يأتي الدور الإيراني في الأزمة الاوكرانية ليسجل حضوره الثاني في حرب تندلع بالقارة الأوروبية، بعد المشاركة السابقة في الحرب البوسنية عام 1996، إلا إن الفارق الرئيسي هنا؛ هو أن المشاركة الإيرانية في أوكرانيا أكثر حضوراً وأوسع انتشاراً، ففي الوقت الذي اقتصر فيه الدور الإيراني في الحرب البوسنية على مشاركة مقاتلين من الحرس الثوري فقط، مع تقديم دعم محدود بالأسلحة الخفيفة للمقاتلين البوسنيين، إلا أنه في أوكرانيا أخذ مجالات أخرى، أبرزها تقديم دعم واسع لروسيا، وتحديداً على مستوى الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية وحضور مستشاري الحرس الثوري، ما يثير العديد من الأسئلة والاستفسارات حول طبيعة الدوافع الاستراتيجية التي تقف خلف هذا الدور الإيراني؟
رغبة إيرانية متعددة الإتجاهات
وجدت روسيا في إيران فاعلاً يمكن توظيفه في الأزمة الأوكرانية، خصوصاً وأن لإيران دوافع للمشاركة فيها؛ أبرزها الرغبة في مُناكفة الجانب الأمريكي. ولتخفف روسيا كذلك من العبء العسكري عليها، وتقلل نفقاتها الحربية، عملت على الاستفادة من القدرات العسكرية الإيرانية، حيث زودت طهران موسكو بالعديد من الطائرات المسيرة من مختلف الأنواع، أبرزها شاهد 136، التي يبلغ مداها 2000 كيلو متر، والقادرة على حمل رأس حربي أو 50 كيلو غراماً من المتفجرات، ويمكنها استهداف مواقع استراتيجية أو منشآت بنية تحتية حيوية؛ مثل المطارات ومحطات الكهرباء أو شبكات الاتصالات، حيث أعادت موسكو تسميتها باسم جيران 2، وهي طائرات مصممة لتلائم أسلوب الكاميكازي -الطائرات الانتحارية-، بالإضافة إلى مساعدة القوات الروسية في القضاء على أهداف ثابتة بالقرب من الخطوط الأمامية، حيث مكّن استخدام روسيا لهذه الطائرات، شن العديد من الضربات في مدن أوكرانيا بالأسابيع الأخيرة، كوسيلة لتعويض التراجع العسكري في بعض الجبهات الجنوبية، وتحديداً في مدينة خيرسون.
إذ تحاول إيران وعبر انخراطها بالأزمة الأوكرانية، توسيع مجالات التعاون مع روسيا، خصوصاً على مستوى صفقات السلاح، والاستفادة من دروس الحرب في أوكرانيا، على مستوى تطوير العقيدة العسكرية ورفع الكفاءة القتالية وتحسين القدرة الفنية للطائرات المسيرة، والأكثر من ذلك؛ تدرك إيران أهمية استنزاف الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة سياسياً واقتصادياً في هذه الأزمة، من أجل تخفيف الضغوط عليها في الشرق الأوسط، إذ تنظر إيران إلى أن إطالة أمد النزاع في أوكرانيا، قد يؤدي إلى تشتيت انتباه الغرب عن مواجهة أجندتها في الشرق الأوسط، على الرغم من الكُلف الاستراتيجية الخطيرة التي تقف خلف هذا المسعى، وأبرزها إمكانية اندفاع الولايات المتحدة وحلفائها نحو سياسة أكثر تشدداً لمواجهة إيران.
إن طبيعة الدور الإيراني في الأزمة الأوكرانية، لم يُثر حفيظة الجانب الأوكراني فحسب، وإنما برز ذلك واضحاً في المواقف التي صدرت عن دول أخرى، منها إسرائيل وبريطانيا والولايات المتحدة، وتتصاعد مخاوف هذه الدول وسط تقارير استخباراتية تتحدث عن سعي إيراني لتزويد روسيا ليس فقط بالمزيد من الطائرات المسيرة، وإنما بصواريخ باليستية قصيرة المدى، أبرزها صواريخ فاتح 110 وصواريخ ذو الفقار، التي تتراوح مدياتها ما بين 250 إلى 700 كيلو متر، وهو ما يمكن اعتباره تصعيد آخر للدعم الإيراني لروسيا، فهذه الصواريخ تعمل بالوقود الصلب، ومن بين أكثر الصواريخ دقة في ترسانة الصواريخ الباليستية الإيرانية، والتي استخدمتها إيران لأول مرة في قصف صاروخي ضد مواقع لتنظيم "داعش" عام 2017 في سوريا، وكذلك في عملية الهجمات التي طالت قاعدة عين الأسد غرب بغداد في يناير 2020، كرد على حادثة اغتيال قائد فيلق القدس حينها قاسم سليماني.
إن الاستعانة الروسية بالقدرات العسكرية الإيرانية، وفر لها مخرجاً استراتيجياً مهماً للحفاظ على ترسانتها العسكرية، وأهمها صواريخ اسكندر قصيرة المدى، وصواريخ غراد قصيرة ومتوسطة المدى (BM-21)، وصواريخ كروز (جو -أرض)، فهي أعلى كلفة من الصواريخ الإيرانية، وفي هذا الإطار أيضاً تسعى إيران عبر دعمها المستمر لروسيا وتحديداً على مستوى السلاح والمستشارين، إلى رفع قيمتها الاستراتيجية في النسق العقيدي الروسي، وتحديداً على مستوى الشراكة الاستراتيجية مع روسيا ضد الغرب، وقد يكون ثمرة هذا الدعم الإيراني لروسيا، بحصولها على الطائرات المقاتلة الروسية المتطورة؛ حيث كشفت تقارير أن روسيا تستعد لتسليم إيران عدداً من طائرات سوخوي-35. وهناك ترجيحات أن تطلب طهران التزود بنظام الدفاع الجوي S-400.
ضرورات استراتيجية خلف الدور الإيراني
تدرك إيران أن القيمة الاستراتيجية التي توفرها الساحة الأوكرانية ستجعلها قادرة على معالجة الكثير من التحديات التي تقف في وجه صناعاتها الدفاعية، وتحديداً في إمكانية زيادة فعالية طائراتها المسيرة وصواريخها الباليستية على تجاوز الأنظمة الدفاعية الغربية المستخدمة من قبل الجيش الأوكراني، وأبرزها صواريخ "ستينغر" الأمريكية المضادة للطائرات، فالغاية العسكرية الإيرانية تتمثل في سعي إيران لتطبيق الدروس المستفادة من المسرح الأوكراني، على تطوير الأسلحة والتكتيكات العسكرية المستقبلية في الشرق الأوسط. وأيضاً من وجهة النظر الإيرانية، يأتي ذلك الدعم في سياق توسيعها الهجوم ضد الغرب، فعلى مدى عقود، سعت إيران لتوسيع نفوذها وإضعاف منافسيها من خلال توفير الأسلحة - بما في ذلك الطائرات المسيرة والصواريخ التي قدمتها لروسيا - إلى وكلائها في دول مثل لبنان واليمن وقطاع غزة.
وبعيداً عن ميدان المعارك في أوكرانيا، هُناك حاجة لإيران أن تبقى روسيا دولة حاضرة على المستوى الدولي، وهذا منوط اليوم بسير عملياتها في أوكرانيا، حيث هزيمة روسيا ستؤدي إلى تموضعها داخلياً، وتركيز زخمها الاستراتيجي والجيوسياسي على المستوى الإقليمي، وهو ما يعني فقدان إيران لداعم لها على المسرح الدولي، وهو ما سيترتب عليه تداعيات على القضايا الإيرانية الحاضرة إقليمياً ودولياً أبرزها المفاوضات بشأن ملفها النووي، والتصويت الروسي لصالحها في مجلس الأمن.
علاوةً على ذلك،قد تساعد الأزمة الأوكرانية، إيران على تحسين موقعها في وجهة نظر روسيا، من خلال دورها في الجهود التي تبذلها موسكو من أجل التصدي للاستراتيجيات الغربية الهادفة إلى فرض عقوبات عليها، خاصة وأن طهران تمتلك خبرة في تجاوز العقوبات أو التخفيف من آثارها الاقتصادية.
وبهذا القدر من الأدوار الإيرانية الاقتصادية والعسكرية، فقد يُقابلها مطالبة إيرانية لروسيا بتقديم تنازلات في المواقف التي تتعارض مع مصالحها، والتي لم تتمكن طهران من ممارسة التأثير اللازم لتغييرها سابقاً، مثل التعاون الأمني بين روسيا وإسرائيل في المسألة السورية، وقد تُوظف ذلك أيضاً بزيادة انخراطها في مناطق أوراسيا، والذي تُرجم بانضمامها لمنظمة شنغهاي للتعاون الإقتصادي، حيث روسيا هي الحاضر الأقوى في مناطق مثل آسيا الوسطى.
ومُحصلة ذلك، أن الأزمة الأوكرانية وفرت لإيران وسيلة لإرساء علاقات أكثر إنصافاً وتوازناً مع قوة مثل روسيا، على الرغم من أن إمداد روسيا بالطائرات المسيرة كان له تكلفة كبيرة على طهران، حيث أدت إلى تخفيف الرغبة الأمريكية من قبل إدارة الرئيس جو بايدن بإنجاز اتفاق نووي جديد مع إيران، ودفع الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات عليها لدورها في الأزمة الأوكرانية.
وإلى جانب المكاسب الجيوسياسية أو المقايضات الاستراتيجية التي قد تقدمها روسيا لإيران، والتي قد تشمل تحديث سلاحها الجوي ومنظومات الدفاع الجوي الإيرانية، وحصولها على تقنيات نووية متقدمة، فإن لانخراط المسيّرات الإيرانية في ساحات المعارك يُقدم للصناعات الدفاعية الإيرانية ميدان تجارب فعلي يخدم تصاميمها المستقبلية، بعد أن كانت تمنح تصماميها لوكلائها والسماح لهم باستخدامها وإرسال تجاربهم إلى إيران. وعلى أقل تقدير؛ ستقوم إيران باستخدام العائد من تجارب الاستخدام الروسي لمسيراتها بتطويرها لنماذج أكثر حداثة وتقدماً، وهُناك تقارير تحدثت عن تعاون صيني أوسع في تمكين إيران من تصنيع طائرات مسيرة وإمدادها إلى روسيا، وكذلك سيمنح الاستخدام الروسي المتزايد للمسيّرات دفعة قوية للصادرات الإيرانية منها، بعد أن قامت بتصديرها سابقاً لعدد محدود من الدول مثل فنزويلا وطاجكستان والسودان وإثيوبيا، بذلك يوفر الاستخدام الروسي لها دعاية مجانية خاصة أنها استخدمت سابقاً في هجمات محدودة وضد أهداف ثابتة وضمن عمليات منخفضة الكثافة، وهو ما تغير بعد أن استخدمت كسلاح رئيس في المعارك اليومية داخل أوكرانيا سواء على خطوط الجبهات المتقدمة "مرتفعة الكثافة" أو في الهجمات داخل العمق الأوكراني، وهو الأمر الذي لا يزال قيد الاختبار الفعلي.
تداعيات معقدة
أنتج الانخراط الإيراني في الأزمة الأوكرانية، تداعيات كبيرة على مستقبل المنظومة الأمنية في أوروبا، خصوصاً في ظل تطبيقات عقيدة الحرب الهجينة التي بدأ يعتمدها الروس في هذه الحرب، بعد فشل استراتيجية الهجوم الشامل والتعبئة العامة، والتي تعتمد في جزء كبير منها على استخدام الطائرات المسيرة الانتحارية ودور مستشاري الحرس الثوري في إعادة تنظيم استراتيجية الحرب وفق المعطيات العسكرية الجديدة التي فرضها الجيش الأوكراني، ورغم أن الدور الإيراني لم يؤدي إلى ذلك التغيير الكبير في مجريات الحرب ونتائجها، إلا أن تأثير هذا الدور سيلقي بظلاله كلما طال أمد النزاع، حيث يمكن لروسيا أن تستغل رخص الأسلحة والمعدات العسكرية الإيرانية لتقويض الجدوى طويلة المدى لاستراتيجية أوكرانيا الدفاعية.
وهُناك مخاطر وتداعيات على أمن الشرق الأوسط وأوروبا جراء المُشاركة الإيرانية في الأزمة الأوكرانية، من خلال الدور الذي تلعبه الطائرات المسيّرة الإيرانية في زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، حيث استخدمت بكثافة في هجمات ضد أهداف سعودية وإسرائيلية، وفي مضايقة القوات الأمريكية في مياه الخليج العربي، وكذلك دورها المزعزع للملاحة الدولية في المنطقة، ومن شأن نقل هذه التكنولوجيا وتطويرها أن يُضاعف من تلك المخاطر وينقلها بشكل مماثل إلى أوروبا، حيث تراقب دول أوروبية بالفعل مثل ألمانيا نشاط المسيّرات الإيرانية في أوكرانيا، وتدرس تطورها وتبحث في سُبل مواجهتها، خاصة مع التقارير أن طهران وموسكو تدرسان تصنيع تلك المسيرات في الداخل الروسي لاستخدامها بكثافة في عملياتها العسكرية في أوكرانيا، وهي تجربة قد يتم نقلها إلى دول أخرى مثل فنزويلا أو كوريا الشمالية.
وفي هذا السياق أيضاً؛ يمكن القول بأن إيران حاولت عبر دورها الراهن في الأزمة الأوكرانية، أن تعيد إنتاج ذات المكاسب التي حصلت عليها في أزمات دولية سابقة، كما في أفغانستان والعراق، فهي تطمح لطرح نفسها كشريك موثوق به عبر دعمها لروسيا، وكذلك لحجز موقع مهم في خارطة تصدير الغاز لتعويض الاحتياج الأوروبي، كمدخل للشروع في المحادثات النووية من جديد، والأهم من ذلك كله تعزيز موقعها في خارطة التوازنات الاستراتيجية في الشرق الأوسط، التي بدأت تميل لصالح قوى أخرى أبرزها إسرائيل، إلا أن ذلك لا ينفي حقيقة أن تقارب إيران مع روسيا في الأزمة الراهنة هو تقارب تكتيكي أكثر منه استراتيجي، وقد تحدد المسارات المستقبلية للأزمة الأوكرانية، ملامح قوة وضعف هذا التقارب، خصوصاً إذا ما نجحت العقوبات الدولية على الدولتين في تقويض التعاون المتنامي بينهما في الأزمة الأوكرانية، أو عبر تقديم عروض جديدة لطهران تدفعها لإيقاف دورها هناك.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: