شهدت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وقتاً مستقطعاً، خلال "الهدنة الإنسانية" ما بين الحكومة الإسرائيلية والفصائل الفلسطينية المسلحة، والتي بدأت في 24 نوفمبر 2023 واستمرت لمدة سبعة أيام، تبادلت خلالها إسرائيل وحركة حماس مجموعة من الأسرى والرهائن. لكن ما لبثت الهدنة أن انتهت حتى استأنفت إسرائيل عملياتها العسكرية بوتيرة أشد عنفاً، وأعادت التأكيد على أهدافها من الحرب، والمتمثلة في إعادة الأسرى الإسرائيليين، وتفكيك منظومة حماس العسكرية والقضاء على الحركة. مع ذلك؛ فإن الحرب في شهرها الثالث، تأتي بتحولات وتغيرات عدة على مستوى مسرح العلميات العسكرية، وخسائر الطرفين، والموقف العربي والدولي منها، ما يضع مساراتها أمام عدد من الاحتمالات.
معطيات ومواقف
إن معطيات الحرب ومواقف الأطراف ما بعد "الهدنة الإنسانية"، لم تظهر تغيراً جوهرياً عما كانت عليه منذ بداية الحرب، ويمكن تكثيف تلك المواقف من خلال ما يلي:
أولاً: يعد الموقف الأمريكي الأكثر أهمية في المعادلة؛ حيث لا تزال إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن متمسكة برفضها وقف إطلاق النار، وقد استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضد مشروع قرار لمجلس الأمن الدولي يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة في 8 ديسمبر 2023، إذ ترى إدارة بايدن أن وقف إطلاق النار يُفيد حركة حماس، ويعرقل مخططات واشنطن لتغيير الحكم والإدارة في غزة ما بعد الحرب، وتوحيدها مع الضفة الغربية في حكم مركزي تحت قيادة السلطة الفلسطينية بعد إخضاعها لعمليات هيكلة جوهرية.
ثانياً: الموقف الإسرائيلي الرسمي، والذي لا يزال يربط تاريخ نهاية الحرب بتحقيق أهدافها، لأن المعطيات الميدانية لا تُشير إلى اقتراب الجيش الإسرائيلي من تحقيق أهدافه، فالعمليات العسكرية عادت بعد الهدنة بوتيرة أشد، من أجل إخضاع حماس أو تحقيق نصر تكتيكي في أسرع وقت ممكن. ويُمكن ملاحظة أن الموقف الإسرائيلي شهد تصعيداً موازياً تجاه العمليات العسكرية والإجراءات السياسية ضد الضفة الغربية والسلطة الفلسطينية وسط رفضه لأي ترتيبات سياسية تقوي من دور السلطة لتأدية أدوار مستقبلية في قطاع غزة.
ثالثاً: محاولة حركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى، بربط التفاوض على الأسرى المجندين، بوقف الحرب الإسرائيلية، وفق صيغة "الكل مقابل الكل"، وقد كثفت حماس هي الأخرى من عملياتها العسكرية داخل القطاع ضد الجيش الإسرائيلي بالتزامن مع فتح الأخير جبهة جديدة في مناطق خانيونس، لتأكيد ذاتها كقوة رئيسية في قطاع غزة، ورفض الحديث المتداول عن مستقبل الحكم بعد الحرب والذي تستثنى منه الحركة.
اتجاهات الحرب ما بعد الهدنة
يبدو أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تُدار وفق قواعد متغيرة، بحسب الحالة العسكرية وردود الفعل المحلية للطرفين، والضغوط الخارجية، بمعنى أنها لا تسير وفق خطط معدة سلفاً، وأهداف وقواعد حاسمة، ولذلك فإن اتجاهات الحرب تُحددها مجموعة من المتغيرات وهي تكاد تنحصر فيما يلي:
أولاً: التوجه نحو "هدنة إنسانية ثانية"
إن تجديد الهدنة، خطوة تجد لها أساساً من حيث جاهزية الوسطاء (الولايات المتحدة ومصر وقطر)، وتزايد الضغوط المتعددة على أطراف الحرب في المستويات السياسية والعسكرية والإنسانية، وفي مختلف الصعد المحلية والإقليمية، وبالرغم من أن الهدنة الثانية ستكون أكثر تعقيداً، لأن الحديث فيها سيكون حول الأسرى العسكريين لدى الفصائل الفلسطينية، والذي تشترط لتحريرهم تصفير السجون الإسرائيلية من الأسرى الفلسطينيين، إلا أن البحث في صيغة معادلة جديدة يبقى أمراً وارداً في ظل حاجة أطراف الحرب لها (كانت الهدنة السابقة تستند على قاعدة محتجز إسرائيلي مقابل ثلاث أسرى فلسطينيين).
ففي الداخل الإسرائيلي تشتد المطالب الشعبية لـ"حكومة الحرب" خاصة بعد نجاح المفاوضات في تحرير الدفعة الأولى، وقد ترتفع وتيرة الضغوط الشعبية بعد فشل القوات الإسرائيلية من الوصول إلى أحد الأسرى ومقتله، في عملية أدت إلى خسائر في صفوف الإسرائيليين.
أما الفصائل الفلسطينية، فمن المحتمل أنها راغبة في الهدنة، نتيجة للضغوط العسكرية والميدانية وفتح جبهة جديدة في جنوب القطاع وتحديداً من خانيونس، ومطالبات الجيش الإسرائيلي لسكانها بالانتقال نحو مناطق آمنة من رفح، وذلك يُضاعف من الكلف الإنسانية على سكان قطاع غزة، وقد يرتد بشكل عكسي على مدى قبولها مجتمعياً، بالرغم من احتفاظ الفصائل الفلسطينية بقدرات قتالية عالية، بحسب تصريحات من قادتها.
إلى جانب إدراك الولايات المتحدة حاجة الحرب إلى "هدن إنسانية"، من أجل تخفيف الضغوط على الإدارة الأمريكية لا سيما من داخلها والخارج، أو الضغوط الدولية على إسرائيل، نتيجة مفاقمة معاناة أهالي سكان غزة، والنقص الحاد في الأغذية والرعاية الصحية وجميع متطلبات الحياة الأساسية الأخرى.
من هذا المنطلق، قد تسعى أطراف الحرب، كُل وفق مصلحته إلى الموافقة للذهاب نحو هدنة ثانية، حيث تنظر إسرائيل إلى الهدنة الثانية كـ"تكتيك عسكري"؛ إذا ستستفيد منها بتقليل الضغوط الشعبية الداعية لتحرير الأسرى، وتخفيف وتيرة النقد الدولي الموجه للحكومة جراء الحرب، وإعادة التموضع الميداني مع التركيز على عمليات الاستخبارات الميدانية والجوية للوصول إلى معلومات وأهداف ذات قيمة، قد تغير من مجريات الحرب. فيما الفصائل الفلسطينية؛ تجد مصلحتها في التخفيف من الضغوط على أهالي قطاع غزة، وقد تسعى لشمول الأسرى الفلسطينيين من ذوي الأحكام العالية أو الرموز الوطنية مثل مروان البرغوثي وأحمد سعدات من أجل تعظيم المكاسب السياسية المنبثقة عن عملية "طوفان الأقصى" في أنظار المجتمع الفلسطيني سواء في الضفة الغربية وقطاع غزة والداخل الإسرائيلي أيضاً.
ثانياً: التوجه نحو استمرار الحرب بذات الوتيرة
إن استمرار الحرب بذات الوتيرة والحدة المرتفعتين اتجاه مرجح حتى نهاية شهر ديسمبر الجاري أو مع بداية موسم الأعياد، ومن ثُم ستكون الحرب أمام خيارين: فإما أن تستمر "مهما طال أمدها"، وحتى تحقيق إسرائيل لأهدافها، وهي الرؤية التي تتبناها الحكومة الإسرائيلية، أو أن تتراجع حدة العمليات العسكرية الإسرائيلية في مطلع العام القادم، وتنتقل نحو العمليات "الجراحية"، وذلك وفق التقدير العسكري الأمريكي.
في الواقع، يُمكن ملاحظة اتساع ميادين القتال، واشتداد ضراوة الحرب في مرحلة ما بعد الهدنة، وذلك عائد بالأساس إلى مراهنة الطرفين على عامل التوقيت، فمن جهة تسعى إسرائيل إلى تحقيق تقدم ميداني يدفع حماس للموافقة طوعاً على الخروج من المشهد السياسي والأمني في غزة، وهي بذلك تحتاج إلى تحقيق نتائج استراتيجية بتدمير بنية الحركة وقوتها وقيادتها، أو بدرجة أقل إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر في قدرات الحركة العسكرية، يدفع الحركة إلى إعلان "الاستسلام" ومن ثُم الاعتماد على العمل الاستخباراتي والمعلوماتي للإجهاز على ما تبقى من البنى التحتية الاستراتيجية للحركة وشبكة أنفاقها وقيادتها.
فيما تحاول الأخيرة الإبقاء على زخم عملياتها لتأكيد قدرتها على الاستمرار مهما طالت الحرب، وذلك لتحسين شروط التفاوض في أي مفاوضات وترتيبات قادمة. ولترسيخ فكرة أن انتهاء حركة حماس هدف بعيد المنال، وبالتالي الدفع بحكومة الحرب والولايات المتحدة للبحث في خيارات أخرى أقل كلفاً وخسائر بشرية ومادية من استمرار الحرب خلال المرحلة القادمة.
ثالثاً: الوصول إلى حالة من الجمود العملياتي
لعل أبرز التساؤلات التي تدور حالياً على المستوى الرسمي الدولي والشعبي؛ هي "كيف ستنتهي الحرب؟"، فمع دخولها شهرها الثالث، لا يبدو أن أي من الطرفين قادر على الحسم حتى وإن كان على المستوى التكتيكي، وإن الانطلاق من المعطيات الميدانية الراهنة، يجعل من خطاب استمرار الحرب إلى أمد مفتوح مسألة بالغة الصعوبة، حتى أن حكومة الحرب الإسرائيلية التي تتبنى رواية الحرب المفتوحة لا تقدم مزيداً من التفاصيل حول ذلك، خاصة وأن الطرف المقابل يُظهر جهداً عسكرياً للاستمرار في الزخم نفسه من القتال.
وبذلك، هناك احتمال أن تدفع المعطيات الميدانية وغيرها من العوامل الأخرى مثل الضغوط الدولية والإنسانية، إلى تحقيق الجمود في الميدان، وعلى خطوط التماس، والدخول في وقف طويل لإطلاق النار، تفادياً لمرحلة من الاستنزاف الشديد في قدرات أطراف الحرب العسكرية والاقتصادية، وهذا الخيار تزداد فرص تطبيقه كلما كان لإسرائيل سيطرة محكمة في مناطق شمال غزة تحديدا، لضمان عزل القطاع عن المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة.
وثُم من المرجح أن تنطلق الجهود الدبلوماسية للتوصل إلى حلول سياسية وسيطة، من خلال أطراف إقليمية ودولية تتجاوز وسطاء الهدنة، من أجل حث الطرفين على تقديم تنازلات معينة، سواء على صعيد إطلاق الأسرى من الطرفين، أو الوصول إلى ترتيبات لمستقبل غزة، تقبل فيها حركة حماس التنازل عن جزء من خطابها وسلاحها، وضمان دور "معقول" في النظام السياسي الفلسطيني الجديد في الضفة الغربية وقطاع غزة، مقابل إنهاء الوجود العسكري الإسرائيلي، وتقبل إسرائيل بشروط الترتيبات السياسية الجديدة لقطاع غزة (الرؤية الأمريكية).
لكن هذا الاتجاه أيضاً، قد يفضي إلى نتائج أخرى، من قبيل عودة قطاع غزة إلى الحالة السابقة للانسحاب الإسرائيلي منه أو ما يعرف بـ"خطة فك الارتباط الأحادية الإسرائيلية" عام 2005، من خلال تحول المواجهات وتركزها في المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية في شمال غزة.
رابعاً: الدفع نحو خيار التهجير كأمر واقع
إن الوقائع الميدانية، والخطوات الإسرائيلية، تُبقي على خيار التهجير القسري للمواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة أمراً قائماً، إذ أن الجيش الإسرائيلي يفرض حصاراً عسكرياً على شمال قطاع غزة، ويمنع دخول المواد الغذائية والوقود إليه حتى أثناء الهدنة السابقة، ويقوم بعمليات تمشيط واسعة في حدوده، بحثاً عن تدمير أي بنى تحتية عسكرية ومدنية فيه، ويفرض حصاراً على معظم الخدمات الطبية، ويستهدف تجمعات النازحين في المدارس وساحات المستشفيات.
وفي مرحلة ما بعد الهدنة، بدأ الجيش عملياته في جنوب القطاع وتحديداً منطقة خانيونس التي تشهد أكبر عدد من النازحين من مناطق الشمال، وقد أعاد تكرار ذات الاستراتيجية المتبعة في الشمال، عبر دعوة السكان في خانيونس إلى الانتقال نحو أقصى جنوب غزة في مدينة رفح على الحدود مع مصر، وتخريب خطوط المياه الرئيسية التي تربط رفح بخانيونس، ما أدى إلى انقطاع المياه عن مناطق واسعة منها، وتتبع سياسة "الأحزمة النارية" التي تخلف أكبر قدر ممكن من الدمار في البنى التحتية والخسائر البشرية.
وبالتالي؛ فإن إسرائيل تسعى لفرض واقع ميداني مُغاير وجغرافية مختلفة لقطاع غزة عما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر، ومع تضييق المساحات القابلة للحياة أمام أهالي القطاع، ونُدرة الموارد الرئيسية، وفقدان الخدمات الأساسية، فضلاً عن تكدس مئات الآلاف من السكان في نطاقات جغرافية ضيقة، فإن إسرائيل تطبق سيناريو التهجير وتضعه كأمر واقع، وإن كانت لم تعلن عن ذلك صراحة.
وأخيراً؛ فإن شكل الاتجاه الذي سيحكم انتهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، سيكون محكوماً بمجموعة من المتغيرات، في مقدمتها توصل الإدارة الأمريكية إلى قرار مفاده أن استمرار الحرب يخفض من فرص الرئيس الانتخابية، وأن الضغوط الدولية والإقليمية وصلت حداً غير مسبوق يستدعي معها وقف الحرب وتبعاتها على سمعة إسرائيل، ومن جهة أخرى؛ قد تصل أطراف الحرب إلى مستوى من الإنهاك العسكري يدفعها للتوصل إلى هدنة إنسانية تتطور ضمنياً إلى وقف شامل لإطلاق النار. وفي جميع الاتجاهات فإن وقف الحرب بتحقيق انتصار عسكري يبدو أمراً مستبعداً، وأن التسويات السياسية هي ما يمهد الحلول لمستقبل قطاع غزة، وما سيحدد ذلك المستقبل هو شكل الميدان الذي توقف الحرب عنده.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: