تنتعش الآمال بقرب التوصل إلى تسوية سياسية تُنهي أكثر من 6 سنوات من الاقتتال واسع النطاق على امتداد الرقعة اليمنية، والذي يجري على أكثر من مستوى: فمحلياً تتنازع الحكومة الشرعية وقوات أنصار الله "الحوثيين" التي تدعم حكومة "الإنقاذ". أما إقليمياً فيمكن النظر إلى المشهد اليمني على أنه جزء من الاشتباك الجيوسياسي بين طرفين أحدهما بقيادة السعودية والآخر بقيادة إيران، ولذلك لا يمكن إدراك جوهر الصراع في اليمن دون الوعي بديناميكيات الحرب بالوكالة وما تتضمنه من استخدام "محدد ومدروس" للقوة دون الدفع نحو مواجهة أكثر صراحةً.
وطوال سنوات الصراع اليمني، كثُرت المبادرات الهادفة إلى إنهاء الاقتتال، وأكدت معظم الشخصيات السياسية الدبلوماسية ذات الصلة بالملف اليمني على ضرورة التوصل إلى حل سياسي للأزمة، ولكن كل هذه النوايا الحميدة لم تُفلح في إحراز تقدم فعلي في صناعة السلام.
إلا أن التوقيت الحالي يحمل في طياته مؤشرات حيوية تدل على إمكانية خفض التصعيد في اليمن. فأولاً تدرك تماماً كل الأطراف المحلية والإقليمية المنخرطة في الملف اليمني بعد هذه السنوات أن لا طائل من الاستمرار في هذا الصراع المعلّق الذي لا يمكن حسمه عسكرياً؛ فالحكومة الشرعية لا تمتلك القدرة البشرية على التغلغل في نطاقات سيطرة "الحوثيين" وإن كانت مسنودة بغطاء جوي متقدم توفره عمليات "التحالف العربي". أما قوات أنصار الله فلا تستطيع الانتشار بصورة مكشوفة تجنباً للضربات الجوية، فهي تفتقر لمضادات الطائرات ولغيرها من الوسائل اللازمة لتأمين سيطرتها على الأرض.
أما ثانياً، تسعى إدارة بايدن إلى إنهاء الحرب في اليمن مانحةً الكثير من الزخم للبعد السياسي كوسيلة لحسم الموقف، حيث يولي فريق بايدن أهمية قصوى للملف الإنساني لاعتبارات تتعلق بعودة واشنطن إلى ممارسة الدبلوماسية القائمة على المبادئ "Principled Diplomacy". وأظهر الخطاب الرئاسي حول السياسة الخارجية الأمريكية الذي ألقاه بايدن في فبراير 2021 ملامحَ الاستراتيجية الأمريكية لفرض تسوية في اليمن تقوم على "إنهاء كل الدعم الأمريكي للعمليات الهجومية للحرب في اليمن، بما في ذلك مبيعات الأسلحة ذات الصلة"، وتهيئة الظروف القانونية لبلورة حل دبلوماسي عبر نزع صفة الإرهاب عن "الحوثيين" وإلغاء القرار الذي أصدرته الخارجية الأمريكية في أواخر رئاسة ترامب والقاضي بتصنيفهم جماعةً إرهابية، ذلك أن القانون والعرف الأمني الأمريكي يحظر التواصل، أو دعم التواصل، مع أي جهة موضوعة على قوائم الإرهاب.
في المقابل، والتزاماً منه بسمعة واشنطن الدولية كحليف موثوق يمكن الاعتماد عليه؛ أكد بايدن على التزامه بحماية السعودية من الهجمات التي تقوم بها جهات "تسلحها إيران في عدة دول"، فمن غير المنطقي افتراض أن واشنطن ستنسحب تماماً من الإسناد العسكري للسعودية، لما سيحمله ذلك من دلالات سلبية.
وثالثاً، فقد أعلنت الإدارة الأمريكية أنها ستطبق معايير "الدبلوماسية القصوى" للتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، مما سيُخضع كل الملفات التي تنخرط فيها إيران للمراجعة وعلى رأسها الملف اليمني. فصحيح أن طهران تعلن أنه لا نقاش حول سياساتها الإقليمية إلا أن التجربة التاريخية والعملية تثبت أن التوافق على قضية حساسة يتلوها انفراجة في باقي القضايا.
وتؤكد واشنطن حرصها على أن لا تؤثر خطواتها القادمة حيال الملف النووي الإيراني على الأمن القومي لحلفائها، إذ يُفترض أن يراعي المفاوض الأمريكي الاعتبارات الأمنية لدول المنطقة أثناء الإعداد لصيغة نووية جديدة، بحيث يتم الضغط نحو إيقاف الدعم "الاستشاري" المعلن وغير المعلن الذي يوفره الحرس الثوري الإيراني للحوثيين كنوع من إثبات حسن النوايا الإيرانية ورغبتها في انتهاج سلوك طبيعي مع محيطها الجيوسياسي.
فعلى الأغلب، يتعين هذه المرة على طهران إثبات حسن نواياها الإقليمية قبل التنفيذ الفعلي لرفع العقوبات الاقتصادية الرئيسية عنها، تجنباً لسيناريو تلا الاتفاق النووي الذي وُقّع في عهد أوباما، حيث سخّرت إيران – وفقاً لتسريبات رسمية – الوفرَ المالي الناتج عن الاتفاق لتمويل أنشطتها الخارجية، مما منح الزخم الكبير لنفوذها الإقليمي. ويُتوقع أن لا تكرر إدارة بايدن هذا الخلل الاستراتيجي.
مفاوضات على الأرض قبل الطاولة
يُجمع خبراء المفاوضات الدولية على أن ما يجري على طاولة المفاوضات ما هو إلا امتداد للحقائق الميدانية على الأرض، لذلك يجتهد مختلف الأطراف لتأكيد قوتهم من أجل تحسين موقعهم التفاوضي.
وبالفعل تشهد بعض الجبهات حراكاً من قبل الحوثيين، كمأرب التي يحشدون أنصارهم حولها للسيطرة عليها بغية انتزاع التمثيل السياسي والديمغرافي للمنطقة الشمالية المحاذية للحدود السعودية. كما ازدادت وتيرة الهجمات على أهداف في العمق السعودي في هذه الفترة (فبرير 2021) التي تُنفَّذ عبر الطائرات المسيَّرة والصواريخ الباليستية. ويُصر المستوى السياسي لحكومة الإنقاذ اليمنية على أن هذه الهجمات ستتوقف إذا ما توقفت عمليات التحالف العربي.
في المقابل، وعملاً بمبدأ العصا والجزرة، يُلاحَظ وجود نوع من الحراك "الاجتماعي السياسي" على صعيد تبادل الرهائن عبر وساطات قبلية محلية، كما تستضيف عَمان اجتماعات مباشرة برعاية أممية بين ممثلي الحكومة اليمنية والحوثيين لبحث السبل اللازمة لتنفيذ اتفاق سابق للإفراج عن الأسرى والمعتقلين.
ومن شأن الحراك العسكري والدبلوماسي أن يحفّز مختلف الأطراف للمضي قدماً نحو صياغة تسوية ما تنهي هذا النزيف الاستراتيجي المكلف الذي يفاقم الأعباء التي تواجهها الدولة في زمن كورونا، فكثير من الدول تراجع سياساتها الخارجية وتحاول إنهاء انخراطها في الملفات المكلفة اقتصادياً لتوفير السيولة اللازمة لمواجهة تداعيات هذا الوباء.
وسيصطدم البحث عن "مخرج" للأزمة اليمنية بعدة عقبات محلية، أبرزها:
1. عدم تماثل قوة أنصار الله والحكومة الشرعية
بمعزل عن الإسناد الخارجي، يُظهر ميزان القوى رجحان كفة "الحوثيين" على حساب القوات الحكومية، مما يعطي الجماعة المسلحة تفوقاً نفسياً سيُعمّق من رغبتها في انتزاع مزيد من التمثيل في التركيبة السياسية الرسمية القادمة.
كما أظهرت القوى المدعومة من إيران تماسكاً في الموقف على عكس الحكومة الشرعية التي تصادمت مع بعض الجهات التي كان يُفترض أن تسندها تماماً، مثل المجلس الانتقالي الجنوبي، وعكسَ هذا الخلاف تبايناً في منظومة الدول المناوئة للنفوذ الإيراني في اليمن، إلا أن الجهود تُبذل لتقريب المواقف وتوحيد "الجبهة" سياسياً وعسكرياً ضد العدو المشترك.
وهنا يبدو ضرورياً ابتكار توليفة سياسية تراعي مصالح القوى الفاعلة كافة، دون إقصاء طرف ودون هيمنة طرف على القرار السياسي اليمني.
2. هشاشة البنى المؤسسية القائمة وازدواجيتها
بعد سيطرة القوات المدعومة من جماعة "أنصار الله" على العاصمة اليمنية صنعاء في سبتمبر 2014، اضطرت الحكومة الشرعية لإعلان عدن عاصمة مؤقتة تُمارَس منها المهام المنوطة بالدولة. وفي نوفمبر 2016، حصل تطور دراماتيكي آخر باتفاق المجلس السياسي الأعلى التابع للحوثيين مع حزب المؤتمر الشعبي العام بقيادة الرئيس اليمني السابق، علي عبد الله صالح، على تشكيل "حكومة إنقاذ" تقاسم فيها الطرفان الوزارات والاختصاصات.
ولا تزال هذه الحكومة قائمة من حيث المسمى رغم اغتيال صالح في اشتباك مباشر مع "الحوثيين" في ديسمبر 2017. وقد زادت هذه الحادثة من الفراغ السياسي في البلاد وسط غياب شخصيات وازنة مقنعة شعبياً وتتمتع بنوع من الموثوقية الإقليمية.
ومما يزيد من حالة الفراغ، تردي المؤسسات القائمة وعدم قدرتها على تأدية مهامها نظراً لتهالك الوضع الأمني، فاليمن يرزح تحت وطأة أزمة معيشية حادة تعصف بالمدنيين على أكثر من صعيد، كتوفير الرعاية الصحية وتأمين المياه الصالحة للشرب وتقديم محتوى تعليمي للأطفال بعيداً عن التطرف و"الخرافات".
ولو افترضنا تحقيق توافق سياسي في اليمن، فإن هنالك تحدياً لتحقيق توافق إداري بين المؤسسات القائمة لا سيما وأن الوضع الحالي أفرز "تجار حرب" يستفيدون من حالة غياب الدولة، وسيمانعون أي تغيير يقوض من قدراتهم المالية. فخلف المؤسسات المزدوجة المتمثلة بحكومتين "هشتين" تقبع عدة شبكات تمارس الأدوار الاقتصادية المنوطة بالدولة.
ووفقاً لأحدث تصنيف لمؤشر الدول الهشة "Fragile States Index" كانت اليمن هي الدولة الأكثر هشاشةً متقدمة على الصومال التي كانت حتى وقت قريب مضرب المثل كدولة فاشلة.
ويتعين على المهتمين بصناعة استقرار في اليمن مراعاةَ الحقائق المعيشية القائمة، ومحاولة الاستفادة من دراسات ما بعد الحرب "Post War Studies" التي تركز على نقل الاستقرار من المستوى السياسي إلى المستوى الاجتماعي بحيث يتم تخفيف مصادر النزاع وتهيئة البيئة الملائمة لممارسات طبيعية في إطار "الدولة".
3. انتشار السلاح خارج التشكيلات المقاتلة
قدّرت إحصائيات رسمية وجود قرابة 60 مليون قطعة سلاح في اليمن البالغ عدد سكانه 25 مليون نسمة، بمعدل 3 قطع سلاح لكل مواطن. وهذه الإحصائية - التي نقلتها وسائل إعلام عدّة - صدرت عام 2013 قبل اندلاع المواجهات المفتوحة، ومن المؤكد أن انتشار السلاح بين المدنيين الآن يفوق ما كان عليه في ذلك العام. فمن اليسير جداً الحصول على قطعة سلاح "أوتوماتيكي" تضاهي تلك التي تستخدمها الجيوش الرسمية.
وستجد أي حكومة نفسها أمام مأزق شعبي إذا ما سعت إلى ضبط السلاح وحصره في الأطر الرسمية، لا سيما وأن الثقافة الشعبية اليمنية تعتز بالسلاح وتعتبره جزءاً من الهوية المجتمعية. وبالتالي ثمة مخاوف عالية من "عسكرة" النزاعات الضيقة التي ستنشأ بعد تسوية النزاع الكبير، فكثيراً ما أطلعتنا وسائل الأنباء عن مقتل العشرات في اليمن نتيجة اشتباك قبلي أو شخصي.
4. عودة الزخم لفرع تنظيم القاعدة في اليمن
رغم أفول حضور "القاعدة" تحت وطأة السطوة الإعلامية لـ "داعش"، إلا أن فرع القاعدة في اليمن لا يزال يشكل تهديداً أمنياً بارزاً، بسبب الخبرات العملية والتكتيكية التي تمتلكها قياداته، فلطالما كانت الجغرافيا اليمنية ملاذاً آمناً للإرهابيين يستغلونها لغايات التخطيط والتدريب لعمليات إرهابية أو للهروب من الرقابة الأمنية.
وتأكيداً على حقيقة خطورة القاعدة في اليمن، استثنى بايدن عمليات مكافحة الإرهاب من قرار وقف العمليات العسكرية الأمريكية في اليمن، حيث ستواصل أمريكا تعقّب واستهداف مكامن الخطر الإرهابي الذي لا يقتصر فقط على داخل اليمن بل يتعداه إلى دول الجوار وأوروبا، فقد أعلن التنظيم مسؤوليته عن بعض الهجمات الكبيرة التي وقعت في هذه الدول، وأشارت تقارير استخبارية إلى تقديمه الدعم اللوجيستي والتقني في هجمات لم يتبناها رسمياً.
ولذلك، وأمام واقع جديد قيد التشكل، يتوجّب على كل الأطراف القادرة على التأثير في مسار الأحداث في اليمن، كالسعودية وأمريكا وإيران، السعي إلى عدم تعميق الفراغ الأمني وتحييد نزاعاتها عندما يتعلق الأمر بمكافحة الإرهاب. ودون هذه المعالجة سيتمدد الإرهاب، بنسختيه القاعدية والداعشية، قرب مضيق باب المندب الحيوي للملاحة جالباً معه تداعيات وخيمة على الأمن الإقليمي واليمني.
خلاصة القول؛ لا تبدو البيئة اليمنية جاهزة للسلام الآن، وما يتم تداوله عن قرب التوصل إلى حل سياسي ما هو إلا تسوية إقليمية أقرب إلى المقايضة الجيوسياسية منها للتسوية الفعلية، فأمام فرض الاستقرار في اليمن مسار طويل من التعقيدات المحلية الواجب معالجتها. فكما جاء في نظريات ما بعد الحرب؛ عادةً ما يظل جمر النزاع متقداً تحت طبقة هشة من الاستقرار إلى أن يتم تحقيق تنمية شاملة توفر مساراً بديلاً أفضلَ من الواقع المعاش.
ولذلك، وفي أفضل السيناريوهات، سيتم التوصل إلى حل يمني يتم بموجبه إنهاء الصراع ببعده الإقليمي وليظل الانتقال النوعي رهن إرادة اليمنيين وتوافقهم على إعمار وطنهم، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وهو أمر – أي الإعمار– يتطلب كفّ التدخلات الخارجية جميعها وعدم تسخير الثروات اليمنية بصورة لا تصب في الصالح العام للشعب المنهك.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: