يقف العالم اليوم على حافة ما حذّر منه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون وأنه سيكون "أكبر حرب في أوروبا منذ عام 1945".. في هذه اللحظة الحرجة ما هو حال الولايات المتحدة الأميركية، في الداخل وفي علاقاتها الدولية؟
"فرّق تسد"، قاعدةٌ تُنسب إلى فيليب الثاني المقدوني، والد الإسكندر الأكبر، ما يجعلها واحدة من أقدم الحيل التي تستخدم لتدمير الأعداء. لا تُكلِّف الولاياتُ المتحدة اليوم أعداءها حتى عناء استخدام تلك المقولة، وليس عليهم إلا أن يقفوا ويتفرجوا على "أقوى دول العالم" وهي تنقسم على نفسها يوماً بعد يوم، وتتحول إلى ما يشبه الظل الباهت لما كانت عليه في عهد خلا.
عوامل كثيرة لعبت -وتلعب- دوراً كبيراً في إضعاف الولايات المتحدة وتمزيقها من الداخل، جائحة كوفيد-19، ومعها السياسات الاستقطابية في ظل الأعراف الديمقراطية المتداعية، ثم الحروب العرقية العنيفة، والحروب الثقافية، والنزعة الإقليمية، ثم الفجوة الآخذة بالاتساع بين الأغنياء والفقراء، وغيرها. وفي ظل كل هذا الانقسام، يكاد أكثر ما يجمع بين الأميركيين اليوم هو فقدانهم الجماعي للثقة في مؤسساتهم وحكومتهم وإعلامهم ونظامهم السياسي. وهذا التأويل يتفق عليه حلفاء أميركا المذعورون وأعداؤها المبتهجون في آن معاً.
تجتاح الولايات المتحدة اليوم فوضى عارمة، ويتزايد القلق بشأن التضخم الهائل الذي تعانيه، والمتزامن مع تجاوز ديونها الوطنية عتبة الـ 30 تريليون دولار، 8 تريليونات منها مستحقة لدول أجنبية. تترافق المشكلات الاقتصادية بأخرى اجتماعية، حيث تتداعى بنى المجتمع الأميركي أمام ازدياد قوة دعاة تفوق العرق الأبيض والجماعات المناهضة للحكومة والجماعات اليمينية العنيفة الأخرى. يدرك الأميركيون هذه الحقائق حتى لو جاء في إعلامهم غير ذلك، بل لقد بيَّنت استطلاعات رأي جرت مؤخراً تراجع ثقة الأميركان في وسائل الإعلام الرئيسة إلى ثاني أدنى مستوى لها على الإطلاق، حيث أظهرت أن 29% من الأميركان "لا يثقون بها كثيراً" و34% منهم "لا يثقون بها على الإطلاق".
ورغم حراجة كل المشكلات السابقة، يظلُّ الأمر الأكثر إثارة للقلق هو تآكل الديمقراطية في أميركا، وهو ما دفع صحيفة نيويورك تايمز للإعلان على صفحتها الأولى أن "الديمقراطية تموت في الظلام" - لكنها تموت أيضاً بفعل الشك وعدم التصديق. إذ وفي تقرير صدر عام 2021 بعنوان "الديمقراطية تحت الحصار" سلطت منظمة فريدوم هاوس الضوء على تراجع الولايات المتحدة إحدى عشرة نقطة في تصنيفها ضمن مؤشر "الفجوة الديمقراطية"، وهو التراجع الأكثر حدة على الإطلاق. وفي هذا السياق بدأ حلفاء واشنطن، حتى الأكثر إخلاصاً منهم، يلحظون "النفاق" الذي تمارسه أميركا، واتباعها لمقولة "افعلوا كما أقول، وليس كما أفعل" فيما يتعلق بالديمقراطية، والتي بات نحو 64% من الأميركيين أنفسهم يعتقدون أنها "في أزمة ومعرضة لخطر الفشل".
تُفاقم الأحزاب السياسية الأميركية المشكلة، فهم لا يرون في خصومهم الحزبيين شركاء في الوطن بل أعداء يعمل المسؤولون المنتخبون منهم لصالح أحزابهم وليس لتحقيق الأفضل لبلدهم وناخبيهم. لقد باتت السياسة الأميركية مهددة بالتطرف والجنوح نحو العنف، إذ يوافق 30% من الجمهوريين المسجلين على عبارة "بما أن الأمور قد انحرفت عن مسارها حتى الآن، فربما سيضطر الأميركان الوطنيون بحق للجوء إلى العنف من أجل إنقاذ بلدنا، ولا يثق نحو 40% من عدد السكان بالنتائج التي افرزتها انتخابات عام 2020.
علاوة على ذلك، فإن الإهمال وعدم الاتساق في سياسة أميركا الداخلية والخارجية أصبحا مثاراً للقلق. ورغم أنه من المرجح أن تحافظ الولايات المتحدة على مكانتها باعتبارها قوة عظمى، إلا أنها خسرت سمعتها كحليفٍ ثابت وموثوق يمكن الاعتماد عليه. ويتجلى هذا في فشلها بإدارة علاقاتٍ متسقةٍ مع حلفائها في الشرق الأوسط.
على سبيل المثال، أقام البيت الأبيض في عهد ترامب علاقات قوية مع السعودية والإمارات، وأعرب عن تحفظات واضحة تجاه قطر. لكن في اللحظة التي تولى فيها جو بايدن الرئاسة، وجّه البيت الأبيض وزارة الخارجية الأميركية للتركيز على الدوحة على حساب العواصم الخليجية الأخرى! وبالمثل، ألغى بايدن تصنيف إدارة ترامب للحوثيين في اليمن كمنظمة إرهابية. لم تخدم هذه السياسات أميركا ولا حلفاءها، بل عززت مكانة إيران وروسيا والصين في الشرق الأوسط، ودفعت الدول العربية نحو الشعور بالتوجس والخوف على مصيرها بعد عودة الولايات المتحدة إلى المفاوضات حول الملف النووي الإيراني وانسحابها وتراجع دورها في المنطقة.
ليس تقلب السياسة الخارجية الأميركية وحده ما يدعو للقلق، بل هناك ما يتجاوزه خطورة وهو فشل واشنطن في تطبيق تلك السياسات في عدة أماكن في الخارج بسبب غياب استراتيجية مدنية-عسكرية متكاملة تستند إلى أهداف مدنية وأمنية بعيدة المدى.
لقد غزت أميركا العراق عام 2003 لتدمير أسلحة محرمة لا وجود لها، واستمرت حربها هناك لثمان سنوات لاحقة، ثم غادرت بدون تحقيق واضح لأي من أهدافها، مسلمة بذلك العراق إلى إيران. ثم عادت من جديد لتشن حرباً أخرى أسفرت عن مقتل نحو 100 ألف مدني، وتركت إيران لتظهر وكأنها المنتصر الوحيد هناك. وفي مثال ثانٍ مشابه، ساعدت أميركا على الإطاحة بالرئيس الليبي معمر القذافي عام 2011، وتركت ليبيا تتحول إلى دولة فاشلة، وتخوض دوامة حرب أهلية لا نهاية لها. أما المثال الثالث فكان في عام 2021 المنصرم، حيث انتهت أطول حرب قادتها الولايات المتحدة بانسحاب قوات الأخيرة وعودة حركة طالبان إلى السلطة في أفغانستان بعد عشرين عاماً من سقوط نظامها على أميركا وحلفائها. أما في سوريا، فإن معظم القرارات التي اتُّخذت في عهد إدارة أوباما لم تمنع البلاد من الانزلاق إلى حربٍ لم تنته.
والقائمة وإن طالت، تنتهي اليوم بعجز أميركا عن إيجاد حلٍّ للملف النووي الإيراني. أعتقد، كما كثيرون في الشرق الأوسط بما في ذلك إسرائيل، أن إيران قد اكتسبت بالفعل قدرات تمكنها من امتلاك السلاح النووي. لذلك، لن تساوي أي اتفاقية موقعة مع طهران ثمن الورق الذي ستُطبع عليه.
في السابق، استطاع الأسد الآسيوي -وهو الحيوان الوطني الرمزي لإيران- أن يجوب بفخر ودون قيود جميع أنحاء الشرق الأوسط قبل أن يواجه خطر الانقراض. اليوم، تقوم إيران بتطوير الأسلحة النووية تمامًا كما تربي زوجًا من الأسود المرسلة إليها من حدائق الحيوان في بريطانيا وأيرلندا - وللسبب نفسه: لتصبح "ملك" المنطقة.
في ضوء كل ما سبق، وإذا كانت الولايات المتحدة ترى أن دورها في الشرق الأوسط يعاني من أخطاء ومشكلات، فإن ردة فعلها لا ينبغي أن تكون الانسحاب، بل إعادة النظر في ذلك الدور وتطويره وتصحيحه وتحسينه. وهذا من شأنه أن يضمن لواشنطن مستوى أكبر من النفوذ وعلاقات أقوى مع حلفائها في المنطقة.
صحيح أن هذا سيبدو تفاؤلاً، لكنني أعتقد أن ما يسمى "تراجع" الدور الأميركي في المنطقة ليس دقيقاً تماماً، بل إنَّ حلفاءها الذين اعتادوا منها انخراطاً أكبر وأكثر مباشرة يبنون هذا "التراجع" في مخيلاتهم، في حين أن ما تقوم به أمسريكا في الحقيقة هو تجديد استراتيجيتها في المنطقة، وإعادة تشكيل تموضعها فيها. لكن ورغم كون هذا التراجع "مُتخيّلاً" إلا أنه واقعي، فالمُتخيل في السياسة يؤدي نفس الدور الذي يؤديه الشيء الحقيقي، بل وربما يتفوق عليه في بعض الحالات.
وأبرز الأمثلة على ذلك هو حال حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، الذين باتوا أكثر اعتقاداً بأن القوة العظمى التي وقفت دائماً إلى جانبهم سوف تتركهم بمفردهم في منطقة أصبحت أكثر استقطاباً وفوضى وخطورةً مما كانت عليه قبل التدخل الأميركي. وهذا السيناريو المتخيّل يدفع القادة الإقليميين إلى التصرف بصورة أكثر استقلالية أثناء إعادة تقييم تحالفاتهم وإعادة التفكير فيها. وقد بدأوا بالفعل ببناء جسورٍ مع دولٍ وشركاء آخرين لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة.
لقد أجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين زيارتين ناجحتين إلى كلٍّ من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، حيث جرى توقيع العديد من الاتفاقيات الثنائية. وانضمت سوريا إلى جيرانها كعضو في مبادرة الحزام والطريق الصينية لطرق واتفاقيات التجارة التي تضم 148دولة من كافة قارات العالم. لكلّ هذه التغييرات التي يقوم بها هؤلاء القادة ما يبررها، بل إنها متوقعة وحتمية، لا سيما وأن العديد من القوى -بما في ذلك التنين الصيني والدب الروسي- لديها الكثير لتقدمه، وليست مترددة في إظهار استعدادها للانخراط الكامل في قضايا المنطقة، والعمل معاً للحد من تأثيراتها السلبية، بل وربما إيجاد حلول نهائية لها.
اليوم، ومع الهجوم واسع النطاق الذي تشنه روسيا والذي سيتجاوز شرق أوكرانيا ويستهدف كييف، أصبحت الحاجة إلى أميركا القوية أكبر من أي وقت مضى. لكن، وفي الوقت ذاته، على القيادات في واشنطن خفض مستوى توقعاتهم حول ما يمكنهم القيام به في الخارج، والتركيز كثيراً على البيت الداخلي الأميركي والديمقراطية فيها والبنى التحتية الاجتماعية، لأن كل الأخطاء السابقة المتكررة، وإذا لم يتم تعلمها وتصحيحها، ستصير هدايا مقدمة على طبق من فضة للصين وروسيا وإيران.
أميركا! فلتولِ وجهك شطر الشرق، إن التنين الصيني والدب الروسي والأسد الإيراني يحاولون الهرب من أقفاصهم ونهش لحمك. أو قد تفعلين ذلك بنفسك، إذا لم يُعد تركيز حزبيكِ الجمهوري والديمقراطي منصباً على ما فيه مصلحة بلدهما والعالم، بل يكاد ينصب أغلبه على مصالحهما الحزبية الضيقة والمحدودة.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: