في تصعيد خطير للاشتباكات العسكرية الدائرة في أوكرانيا منذ فبراير 2022، وفي خطوة تعد الأولى من نوعها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 21 سبتمبر 2022 خلال خطاب متلفز التعبئة العسكرية الجزئية، محذراً من أنّ روسيا مستعدة لاستخدام "كل وسائلها" الدفاعية بما في ذلك الأسلحة النووية، "لحماية نفسها" وواصفاً الأمر بأنه "ليس مجرد خدعة"، ومتهماً الغرب بتجاوز كل الخطوط الحمراء في التعامل مع روسيا، وأنه يسعى لـ "تدمير" بلاده، وأن أوكرانيا تصعد عسكريا بأوامر مباشرة من قادة الغرب.
وفي السياق قال وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، إن روسيا ستستدعي 300 ألف جندي احتياط، وهو ما يمثل نحو 1.1% من القدرات التي يمكن استدعاؤها والتي تقدر بنحو 25 مليون شخص مسجلين في القوات الاحتياطية.
وترافق إعلان بوتين بشأن التعبئة العسكرية الجزئية مع تأييده خطة استفتاء على ضم بعض المناطق التي يسيطر عليها الجيش الروسي في الشرق الأوكراني، في إشارة إلى توجه روسي نحو التصعيد متعدد العناصر أو ما يُمكن وصفه بالتصعيد الشامل خلال الفترة المقبلة.
خمس دلالات مهمة
أولاً: تشير الخطوات التي أقدم عليها الرئيس الروسي؛ إنه مصر على الاستمرار في العمليات العسكرية داخل أوكرانيا حتى تحقيق الأهداف التي يريدها، وأنه غير مستعد لقبول ملاحظات أو انتقادات أو نصائح بعض القوى الأسيوية القريبة من بلاده مثل الصين والهند اللتان عبرتا عن مواقف مضادة خلال قمة شنغهاي الاخيرة التي عقدت في أوزبكستان بحضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه.
ثانياً: يبدو أن بوتين غير مستعد لقبول أي تراجع أو هزيمة في أوكرانيا، خاصة بعد التقدم العسكري الملحوظ الذي أحرزته القوات الأوكرانية خلال الفترة الماضية والذي وضع روسيا في موقف حرج. وهذا يحيل إلى كلام مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) الخبير في شؤون روسيا، ويليام بيرنز، الذي قال إنه يعتقد أن بوتين "في حالة ذهنية لا يستطيع من خلالها التفكير بالهزيمة".
ثالثاً: إعلان التعبئة العسكرية الجزئية من قبل بوتين، يعتبر بمثابة اعتراف رسمي وعلني بالمصاعب العسكرية التي يواجهها الجيش الروسي في أوكرانيا، وخطوة ضرورية لمراجعة الخطط العسكرية الروسية بعد أن ثبت عدم قدرتها على حسم الصراع أو الحفاظ على المكاسب العسكرية التي تحققت على الأرض.
وفي ذلك اعتراف ضمني من الرئيس الروسي بأن الأمور قد تتجه للأسوء، إذا ما استمر العمل بالخطط العسكرية الحالية، وهذا ما دعاه إلى اتخاذ مثل هذه الخطوات التي يمكن أن تثير الغضب على المستوى المحلي، حيث سارعت وبحسب وسائل إعلام عالمية أعداد كبيرة من الروس إلى السفر خارج البلاد.
رابعاً: لا يتعلق الأمر بالمشاكل الميدانية في أوكرانيا فحسب، بل يمتد ليكشف عن مشاكل في قدرة الصناعات العسكرية الروسية على الاستمرار في تزويده بالذخائر والأسلحة المطلوبة، وهو ما يفسر دعوة بوتين الحكومة إلى تقديم الدعم للمصانع العسكرية. وهذا يُعزز صحة التقارير التي تحدثت عن اعتماد روسيا على أسلحة من كوريا الشمالية وطائرات بدون طيار من إيران.
خامساً: تميزت الشهور الماضية بنوع من الحرب النفسية وحرب السرديات التي تقودها الولايات المتحدة والغرب ضد روسيا، سواء في سياق مسار العمليات العسكرية أو مبرراتها، بين طرف غربي يتحدث عن انتكاسات عسكرية روسية وطرف آخر يُفند هذه "الادعاءات". دون أن يستطيع أي طرف فرض القبول لسرديته سواء على مستوى الرأي العالم العالمي أو على مستوى الخبراء والمتخصصين. لكن خطاب بوتين الأخير وجه ضربة قوية إلى مصداقية "السردية الروسية" وأعطى الكثير من المصداقية للسردية الغربية بشأن "ضعف" روسيا ومواجهتها للمشاكل وعدم قدرتها على تحقيق الانتصار العسكري.
رهانات بوتين
يراهن بوتين، في خطواته الأخيرة على العديد من الأمور:
أولاً: الالتفاف على النكسات العسكرية التي تعرض لها الجيش الروسي في أوكرانيا والتي سببت حرجاً له في الداخل من خلال إعادة تكييف الأمر من "عملية عسكرية خاصة" إلى "مواجهة مع الغرب"، وهو ما أشار إليه بوتين بوضوح من خلال إشارته إلى أن بلاده تواجه الولايات المتحدة والغرب وليس أوكرانيا، وشدد وزير دفاعه شويغو "نحن في حالة حرب ليس مع أوكرانيا بقدر ما نحن في حالة حرب مع الغرب".
ثانياً: يمكن للتصعيد العسكري الكبير ضد الغرب بما في ذلك التهديد بالأسلحة النووية بشكل مباشر، أن يقنع الدول الغربية بوقف تدفق أسلحتها المتقدمة إلى أوكرانيا، خاصة أن تقارير المخابرات الروسية أشارت خلال الفترة الماضية إلى زيادة في حجم ونوعية الأسلحة الغربية المقدمة إلى كييف بما ينطوي على تهديد جدي للأمن القومي الروسي.
ثالثاً: إن أوروبا على أبواب الشتاء في ظل مشاكل كبيرة في إمدادات الطاقة بسبب وقف تصدير الغاز الروسي إليها، ما يرتب ضغوطا قوية على القادة الأوروبيين. ولا شك يراهن الرئيس الروسي على إن هذه الضغوط يمكن أن تدفع القادة الأوربيين إلى مراجعة مواقفهم ومحاولة التهدئة مع بلاده ودفع الرئيس الاوكراني فولوديمير زيلينسكي الى التوقف عن التصعيد العسكري. كما يراهن بوتين على أن أوروبا يمكن أن تمارس الضغط على الولايات المتحدة لدفعها للتوقف عن مد أوكرانيا بالسلاح.
رابعاً: إقبال الرئيس الأمريكي جو بايدن على انتخابات التجديد النصفي للكونجرس وانتخابات حكام الولايات في نوفمبر 2022، وهو ما يضعه تحت ضغط سياسي قوي على الساحة الأمريكية ربما يمنعه من اتخاذ خطوات متشددة تجاه روسيا.
لماذا سيخسر بوتين رهانه
فمن ناحية تبدو القراءات الغربية، على المستويين العسكري والإعلامي والرسمي، كلها تصب في معنى واحد وهو أن هذا التصعيد من قبل الرئيس الروسي لا يعبر عن قوة بقدر ما يكشف عن شعور بالضعف. وهذا ربما يدفع الغرب إلى مزيد من المواجهة والتصعيد خلال الفترة المقبلة وليس العكس.
وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى ما قاله رئيس الوزراء الهولندي مارك روته من أن أمر التعبئة العسكرية الذي أصدره بوتين "ما هو إلا علامة على الذعر الذي يستبد بالكرملين، وينبغي عدم النظر إليه على أنه تهديد مباشر بحرب شاملة مع الغرب"، ذهب المستشار الألماني أولاف شولتز، إلى أبعد من ذلك وأعلن أن هجوم موسكو على أوكرانيا لم يكلل بالنجاح.
ومن ناحية ثانية كانت ردود الفعل الأوروبية الصادرة على قرار الرئيس بوتين تصعيدية وتصادمية وليس العكس، ولعل وزيرة الخارجية البريطانية جيليان كيغان، كانت معبرة في هذا الخصوص حينما قالت إن "خطاب الرئيس الروسي يمثل تصعيداً مقلقاً ويجب أخذ التهديدات التي وجهها فيه على محمل الجد".
ومن ناحية ثالثة، فإن تهديدات الرئيس بوتين بالحرب النووية، وإقدامه على خطوة حربية واضحة وهي التعبئة الجزئية للجيش، قد بعثت برسالة خطيرة إلى الدول الأوروبية والولايات المتحدة بضرورة اتخاذ موقف موحد وقوي في مواجهة هذا الخطر الذي أصبح يمثله بوتين، ومن ثم فإنه يتوقع أن يتعزز التحالف عبر الأطلسي بصورة كبيرة خلال الفترة المقبلة.
ومن ناحية رابعة، فإن تهديدات بوتين ربما تعزز من دعم الغربيين لأعمال حكوماتهم ضد روسيا وليس العكس. تعمل هذه التهديدات على تأكيد سردية الحكومات الغربية بشأن تذكير شعوبها بخطورة التراجع أمام هتلر قبل الحرب العالمية الثانية، وخطورة التراجع أمام بوتين الآن، وأن الدفاع عن الحرية والسلام والديموقراطية يستحق المعاناة من جراء نقص الطاقة.
ومن ناحية خامسة، فإن الخطوة التي أقدم عليها الرئيس بوتين يمكن أن تجلب له مواقف انتقادية من قبل الصين التي كانت تقف على الحياد خلال الشهور الماضية، ولأنها، غير معنية بتصعيد عسكري يضر بالأمن والسلام في العالم ويعرض العالم لاحتمالات اندلاع حرب عالمية ثالثة نووية هذه المرة.
وبشكل عام، فإن خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يعني بوضوح أن العمليات العسكرية في أوكرانيا سوف تطول من ناحية، وسوف تأخذ أبعاداً تصعيدية أكثر خطورة من ناحية أخرى، بحيث يمكن القول إنها قد أصبحت مفتوحة على كل السيناريوهات تقريباً.
*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.