هذه المادة السابعة من سلسلة المواد التي يجري نشرها تباعاً ضمن ملف "أوراق على طاولة الـ G7"
لا يمكن تناول سير العلاقات البينية والخارجية للدول الصناعية الكبرى المكونة لمجموعة السبع دون التعرض لموضوع سوق الطاقة، وأبرز المستجدات التي طرأت عليه، وأبرز المنتجين وأكبر المستهلكين، وذلك لأن الطاقة، ومنذ ابتداء عملية التصنيع الرأسمالي وحتى وقتنا الحالي، تمثل ركيزة اقتصادية وجيوسياسية لغالبية الدول في العالم.
فإذا امتلكت دولة معينة موارد طبيعية تساهم في رفع سوية الاكتفاء الذاتي "الطاقوي"، تصبح هناك إمكانية لأن تدخل سوق الطاقة العالمي (النفط، الفحم، الغاز) كمُصدر، وبالتالي تحقيق استقرار وحتى فائض للحساب الجاري والميزان التجاري بطبيعة الحال، وإذا لم تكن الدولة أو الإقليم تمتلك موارد الطاقة، فستكون مضطرة إلى استيراد هذه السلعة الحيوية لتلبية المتطلبات الخدماتية والتنموية للمواطنين.
ويُعتبر الغاز الطبيعي من أبرز أنواع الوقود الأحفوري التي تكتسب مكاناً أوسع وأكثر تماسكاً في سوق الطاقة العالمي منذ مطلع القرن الحالي، وذلك لعدة أسباب منها: أن الغاز الطبيعي يُعد من أقل أنواع الطاقة تلويثاً للبيئة مقارنة مع البترول والفحم، كما أنه أقل خطراً من المفاعلات النووية المستخدمة للأغراض السلمية والتي انخفضت الثقة بها بعد كارثة فوكوشيما النووية في اليابان عام 2011، كما ويُعتبر سوق الغاز الطبيعي أكثر استقراراً من نظيره الخاص بالنفط الذي يشهد انهياراً من وقت لآخر؛ كما حدث على سبيل المثال عام 2016، أو كالذي حدث في أبريل 2020 عندما هبطت أسعار خام غرب تكساس المتوسط الأمريكي (WTI) إلى المنطقة السالبة وامتلأت المخزونات الاستراتيجية للولايات المتحدة، في ظل الاختلال الكبير الذي أصاب الطلب على الطاقة بسبب حالات الإغلاق الشامل التي فرضها تفشي فيروس "كورونا" المستجد.
إن تجارة الغاز الطبيعي تتم عبر خيارين هما: النقل بواسطة الأنابيب، أي من خلال ربط دولتين أو أكثر بأنابيب تصل الدولة المنتجة بالدول المستهلكة، أو عبر تسييله ونقله بواسطة عبارات إلى أي مكان في العالم.
ويحظى الغاز الطبيعي المسال (Liquefied Natural Gas (LNG، بحصة متزايدة في سوق الطاقة العالمي خلال الفترة الأخيرة، على الرغم من بدء إنتاجه في ستينيات القرن الماضي، فبالإضافة إلى الجوانب الإيجابية للغاز الطبيعي بشكل عام، فقد ساهم التطور التكنولوجي في ابتكار وسائل تُسرع صناعة الغاز المسال ونقله وتخزينه.
وتجدر الإشارة هنا إلى أهمية جزئية التخزين، حيث أن تسييل الغاز يعني بالضرورة شغل مساحات أقل بكثير من بقاء الغاز مُخزناً بحالته الغازية، وهذه أفضلية جديدة تضاف إلى رصيد الغاز الطبيعي المسال.
وبحسب تقرير التوقعات السنوية الذي أطلقته شركة "رويال داتش شل" في فبراير 2020، فمن المتوقع أن يرتفع الطلب على الغاز الطبيعي المسال من 359 مليون طن في 2019 إلى 700 مليون طن في 2040، وسيكون هذا الارتفاع مُستنداً على كل من: الولايات المتحدة والصين اللتين شكلتا ما نسبته 70% من إجمالي نمو الطلب في الفترة الممتدة ما بين (2010 - 2018).
إن الجوانب الإيجابية للغاز الطبيعي بشكل عام وللمسال منه على وجه التحديد، لا تعني ولا بأي شكل من الأشكال أنه كان بمعزل عن الآثار الاقتصادية السلبية التي ما زال يخلفها تفشي فيروس "كورونا" المستجد، فعلى سبيل المثال؛ انخفض سعر الغاز الطبيعي المسال في السوق الآسيوية المستهلكة الأكبر، إلى 2.8 لكل مليون وحدة حرارية بريطانية*، أي أقل بـ 4 دولارات مقارنة بأسعار أكتوبر 2019. كما وأشارت وكالة "رويترز" في يونيو 2020 إلى وجود عشرات الناقلات المحملة بالغاز الطبيعي المسال والعالقة في البحار بسبب امتلاء المخزونات الاستراتيجية في الأسواق الأوروبية وفي كوريا الجنوبية واليابان.
مجموعة السبع والغاز الطبيعي المسال
أشارت وكالة الطاقة الدولية في تقريرها المعنون بـ "2019 Global Gas Security Review" إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية ستتقدم على كل من: أستراليا وقطر في إنتاج الغاز الطبيعي المسال في عام 2024 بواقع 113 مليار متر مكعب سنوياً، كما وستصبح الصين في العام نفسه، أكبر مستهلك للغاز المسال في العالم بواقع 109 مليارات متر مكعب.
تستمر واشنطن في اللحاق وراء تطلعاتها في أن تصبح في المركز الأول في مجال الطاقة على مستوى العالم، فبعد أن تربعت على عرش منتجي النفط الخام في عام 2018 متجاوزة كل من: روسيا والمملكة العربية السعودية، تقوم شركة "شيفرون" الأمريكية على رأس عدد من الشركات الأمريكية الأخرى، بالبحث عن مختلف السبل لتحقيق موقع ريادي في صناعة الغاز الطبيعي المسال، وكدلالة على ذلك قامت الشركة المذكورة في يوليو 2020 بالاستحواذ على شركة "نوبل إنرجي" عبر صفقة تبادل للأسهم بلغت 5 مليارات دولار، مع العلم أن شركة "نوبل إنرجي" تمتلك امتيازات استخراج الغاز الطبيعي في عدة مناطق في الشرق الأوسط، بالأخص في المياه الإقليمية لكل من: إسرائيل وقبرص.
إن دول الاتحاد الأوروبي (الأعضاء وغير الأعضاء في مجموعة الـ G7) لا تمتلك ما يكفيها من الوقود الأحفوري، بالأخص بعد بوادر انكماش الإنتاج النرويجي من النفط والغاز التي بدأت في الظهور منذ عام 2013 تقريباً، هذا الوضع يجعل من القارة الأوروبية سوق تصريف هائل للطاقة بين المتنافسين - وبالأخص بين الولايات المتحدة وروسيا - في مجال الغاز الذي زاد اعتماده من قبل العديد من الدول الأوروبية بدلاً من الفحم، ما يشكل طلباً أكبر على الغاز الطبيعي بشكل عام.
تعمل واشنطن على إقناع "حلفائها" في القارة الأوروبية بضرورة تنويع مصادر الطاقة لديهم، وعدم الاعتماد بدرجة كبيرة على روسيا في هذا المجال، مع العلم أن روسيا تؤمن 40% من احتياجات الاتحاد الأوروبي الطاقوية بشكل عام. ومن المعلوم أن السبب من وراء هذه الدعوات الأمريكية هو السعي المحموم لترويج صادراتها من الغاز الطبيعي المسال، هذا السعي الذي وصل حد إقدام الإدارة الأمريكية على فرض عقوبات على أنشطة الشركات المساهمة في بناء "السيل الشمالي 2" المعروف أيضاً باسم "نورد ستريم 2"، وهو عبارة عن أنبوب غاز تبلغ تكلفته 10 مليار يورو والذي من المفترض أن يربط روسيا مع الأراضي الألمانية عبر بحر البلطيق وبسعة إجمالية تبلغ 55 مليار متر مكعب، ليرد الاتحاد الأوروبي وروسيا باستنكار الخطوة الأمريكية المعترضة على نشاط اقتصادي شرعي بين دول ذات سيادة.
ويُعتبر اعتماد الولايات المتحدة على الغاز الطبيعي المسال كبير مقارنة مع روسيا الاتحادية المستفيدة من جغرافيتها المتصلة مع قارتي آسيا وأوروبا، إلا أن تسييل الغاز أو نقله عبر الأنابيب أصبحتا عمليتين مترافقتين على الدوام، وذلك رغبة من الدول المصدرة في أن يكون لها موطئ قدم في أكبر عدد ممكن من أسواق التصريف، بغض النظر عن موقعها الجغرافي.
يظهر هنا أن الولايات المتحدة غير راضية عن موقعها في السوق الأوروبية للغاز الطبيعي، على الرغم من شغلها للمركز الثالث بعد روسيا والنرويج، فهي تسعى إلى تعظيم حصتها السوقية مستفيدة من الطفرة الهيدروليكية التي حدثت لديها في استخراج النفط والغاز.
والجدير بالذكر أن النشاط الأمريكي في توريد الغاز الطبيعي المسال وصل إلى غريم الولايات المتحدة التجاري، حيث تقوم ناقلات الغاز المسال الأمريكية بمزاحمة الموردين الأصليين (أستراليا وقطر وغيرهما) على سواحل جمهورية الصين الشعبية، ومن المتوقع أن تصبح الولايات المتحدة المورد الأول للغاز الطبيعي المسال إلى الصين بعد تطبيق المرحلة الأولى من الاتفاق التجاري بين واشنطن وبكين.
ونبقى في آسيا، حيث اليابان أكبر مستورد للغاز المسال في العالم، المهددة بفقدان هذه المرتبة لصالح الصين مع نهاية العام الجاري، حيث بلغت واردات اليابان من هذه السلع قرابة الـ 36.1 مليون طن مقابل 30.8 مليون إلى الصين حتى يونيو 2020؛ بحسب وكالة رفينيتيف. وتُعتبر الولايات المتحدة الأمريكية عاشر أكبر مورد لليابان في قائمة كبيرة تضم دول مثل: قطر، وروسيا، وأندونيسيا، وأستراليا، وغيرها.
وتشارك اليابان من خلال شركة "ميتسوبيشي" - إلى جانب شركات أخرى من: الصين وماليزيا وكوريا الشمالية - في مشروع ضخم لتسييل الغاز في مقاطعة بريتيش كولومبيا في غرب كندا، تبلغ تكلفته 40 مليار دولار، ويهدف إلى تلبية الطلب الآسيوي.
تُعتبر كندا المورد الأول للغاز الطبيعي إلى الولايات المتحدة، ففي عام 2019 كانت 98% من الواردات الأمريكية من الغاز الطبيعي آتية من كندا، مقابل 89% من صادرات الطاقة الأمريكية قد ذهبت إلى كندا؛ بحسب إدارة معلومات الطاقة الأمريكية.
الخاتمة
لطالما كانت تجارة الطاقة تمثل الشكل الأكثر وضوحاً بين الاقتصاد والبعد الجيوسياسي، الذي يشير إلى ضرورة تأمين مناطق التنقيب والاستخراج وضمان سلامة خطوط الإمداد وغير ذلك، وهنا يظهر الغاز الطبيعي - والمسال منه تحديداً - كعامل يزيد من تشابك العلاقات الاقتصادية، وبالتالي تعقيدها سياسياً على المستوى العالمي.
ومن الملاحظ اكتساب الدول التي تعتبر أسواق تصريف للغاز الطبيعي حيز مناورة سياسية واسع إلى حد ما؛ لكثرة المعروض في بعض الفترات. وعليه؛ فإن هذه الدول تختار السعر المناسب مع إبقاء المورّدين في حالة من اللايقين حول مدى استقرار العلاقات السياسية والدبلوماسية.
يُظهر هذا العرض وجود تحدٍ كبير أمام الدول الصناعية الكبرى - في حال انعقدت قمة مجموعتهم أم لم تنعقد - ويتمثل في مدى إمكانية تنسيق ملف الطاقة فيما بينهم وبالأخص بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية من أعضاء المجموعة، وتحديداً فيما يخص سوق الغاز الطبيعي باعتباره يكتسب مكانة متعاظمة في خارطة الطاقة الدولية الضامة للعديد من اللاعبين غير المتفقين من الناحية المصلحية.
*(المليون وحدة حرارية تعادل 28.26 متر مكعب من الغاز الطبيعي)
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: