أصدرت محكمة العدل الدولية، في 19 يوليو 2024، فتوى قانونية ترى بأن "وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967 غير قانوني"؛ وعليه قدمت بعض المطالبات الواجب على إسرائيل تنفيذها للحدّ من عواقب وتداعيات ذلك. وعلى الرغم من عدم إلزامية فتوى المحكمة إلّا أنّها جاءت في سياق تلعب فيه مؤسسات المجتمع الدولي دوراً فاعلاً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية منذ اندلاع الحرب في قطاع غزة. وهو ما يترافق مع تنامي الاهتمام الدولي والأممي بواقع الضفة الغربية التي تشهد تصعيداً إسرائيلياً في الجوانب الأمنية والاستيطانية. وعليه، تطرح فتوى محكمة العدل الدولية التساؤل حول المستقبل السياسي للضفة الغربية وما توفره من فرص مقابل ما تواجهه الضفة من تحديات.
الرأي الاستشاري للمحكمة وأهمية مضامينه
جاء رد محكمة العدل الدولية في إطار تقديمها "رأياً استشارياً" عن سؤال وجهته لها الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 2023، والذي نص على: "ما هي الآثار القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره واحتلالها طويل الأمد للأراضي الفلسطينية المحتلّة منذ عام 1967 واستيطانها وضمها، بما في ذلك الإجراءات الرامية إلى تغيير التركيبة الديموغرافية وطابع ووضع مدينة القدس، واعتمادها تشريعات وتدابير تمييزية بشأن ذلك؟ وكيف تؤثر سياسة إسرائيل وممارساتها السابقة على الوضع القانوني للاحتلال، وما هي الآثار القانونية المترتبة عليها بالنسبة لجميع الدول والأمم المتحدة؟".
وعليه، أعلن رئيس محكمة العدل الدولية، القاضي نواف سلام، على صلاحية المحكمة في إصدار الفتوى، وأن قرارهم بشأنها حظي بأغلبية أصوات اللجنة المكونة من 15 قاضياً، وبواقع (11-14 صوت) في جميع البنود، وبناء على ذلك وجدت المحكمة ما يلي:
1- أن استمرار وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلّة غير قانوني.
2- إسرائيل ملزمة بإنهاء وجودها غير القانوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة بأسرع وقت ممكن.
3- إسرائيل ملزمة بالوقف الفوري لجميع أنشطتها الاستيطانية الجديدة وإخلاء المستوطنين من الأراضي الفلسطينية المحتلّة.
4- إسرائيل ملزمة بدفع تعويضات عن الأضرار التي لحقت بجميع الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين المعنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلّة.
5- إنّ جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ملزمة بعدم الاعتراف بشرعية الوضع الناشئ عن الوجود غير القانوني لإسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وبعدم تقديم العون أو المساعدة في الحفاظ عليه.
6- إنّ المنظمات الدولية بما فيها الأمم المتحدّة ملزمة بعدم الاعتراف بشرعية الوضع الناشئ عن الوجود غير القانوني لإسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلّة.
7- يتعين على الأمم المتحدّة وخاصة الجمعية العامة التي طلبت الفتوى، النظرَ في الطرائق المحددة والإجراءات الإضافية اللازمة للحدّ من وجود إسرائيل غير القانوني في الأراضي الفلسطينية المحتلّة.
ويعتبر القرار من الناحية النظرية ملزم لإسرائيل، إلا أن المحكمة لا تمتلك الأدوات لتنفيذه إذا اختارت إسرائيل عكس ذلك. سوى من خلال اللجوء بالقرار إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ولذلك لا يتوقع أن يكون للقرار آثار ملحوظة فيما يتعلق بالسياسات والإجراءات الإسرائيلية في الضفة الغربية. فقد سبق للمحكمة أن قضت بعدم قانونية الجدار العازل بفتوى لها في يوليو 2004، دون أن يترتب عنه أي تداعيات على استمرار الجدار أو استكمال إسرائيل لبنائه.
مع ذلك، تكمن أهمية القرار في الوقت الذي تتنامى فيه اهتمامات المجتمع الدولي بالقضية الفلسطينية بعد الحرب في قطاع غزة، وتحديداً في معارضة الإجراءات الإسرائيلية في الضفة الغربية، خاصة بعد إعلان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أنه سيحيل الرأي للجمعية العامة للأمم المتحدة لتقرر كيفية التقدم بشأنه. من جهة أخرى؛ هناك احتمالات أن يؤدي القرار إلى سلسلة لاحقة من الدعاوى أو الآراء الاستشارية للمحكمة، بالنظر إلى تصاعد الإجراءات القانونية الدولية حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لا سيما في دعوى جنوب أفريقيا حول انتهاك إسرائيل لاتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948، وفي القضية التي رفعتها نيكاراغوا ضد ألمانيا في محكمة العدل الدولية مطلع مارس 2024، لتقديمها مساعدات مالية وعسكرية لإسرائيل ولتوقفها عن تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) ، وكذلك في القضية التي تنظر بها الجنائية الدولية، والتي طالب وفقها مدعي عام المحكمة في مايو 2024، إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت بزعم ارتكابهما جرائم حرب.
الاهتمام الدولي والأممي المتزايد بالضفة الغربية
انعكست تداعيات الحرب في قطاع غزة على مواقف الدول والمنظمات ومؤسسات المجتمع الدولي تجاه السياسات والإجراءات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وحول موقفها الرافض لإقامة دولة فلسطينية. وتمثل ذلك في تصعيد الولايات المتحدة والدول الأوروبية من إجراءاتها العقابية لإسرائيل عن سياساتها في الضفة، ففي مارس 2024 أصدر الرئيس الأمريكي جو بايدن أمرًا تنفيذيًا "غير مسبوق" يسمح بمنح وزارة الخارجية الأمريكية سلطات جديدة لفرض عقوبات على المسؤولين الإسرائيليين عن تقويض الأمن في الضفة الغربية، وفي 20 يوليو فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على مستوطنين وكيانات إسرائيلية (منظمات وبؤر استيطانية ومزارع) مرتبطة بارتكاب أعمال عنف ضد فلسطينيين في الضفة الغربيّة، وفي التاريخ نفسه، وفي ذات اليوم أشار تقرير لموقع "واللا الإسرائيلي" عن أن البيت الأبيض يدرس فرض عقوبات على الوزيرين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش تبعًا لمسؤوليتهما عن تدهور الوضع الأمني بالضفة الغربية وتعميق سياسة الاستيطان.
كما تنامت المطالب الدولية بضرورة تبنّي "حل الدولتين"، وعلى إثره اعترفت في مايو 2024 كل من إسبانيا وإيرلندا والنرويج بالدولة الفلسطينية ضمن خطوة أوروبية مشتركة، وتبع ذلك اعتراف سلوفينيا وأرمينيا وإعلان دول أخرى عزمها على ذلك مستقبلاً؛ كأستراليا ومالطا. ومن المحتمل أن تتصاعد هذه التحركات لا سيما مع إشارة الحكومة البريطانية الجديدة لرغبتها في الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وسط تصاعد في خطابها الداعي لوقف الحرب في قطاع غزة وترجيح أن تتجه لسحب اعتراض الحكومة السابقة عن إصدار محكمة الجنايات الدولية مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. إلى جانب تعهد حزب "فرنسا الأبية" بالاعتراف بالدولة الفلسطينية عقب صعود اليسار في الانتخابات البرلمانية الفرنسية.
الردود السياسية والحزبية في إسرائيل
مع تنامي الدعوات الأممية والدولية لتحقيق حل الدولتين، والحفاظ على الوضع القائم في الضفة الغربية والقدس الشرقية، قامت إسرائيل بتسريع خطواتها الهادفة لتقويض تلك المطالب، وقد عارض المسؤولون الإسرائيليون الفتوى الصادرة عن محكمة العدل الدولية، إذ رد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأنه " لا يمكن التشكيك بقانونية الاستيطان الإسرائيلي في أرض وطننا"، فيما طالب الوزيران بن غفير وسموتريتش بفرض "السيادة الفورية" على الضفة الغربية.
في الواقع صعّدت إسرائيل منذ الحرب في قطاع غزة، من خطواتها الرامية إلى تقويض حل الدولتين أو إقامة دولة فلسطينية، ففي 18 يوليو وقبل يوم من فتوى المحكمة؛ صوت الكنيست على مشروع قرار يرفض إقامة دولة فلسطينية، وفي 22 يوليو، صادق الكنيست بالقراءة الأولى (مبدئيًا) على ثلاثة مشاريع لقوانين تفضي إلى تصنيف وكالة (الأونروا) منظمة إرهابية ومنع عملها في إسرائيل وسحب الامتيازات الممنوحة لموظفيها.
وتعتبر تلك الخطوات استكمالاً لسلسلة من القرارات السابقة، من بيها موافقة الكنيست في فبراير 2024 على قرار الحكومة برفض الاعتراف الأُحادي بدولة فلسطينية. وفي مايو أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي غالانت، عودة ثلاث مستوطناتٍ كان قد جرى تفكيكها وإخلائها عام 2005، بالإضافة إلى موافقة الحكومة الإسرائيلية خلال شهري مايو ويونيو على أكبر عمليات مصادرة للأراضي في الضفة الغربية منذ اتفاقية أوسلو، ففي 22 مايو أعلنت الحكومة الإسرائيلية مصادرة 8 آلاف دونم من أراضي غور الأردن لإقامة مئات المستوطنات، وفي 3 يونيو ذكرت وكالة "أسوشيتد برس" أن إسرائيل وافقت على مصادرة 12.7 كيلومتر مربع من أراضي غور الأردن، وفي 3 يوليو صادق مجلس التخطيط الاسرائيلي على بناء نحو ستة آلاف وحدة استيطانية جديدة في مناطق استراتيجية في الضفة الغربية.
المشهد الفلسطيني القادم
تأتي فتوى محكمة العدل الدولية في وقت تقف فيه القضية الفلسطينية ومسائل حل الدولتين على مفترق طرق، خاصة مع مجريات الحرب في قطاع غزة، وضبابية اليوم التالي لها، وتقويض المطالب والدعوات الأممية والدولية المنددة بالسياسات والإجراءات الإسرائيلية المتبعة على الأرض.
من الناحية النظرية؛ فإن الرأي الاستشاري صدر عن أعلى مؤسسة قانونية في العالم ويمكن توظيفه بتوحيد الجهود في اتجاه العمل على تحقيق مكتسبات فلسطينية، وبما يدعم الموقف الفلسطيني الرسمي في تحركاته الدولية الدبلوماسية، خاصة مع توافر رغبة دولية وأممية وإرادة أمريكية في إصلاح السلطة الفلسطينية لتعزيز دورها في المرحلة المقبلة. ومن المفترض أن الساحة الفلسطينية تسعى للاستجابة والتكيف مع ذلك الدور، ففي مارس 2024 شكل محمد مصطفى حكومة فلسطينية جديدة، جاءت استجابة لضغوط أمريكية من أجل إصلاح السلطة، وتمكينها من إدارة قطاع غزة بعد الحرب، وتتزايد جولات الحوار بين الفصائل الفلسطينية، ففي فبراير 2024 أجرت الفصائل حوارات في موسكو، وفي 23 يوليو وافق الفصائل على "إعلان بكين" الذي ينص على تشكيل حكومة وفاق وطني مؤقتة ثم إجراء انتخابات عامة.
مع ذلك فإن الساحة الفلسطينية تواجه تحديات عميقة، منها استمرار الانقسام الجغرافي والسياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ومحاولات إسرائيل ترسيخ هذا الانقسام برفضها لعودة السلطة لحكم القطاع، وبالتالي فإن الخطوات الفلسطينية القادمة محكومة بشكل الميدان الذي تنتهي عليه الحرب، وبمدى وجود توافق على اندماج الفصائل الفاعلة في بنية السلطة مستقبلاً وتوافقها على خطاب ونهج موحد.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: