شراكة عالمية استراتيجية) في سبتمبر 2014، وتم توقيع الاتفاق النووي مع الهند في نوفمبر 2016، وفي الواقع مكّن الاستقرار في السلطة آبي من تقدير الاحتياجات الاستراتيجية لليابان، حيث رأى أن كلاً من الهند والولايات المتحدة شريكتان في استراتيجيات الأمن والدفاع اليابانية.
وعلى ذات المنوال، أفشلت استقالة آبي الأولى خطة تأسيس الحوار الأمني الرباعي (بين كل من: الولايات المتحدة، واليابان، والهند، وأستراليا) في العام 2007، إذ لم تستمر حكومته حينها لأكثر من عام. وكانت إحدى الأسباب التي أدت إلى فشل تأسيس الخطة هي أن استقالة آبي فتحت الباب أمام منافسه ياسو فوكودا المقرب من الصين، وذلك قبل عمله - أي آبي - على إعادة إحياء هذا التحالف الرباعي في العام 2017.
وتُظهر الأمثلة السابقة حقيقة تأثير حالة عدم الاستقرار السياسي على القرارات والتحالفات الاستراتيجية لليابان، وما تخلفه من حالة عدم يقين لدى الحلفاء، ولذلك وبمجرد أن أنهت استقالة آبي فترته الثانية كرئيس للوزراء - وهي المدة الأطول لرئيس وزراء في اليابان - بات من المرجح لدى الكثيرين أن الانتقال السياسي في اليابان سيُفقدها الانسيابية السياسية في الداخل والخارج، مع تزايد المخاوف من عودة الحكومات الضعيفة، وهو ما يعيق اتخاذ القرارات المناسبة للتعامل مع البيئة الأمنية والسياسية المعقدة في الإقليم. وحتى مع انتخاب البرلمان الياباني لـ يوشيهيدي سوجا في 16 سبتمبر 2020 وهو الرجل الثاني في حكومة آبي، تبقى مخاوف بعض الخبراء الأمريكيين في السياسة اليابانية وقضايا الأمن بشأن ما إذا كان سوجا قادراً على الاستمرار في حكومة مستقرة؛ وفقاً لصحيفة "Japan Times".
وما يُضاعف من هذه المخاوف هو تزامن تنصيب سوجا كرئيس للوزراء مع وجود صعوبات داخلية وخارجية جمّة، على اعتبار أنه يدير حكومة مؤقتة كونها استمرارية للمدة الدستورية لحكم آبي والتي تنتهي في خريف 2021، فحتى ذلك الحين؛ لا يبدو أن الظروف تُسعفه في الدعوة لانتخابات مبكرة خاصة بعد تبعات وباء "كورونا"، والتي أدت إلى تقلص الناتج المحلي الإجمالي لليابان بنحو 8%، فضلاً عن أنه - وهو الذي شغل منصب الأمين العام للحكومة ومستشار آبي لمدة 8 سنوات - سيبقى مقيداً بإرث آبي. وهو ما عبّر عنه بالقول: "مع هذه الأزمة الوطنية لفيروس كورونا، لا يمكننا أن نسمح لأنفسنا بفراغ سياسي... يجب إنجاح ما بدأ رئيس الوزراء آبي في تطبيقه وهذه مهمتي"، واللافت هنا أن آبي ذاته تعرض لانتقادات داخلية كبيرة نتيجة تعامل حكومته مع وباء فيروس "كورونا" المستجد، ووفقاً لاستطلاع للرأي؛ يرى 49% أن حكومته لم تُظهر المهارات القيادية اللازمة في استجابتها للوباء.
وفي الوقت ذاته، سيقوم سوجا بتوجيه سياسة اليابان الخارجية ضمن "مرحلة انتقالية"، في ظل بيئة أمنية إقليمية معقدة، مع تزايد التهديد النووي من كوريا الشمالية، والنزاع الصيني الأمريكي، فضلاً عن النفوذ الصيني المتنامي في بحر الصين الجنوبي، والخلاف معها حول جزر سينكاكو التي تسيطر عليها اليابان، وبالرغم من أن آبي أظهر القدرة على الموازنة بين هذه التحديات الخارجية، إلا أن سوجا الذي يُعد خبيراً في البيروقراطية اليابانية بالكاد يمتلك الخبرة في العلاقات الخارجية أو الدبلوماسية، وبالتالي لا يُعد وجهاً مألوفاً على الصعيد الخارجي، وعلى ما يبدو أنه مع تعقيدات السفر بسبب وباء "كورونا" سيكتفي بالتواصل عبر الفيديو والمكالمات الهاتفية مع زعماء العالم الآخرين لعدة أشهر قادمة.
وبناء على ما سبق، فإن أمام سوجا خيارات محدودة لمستقبل الحكم في اليابان، وسيكون لانخفاض شعبية آبي نتائج ملموسة ليس فقط عليه بل على الحزب الليبرالي الديمقراطي بشكل عام، وقد تظهر هذه النتائج في الانتخابات البرلمانية القادمة عام 2021، حينها فإن أي توقع بحدوث تغيير في الحزب الحاكم المهمين، سيتبعه بلا شك إدخال تغييرات بعيدة المدى على السياسة الخارجية لليابان، فهذه السياسة التي اضطلع بها الحزب الحاكم من منظور الدور العالمي والإقليمي لليابان، لا يتفق معها العديد من أحزاب المعارضة الأخرى، ناهيك عن أن المخاوف الأكبر تكمن في عودة الحكومات الضعيفة والتغيرات المستمرة في السلطة؛ ما قد يعيد حالة عدم اليقين إلى وضعها السابق.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: