سياسات

إسرائيل ما بعد العاشر من مايو

يُعد الاشتباك العسكري واسع النطاق الذي دارت رحاه مؤخراً بين الفصائل الفلسطينية في غزة وإسرائيل علامةً فارقة في مسار التفاعلات الفلسطينية الإسرائيلية، فصحيح أن الحقائق على الأرض لم تتغير إلا أن تداعيات ما جرى لا تزال تتصاعد أمام إسرائيل. يناقش التقدير الاستراتيجي التالي تفاعلَ البنية الرسمية والمجتمعية في إسرائيل تجاه جبهات حيوية، وهي: الداخل الإسرائيلي والقدس والبيئة الدبلوماسية والعمليات العسكرية، كما تضمن التقدير استشرافاً محتملاً لهذه التفاعلات.

الكاتب: ستراتيجيكس
تاريخ النشر: 13/07/2021
الناشر - STRATEGIECS

كان العاشر من مايو لهذا العام مغايراً عن كل ما سبقه بالنسبة لإسرائيل، فبدلاً من أن يكون يوماً تتجهز فيه للاحتفال بعيد استقلالها والذي يصادف الرابع عشر من مايو من كل عام؛ انفتحت عليها عدّة جبهات في آن واحد متمثلة في الداخل الإسرائيلي والضفة الغربية والقدس وغزة والمجتمع الدولي، وهي تحديات متباينة في طبيعتها مما يتطلب توظيف أدوات مختلفة للتعامل معها في نفس الوقت، وهذا يُفاقم من الأعباء الواقعة على عاتق الدولة؛ فمن جهة تضغط الأخيرة للحيلولة دون التوصل إلى اتفاق نووي غير مضمون مع إيران، ومن جهة أخرى، كانت الساحة السياسية الداخلية في خضم محاولات لتشكيل ائتلاف حكومي بعد إجراء 4 انتخابات تشريعية في غضون سنتين.

ولم يكن مفاجئاً اندلاع هذه الجبهات طالما أن جذر وأساس الصراع ما يزال بعيداً عن الحل، والمتمثل في استمرار حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو بعرقلة كل ما من شأنه أن يؤدي إلى قيام الدولة الفلسطينية ذات السيادة على حدود ما قبل الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، إلى جانب عجز الحكومة الإسرائيلية عن كبح جماح نزعة المتطرفين دينياً الطامحة إلى تغيير الوضع القائم في القدس الشرقية والمسجد الأقصى.

ويكاد يُجمع كل المراقبين والسياسيين على أن شرارة ما جرى من تصعيد في غزة ترجع إلى محاولات الاستيلاء على المساكن في حي الشيخ جراح وإلى اقتحامات المستوطنين بحماية الشرطة الإسرائيلية للمسجد الأقصى في ليالي رمضان التي تزامنت مع احتفالات "توحيد القدس" عند اليهود. فمرةً أخرى يفشل الجميع في الاستفادة من روحانية الأديان للتقارب والتسامح وليستمر التوتر المزمن مراوحاً مكانه في انتظار الحل النهائي الذي يحتاج إلى قادة شجعان يمتلكون الجرأة لتقديم تنازلات وعقد اتفاقيات كاملة تُنهي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أو تُقلّص من مكامن النزاع إلى حدود يمكن معها الحديث عن تعايش محتمل بين الطرفين.

وقد تزايدت التحليلات حول التصعيد الأخير في غزة، لكنها لم تقم بتسليط الضوء على تفاعل البنية الرسمية والمجتمعية في إسرائيل مع التطورات الحاصلة، وهو ما يحاول هذا التقرير إيجازه مع تقديم توقعات محتملة في الفترة القادمة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ومستقبل الصراع.

1. الداخل الإسرائيلي

لا يخفى على أحد الشلل الجزئي الذي يعتري ديناميكيات العملية السياسية في إسرائيل، والذي يُعد تعقُّد عملية تشكيل حكومة ائتلافية أحد أبرز تداعياته، وقد جاء التصعيد المركّب الأخير بعد انتهاء المهلة الرسمية لنتنياهو لتشكيل حكومة، مما ألقى بظلاله على الجدال السياسي الدائر.

فثمة من يرى أن مشاهد الهجمات الصاروخية على تل أبيب تخدم رواية يمين اليمين في إسرائيل المرتكزة على الأمن والتهديدات الخارجية، وأن التداعيات السياسية التالية لما يجري ستصب في صالح فرص نتنياهو لتشكيل حكومة سواء عبر استقطاب مؤيدين جدد من الكنيست أو التوجه نحو عقد انتخابات ستكون الخامسة في غضون 3 سنوات، والتي يحاجج مؤيدو "المؤامرة" بأنها ستشهد مزيداً من الإقبال لصالح الليكود وشركائه من اليمين السياسي والديني، مما دفع بمعارضي نتنياهو إلى اتهامه بـ "إضرام النيران في الدولة خدمةً لمصالحه السياسية الخاصة" كما قالت زعيمة حزب العمل، ميراف ميخائيلي.

في المقابل، يرى فريق آخر من الإسرائيليين أن صورة نتنياهو كسيّد للأمن تهاوت مع تهاوي الهجمات الصاروخية الصادرة من غزة، مما دفع باتجاه تشكيل حكومة جديدة برئاسة نفتالي بينيت بعيداً عن بنيامين نتنياهو؛ لكن البحث عن شخصية سياسية تمتلك برنامجاً استراتيجياً يتضمن سيناريو النهاية لمعضلة غزة يبقى قائماً.

ولا يمكن الجزم بأن الحكومة الجديدة قد تمتلك مقاربة مختلفة لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ذلك أن هنالك توافقاً نسبياً على القضايا المتصلة بالقضية الفلسطينية بين أتباع اليمين واليمين المتشدد، وفي مقابل هؤلاء هناك تيارات تُعلن صراحة عن قبولها إقامةَ دولة فلسطينية مثل بعض الأحزاب والمجموعات اليسارية المدنية والعديد من جماعات حقوق الإنسان.

وهنالك من يحاجج بأن العنف قد يُليّن المواقف المتطرفة، إلا أنّ ما حدث مؤخراً لم يصل إلى درجة تغير القناعات اليمينية المتطرفة، أي أن ما يصفه كثير من المحللين العرب بـ "كيّ الوعي" الإسرائيلي يبدو عاطفياً؛ لأن مستوى التصعيد لم يرْقَ إلى العتبة اللازمة لتغيير القناعات بحيث يكره الجميع فكرة الحرب من أساسها ويجنحوا إلى السلم كما حصل في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية التي تلاها تعاون اقتصادي ومن ثم تكامل في الاتحاد الأوروبي.

بالإضافة إلى ما سبق من تناقضات داخل البنية السياسية الإسرائيلية، يبرز تناقض آخر بين المستوى العسكري والسياسي، حيث تدفع قيادة أركان الجيش الإسرائيلي نحو إطالة أمد الحرب إلى حين استعادة الردع وجعل الفصائل الفلسطينية تدفع الثمن كما جاء في تصريحات وتسريبات إعلامية، أما الحكومة الإسرائيلية فهي مثقلة بالاعتبارات الدولية والأوضاع الاقتصادية التي بالكاد بدأت تتعافى بعد أزمة كورونا وحملة تطعيم اعتُبرت الأولى عالمياً من حيث نسبة عدد السكان الذين تم تحصينهم ضد الفيروس.

وحتى كتابة هذه السطور، لا يوجد تقييم شامل للأضرار الاقتصادية الناجمة عن جولة القتال الأخيرة، التي لم تقتصر فقط على ما أحدثته الهجمات الصاروخية على مناطق مهمة في إسرائيل مثل "غوش دان"، وإنما امتدت أيضاً لتشمل تعطيل المصانع والعجلة الاقتصادية الطبيعية وتعليق أغلب الطيران القادم إلى إسرائيل الذي كان متوقعاً أن يكون كثيفاً بسبب رفع القيود الصحية واستئناف الموسم السياحي الصيفي.

وقد يكون المظهران السابقان (التناقضات السياسية الحزبية والتباين بين المستوى العسكري والسياسي) من السمات شبه الاعتيادية في الداخل الإسرائيلي مؤخراً، إلا أن ما يجب قراءته بدقة هو الاضطراب واسع النطاق الذي جرى في المدن المختلطة (التي تضم عرباً ويهوداً) تضامناً مع القدس الشرقية وغزة ورفضاً للسياسات اليمينية التي تحاول فرضَ قالب ثقافي محدد على مجتمع يضم نحو 1.9 مليون عربي، أي ما نسبته 20٪ من عدد السكان البالغ حوالي 10 مليون نسمة.

ومن المستبعد أن يكون ما جرى من احتجاجات ومواجهات داخل المدن المختلطة مجرد رد فعل عفوي، فهو يعكس فشل عمليات الاندماج والأسرلة "Israelization" الهادفة إلى دفع الأقليات إلى الانخراط في دولتهم بمعزل عن المواقف السياسية والثقافية والدينية.

وربما أسهم قانون "يهودية دولة إسرائيل" الذي تم إقراره في يوليو 2018 في توفير ذرائع ليقول البعض بأن إسرائيل تعتبر العرب مواطنين درجة ثانية، حيث يتضمن هذا القانون بنوداً يمكن تصنيفها على أنها تمييزية مثل ما جاء في البند الأول "إسرائيل هي الوطن التاريخي للأمة اليهودية"، "لليهود فقط في إسرائيل الحق في تقرير المصير"، وما جاء في البند السادس "تعمل الدولة على تجميع شتات اليهود في الخارج وتعزيز المستوطنات الإسرائيلية في أراضيها وتوفير الموارد لذلك".  كما يحاجج أنصار هذا التيار بأن قانون "أملاك الغائبين" الذي أُقر عام 1950 يتيح لوزارة المالية التصرف بالأملاك والأراضي التي هجرها أصحابها "في أي وقت يقع بين يوم 29 نوفمبر 1947 واليوم الذي يُعلن فيه عن أن حالة الطوارئ التي أعلنها مجلس الدولة المؤقّت في 19 مايو 1948 قد ألغيت".

وجدير بالذكر أن هذا الجدال حول هوية إسرائيل عاد إلى الواجهة، إذ تخشى النخبة العلمانية المثقفة من أن تحل اليهودية السياسية مكان اليهودية الديمقراطية شبه العلمانية نسبياً، مما قد يُخلخل الأسس التي قامت عليها كينونة إسرائيل.

ورغم استمرار العنف المشتعل على أكثر من جبهة، إلا أن هذه النخبة لم تتردد في التعبير عن رفضها للجنوح المجتمعي نحو أقصى اليمين، كما جاء ضمنياً في مقال نشره معهد واشنطن في مايو 2021 حيث استخدم الكاتب فيه مصطلحات مثل العنف العرقي والعنف الطائفي واتهم فيه المعلّقين اليمينيين "بانتهاز توقيت العنف الطائفي لتسجيل نقاط سياسية".

2. القدس الشرقية

يرفض البعض اعتبار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ذا بعد ديني ويصرون على الحديث عن الأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية والحقوقية له، وقد يكون من غير الحصيف إنكار البعد الديني لهذه الحرب اللانهاية لها "Endless War" لأن هذا الإنكار يقود إلى تشخيص خاطئ للمشهد مما سيقود إلى تقديم طرح غير عملي و/أو غير مقنع ومنفصل عن فهم الواقع وإدراكه.

فما يحصل في القدس الشرقية والمسجد الأقصى يؤكد على مركزية البعد الديني بشأن ما يدور في القضية الفلسطينية، وربما يتساءل البعض لماذا هذا الإصرار الإسرائيلي على انتزاع نفوذ أكبر في المدينة المقدسة؟ وما هي المكاسب المتحققة من استفزاز مشاعر عموم المسلمين وتأليب الرأي العام والشارع الدبلوماسي ضد سياساتها؟

in-0اسرائيل-بعد-العاشر-من-مايو.jpg

ومن الخطأ افتراض أن الخلاف المتعلق بالشطر الشرقي من القدس هو ديني فقط بل هو أيضاً سياسي؛ إذ أدى تنامي المد الديني إلى المجتمع والسياسة في إسرائيل إلى تحويل القدس من قضية تتصل بالهوية والشرعية إلى أخرى تتصل بالطائفة، مما يُسهم في تأزيم الحالة الطائفية الشرق أوسطية التي اشتعلت بسبب اضطرابات سوريا والعراق وما يجري من تنافس إقليمي على الهيمنة بين العواصم الرئيسية في المنطقة.

ويستند هذا المد الديني على قاعدة شعبية ينتمي أغلب أفرادها إلى جماعة الحريديم التي يبلغ عدد أفرادها نحو 1,240 مليون وفقاً لبيانات دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، حيث تتركز النسبة الأكبر منهم – 36٪ - في القدس وفي مستوطنات القدس الشرقية، ويميل الحريديم إلى التشبث بالنمط المعيشي والثقافي كما جاء في التوراة، ويُعرف عن أتباعها ارتفاع نسبة الخصوبة حيث يبلغ متوسط مواليد الأسرة الواحدة أكثر من 10 أطفال، مما يترتب عليه تزايد نسبتهم في المجتمع الإسرائيلي حيث يشكلون الآن قرابة 13.6٪ ومن المتوقع أن تزيد هذه النسبة إلى أكثر من 20٪ عام 2028.

ولهذا الحضور تداعيات سياسية وأمنية على الحياة السياسية في إسرائيل، فكثيراً ما اصطدمت الكتلة الحريدية مع الدولة على خلفية تحريم التجنيد في الجيش، ومؤخراً رفض أتباعها – ولأسباب دينية – التقيد بتعليمات الحكومة الاحترازية في احتواء جائحة كورونا.

كل ذلك يضع الحكومة الإسرائيلية والنخبة العلمانية في مأزق يتعين عليها فيه الموازنة بين المتطلبات السياسية القانونية والدولية من جهة، وبين المتطلبات الدينية لهذه الجماعة الآخذة بالتوسع ديمغرافياً وسياسياً من جهة أخرى، وعادةً ما تضطر الحكومة إلى التماهي مع هذه المتطلبات مما يُنذر ببقاء التوتر على حاله. إذ تسعى الدولة الإسرائيلية إلى مزيد من الخطوات لإضفاء الطابع اليهودي على القدس الشرقية وتسن في سبيل هذه الغاية القوانين وتنفذ المشاريع الهادفة إلى عزل الاتصال الجغرافي للأحياء العربية في المدينة مع باقي الضفة الغربية، كما في محاولات الاستيلاء على المساكن في حي الشيخ جراح والخان الأحمر، فالأول يمكّن إسرائيل من تطويق الجهة الشمالية للمدينة، في حين يمكّنها الآخر من تطويق الجهة الشرقية للمدينة.

in-1-0اسرائيل-بعد-العاشر-من-مايو.jpg

وهذا يعني أن هذه الأحياء على قلة عدد سكانها ومساحتها إلا أن لها طابعاً "جيو هوياتياً" بامتياز، لا يمكن معه طرح قضايا الحل النهائي دون التوافق على الوضع النهائي حولها، وقد أكد المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، نيد برايس، في مقابلة تلفزيونية مع قناة الجزيرة على أن قضية الشيخ جراح كانت سبباً لما جرى من تصعيد، فيما يمكن اعتباره إدانة ضمنية للمساعي الإسرائيلية الهادفة إلى إخلاء الحي بقرارات قضائية.

على الصعيد المقابل، تدفع هذه الإجراءات الفلسطينيين إلى قبول الطرح الأيديولوجي الذي تقدمه تيارات سياسية مثل حماس، مما يقدم حجة سياسية لهذه التيارات لاستقطاب الشباب الغاضبين المحبطين ولتجنيدهم خلف الرواية المقدسة، مما يديم التوتر بشقه الديني الذي بدوره يعقّد من فرص التوصل إلى حل مستدام ومقبول للجميع.

وقد كان لافتاً أن مبادرة الفصائل الفلسطينية لإطلاق الصواريخ على إسرائيل جاء كنوع من التضامن لما يجري في القدس الشرقية من اقتحامات، فهذه المرة الأولى التي تتحرك فيها الفصائل في غزة عملياتياً استجابةً لمجريات الأحداث هناك، مما يضع غزة في قلب معادلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كما جاء في خطاب لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، أكد فيه على أن "معادلة ربط غزة بالقدس تعني معادلة المقاومة مع الهوية".

كل ما سبق في هذا البند يؤكد على المخاطر العالية الكامنة في البعد الديني لهذا الصراع، فهو يديم التوتر ويؤجج المشاعر بما يحول دون التوصل إلى حل عادل ينسجم مع الاعتبارات القانونية الدولية ومع المعايير الواجب اتباعها لبلورة سلام حقيقي.

ومن الواضح أن خطاب الكراهية أصبح سمة بارزة لكل ما له علاقة بهذا الصراع، مما يتطلب توافق كل الأطراف على التجريم الملزم قانوناً لكل من يروج له، وكفّ يد كل ما من شأنه أن يؤدي إلى تغيير الطابع التاريخي الديني لما هو قائم، ويُتوقع في المرحلة القادمة أن تجد إسرائيل نفسها مضطرة للتماشي مع الضغوط الدولية في هذا الصدد.

3. الجبهة الدبلوماسية

لا تقلّ الجبهة الدبلوماسية أهمية عن جبهات الاشتباك العسكري والأمني، ذلك أن تفاعل الدولة الخارجي مع البيئة الإقليمية والدولية أثناء وبعد الاشتباك يقدم دلالات واضحة على تقبل المجتمع الدولي لرواية هذا الطرف أو ذاك، ما يلقي حتماً بظلاله على العلاقات الخارجية للدولة بعد الاشتباك.

ومن الملاحظ أن التصعيد الأخير الذي انخرطت فيه إسرائيل على أكثر من صعيد يترافق مع حالة استياء دولي بسبب رفضها في الأيام الأولى من المعركة خفضَ التصعيد الناري على غزة تمهيداً لوقف إطلاق النار.

ويتردد أن إدارة بايدن في مرحلة لاحقة من العمليات العسكرية مارست ضغوطاً على إسرائيل للتوصل إلى هدنة، وذلك بعد أن أكدت الإدارة في مرحلة مبكرة من هذه العمليات حقَّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها وإفشالها لـ 3 محاولات لعقد جلسة في مجلس الأمن بهدف مناقشة الوضع في غزة، وقد تسبب هذا الموقف الرسمي الأمريكي في إثارة حفيظة جناح اليسار التقدمي داخل الحزب الديمقراطي الذي أسهم بصورة كبيرة في انتخاب بايدن وزيادة تمثيل الحزب في المؤسسة التشريعية.

ولا يُقصد بذلك أن هنالك انقلاباً في السياسة الأمريكية تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فمثلاً في أوج هذا الاشتباك الأخير أقر البنتاغون صفقة لتوريد أسلحة وذخائر عالية الدقة موجهة إلى الجيش الإسرائيلي تبلغ قيمتها 735 مليون دولار، ناهيك عن تأمين غطاء دبلوماسي لإسرائيل ضد أي تحرك دولي منظّم يدينها، وتقييد وسائل الإعلام الأمريكية ووسائل التواصل الاجتماعي التي مقرها في أمريكا للخطاب المناهض لإسرائيل والمتعاطف مع الشعب الفلسطيني.

وبالمقارنة مع الإدارة السابقة، يمكن تقييم الموقف الأمريكي الحالي بأنه يعبّر عن تباين واضح حيال هذه الأزمة؛ وقد يكون هذا التباين بين المؤسسات والشخصيات الأمريكية من مسؤولي الصف الأول، متفقاً عليه ضمنياً لتقديم طرح غير منحاز ولدفع عملية السلام قدماً. وجدير بالذكر أنه لم يقم أي مسؤول رفيع المستوى بانتقاد إسرائيل علانيةً إلا أن بعض مسؤولي الصف الثاني عبّروا صراحةً عمّا يمكن اعتباره الموقفَ الأمريكيَ الناقد لإسرائيل في الكواليس والنقاشات المغلقة، فمثل هؤلاء المسؤولين يكونوا متحررين من القيود السياسية واعتبارات التمويل الانتخابي.

ولم تبقَ الأحداث في فلسطين بعيدةً عن السجال الحزبي الذي خَفَتَ في الآونة الأخيرة، حيث تفاخر مسؤولون كبار في الإدارة السابقة من بينهم الرئيس السابق دونالد ترامب ونائبه مايك بنس أن ما يحدث الآن ما كان ليحدث في عهدهم، مما أعاد الجدال حول خلافات السياسة الخارجية بين الإدارتين إلى الواجهة من جديد، فمثلاً لا تراهن إدارة بايدن على "صفقة القرن" لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وإنما تعلن صراحةً ضرورة التوصل إلى سلام بناءً على القرارات الدولية وبما يحقق حل الدولتين، كما تراجع فريق بايدن عن بعض سياسات ترامب، مثل إعادة تمويل الأونروا والدعم المباشر لجهات فلسطينية رسمية.

وحتى لا يكون هذا التصعيد العنيف مجرد حلقة جديدة في المواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، يتعين على الإدارة الأمريكية إطلاق زخم سياسي في سبيل الوصول إلى حل جذري لسبب الصراع والتوقف عن تجاهل القضية الفلسطينية كقضية شرق أوسطية رئيسية لصالح ملفات مثل البرنامج النووي الإيراني ومكافحة الإرهاب، فما أكدته التطورات الأخيرة هو أن ملف السلام في الشرق الأوسط ركيزته هي القضية الفلسطينية، فالإرهاب في انحسار مقارنةً بفترة صعود "داعش"، والبرنامج النووي الإيراني في طريقه إلى اتفاق قريب.

وهذا الأخير يُعد ثقلاً نفسياً على تل أبيب أكبر من الهجمات الصاروخية من غزة، ليس فقط للمخاطر المتأتية من عودة العلاقات الغربية اقتصادياً ودبلوماسياً مع إيران وإنما لأن التوصل إلى تفاهمات دولية وإقليمية معها يسلب إسرائيل ورقة استراتيجية تتمثل في حشد الموقف الدولي ضد الخطر الإيراني الذي كان أحد المبررات السياسية للدول التي عقدت اتفاقات سلام مع إسرائيل في أواخر الفترة الرئاسية لترامب.

كما مارست مصر ضغوطاً للتوصل إلى وقف إطلاق النار بين غزة وإسرائيل، إذ أدانت الخارجية المصرية العدوان الإسرائيلي وحذّرت من تبعاته على السلام في المنطقة. وتعهدت القاهرة بدفع 500 مليون دولار – دون تقديم أي توضيحات – للمساهمة في إعادة إعمار غزة، ناهيك عن الموقف الرمزي بإدخال سيارات إسعاف عسكرية لإجلاء بعض الإصابات الخطرة من غزة والفتح الاستثنائي لمعبر رفح لتزويد القطاع بمساعدات إنسانية.

وقد يعكس الموقف المصري غضباً من تل أبيب التي تتقارب مع إثيوبيا لضمان اختراق العمق الأفريقي والقرن الأفريقي النافذ إلى سواحل البحر الأحمر، فوفقاً للعديد من التقارير الصحفية فإن سد النهضة الذي قد يُهدد الأمن المائي والقومي المصري يتم تأمينه بمنظومات دفاعية إسرائيلية؛ وهو ما تنفيه السفارة الإسرائيلية في القاهرة.

in-2-0اسرائيل-بعد-العاشر-من-مايو.jpg

ولم تقتصر الضغوط التي واجهتها الدبلوماسية الإسرائيلية على المواقف العربية والأمريكية – بدرجة أقل بالطبع – بل امتدت أيضاً إلى بروكسل العاصمة السياسية للاتحاد الأوروبي وصدور بعض التصريحات "المنفردة" الناقدة لإسرائيل من مسؤولين أوروبيين، كان أبرزها ما قاله وزير الخارجية الإيرلندي، سيمون كوفيني، من شجب للأحداث التي وقعت في المسجد الأقصى الذي يضم "تجمعاً سلمياً للمسلمين"، كما أدان قتل الأطفال في غزة.

وحذّر وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، في مقابلةٍ مع وكالة "France Press" للأنباء تلت التوصل إلى هدنة، من أن عدم التوصل إلى حل الدولتين أو إطالة الوضع الراهن سيوفر "مكونات فصل عنصري يستمر لفترة طويلة" في إسرائيل.

وبالنسبة للندن، فإنها تنسق مواقفها مع واشنطن وتحاول العمل المشترك معها، حتى تعوض الفاقد السياسي جرّاء انسحابها من الاتحاد الأوروبي. ورغم الحضور اليميني والمحافظ – المساند تقليدياً للسياسات الإسرائيلية – في أوروبا، إلا أن عواصم القارة الرئيسية تريد طيّ صفحة الخلافات مع واشنطن في وجهات نظر السياسة الخارجية والتي – أي الخلافات – أضرت بالعلاقات الأوروبية الأمريكية في عهد ترامب.

كل هذه الأحداث الواردة في هذا البند تأتي في وقتٍ يُصر فيه المجمع الاستخباري الأمريكي والمراكز البحثية التابعة لدوائر صنع القرار على ضرورة إعادة التموضع الاستراتيجي صوب الشرق الأقصى لمزاحمة الصعود الصيني على الساحة الدولية وكبح تمددها الجيوسياسي والتقني والاقتصادي، ففي الوقت الذي تتضاءل فيه القيمة الاستراتيجية للشرق الأوسط في الحسابات الأمريكية؛ تتعاظم القيمة الاستراتيجية للشرق الأقصى، مما يدفع واشنطن إلى السعي الحثيث لحسم القضية الفلسطينية حتى لا تظل مصدراً للأزمات واللاستقرار.

فلا يمكن لواشنطن تحقيق انسحاب تدريجي وهادئ من المنطقة دون التأسيس لحل مستدام للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ذلك أن بقاء الوضع على ما هو عليه يزيد من حالة "اللايقين" ويُعقّد من إمكانية التنبؤ بمسار الأحداث والاصطفافات في المنطقة، وهو ما يعني أن السياسة الخارجية الأمريكية بحاجة لإبقاء أصولها العسكرية والأمنية في المنطقة تحسباً لأي مفاجآت، وهو ما يتناقض مع المصالح الأمريكية وخطط خفض كلف انتشارها حول العالم.

كما تتخوف واشنطن من أن عجزها عن إدارة مرحلة حسم الصراع قد يُفسح المجال للصين وروسيا لممارسة أدوار مؤثرة في ملف أمريكي "مقدَّس" كانت واشنطن فيه على مدار تاريخه صاحبة اليد الطولى في تحديد طبيعته الدولية. وبغض النظر عن انحياز روسيا والصين إلى إسرائيل إلا أنه لا يمكن مقارنته بالانحياز الأمريكي المتغير نسبياً بتغير الإدارات الأمريكية، فمثلاً لم تستخدم روسيا والصين حق النقض في مجلس الأمن لعرقلة قرارات لا تتفق مع الرؤية الإسرائيلية.

إذاً، وما أن ينجلي غبار المعركة، ستجد إسرائيل نفسها أمام مراجعة إجبارية لعلاقاتها الخارجية بما يتكيف مع المستجدات التي تم استعراضها في هذا البند، وستحاول تل أبيب ابتكارَ أدوات وفرص تعوض تناقص الأهمية الجيوسياسية للشرق الأوسط في الحسابات الغربية، وستقوم الدبلوماسية الإسرائيلية – بأنواعها التقليدية والرقمية والشعبية – بمحاولة ترميم صورتها التي تدّعيها "كدولة ليبرالية وحيدة في الإقليم محاطة بديكتاتوريات قمعية تنتهك حقوق الإنسان".

4. عملياتياً

بعد 11 يوماً من العمليات العسكرية، تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار بين الجانبين بضغوط دولية، ولتبدأ بعدها المرحلة التالية الأهم التي يتم فيها معاينة الأضرار وتقييم المكاسب الميدانية، وفي ظل عدم وجود منتصر أو منهزم واضح، ستكون هذه المرحلة عرضة للاستقطابات السياسية لا سيّما داخل إسرائيل.

وهذا الوضع الذي لا تكون فيه نتيجة المعركة واضحة عسكرياً يعد سمة للحروب الحديثة، ففي مقال نشرته مؤسسة "Quartz " للأعمال في ديسمبر 2019 جادل الكاتب كيف أن النصر أصبح لا يعدو عن كونه أسطورة تحاكي خيالات وعواطف الناس، فنظراً للكلف العالية والدمار واسع النطاق لا يمكن لطرف ادعاء تحقيق نصر حتى عندما يتعلق الأمر بصراع أحد أطرافه "جهة شبه رسمية" كالجماعات المسلحة المنظمة، لا سيما وأن هذه الجماعات تستطيع إدامة العنف حتى لو انتهت العمليات العسكرية الكبرى.

وقد انعكس التغيير في طبيعة التهديدات وبيئة المعارك على الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية، فلم يعد الهدف هو تحقيق نصر كاسر مرة واحدة وإلى الأبد عبر التوغل البري مسنوداً بقدرات جوية تقنية متقدمة – كما في حرب 1967 – وإنما أصبح يميل إلى اتباع عقيدة "جز العشب" خصوصاً فيما يتعلق بغزة، أي كمهمة دائمة لا يمكن إنجازها تماماً لأن الأخطار تتزايد باستمرار، ولذلك يجب أن تتكرر عملية "الجز" على مراحل وحسب المتطلبات الميدانية والسياسية.

وتتشابه إلى حدٍ ما هذه العقيدة مع منطق "المعركة بين الحروب" التي تتبعها إسرائيل لتقويض نفوذ وحضور إيران وحلفائها في سوريا، فعلى مدار سنوات الأزمة السورية، واصلت القوة الجوية الإسرائيلية ضربَ أهداف محددة تشمل أصولاً تقنية وصواريخ عالية الدقة تتبع لإيران، وهذا النمط من الحروب الهجينة يتطلب جهداً استخباراتياً مكثفاً واستنفاراً دائماً تحسباً لأي ردة فعل كما حصل في الصاروخ الذي أُطلق من سوريا أثناء تنفيذ المقاتلات الإسرائيلية لغارات على أهداف هناك ووصل إلى قرب محيط مفاعل ديمونا النووي. وفي هذا الصدد، نشر مركز STRATEGIECS في مايو 2021 مقالاً يتحدث بشكل أوسع عن واقع الحرب الهجينة بين إسرائيل والفصائل المسلحة الفلسطينية في التصعيد الأخير؛ وهو بعنوان (الحروب الهجينة ورهانات النصر والهزيمة).

ويدرك المخططون الإسرائيليون أن ما يصلح عملياتياً للتعامل الاستباقي مع التهديدات الأمنية، لا يصلح عملياتياً للتعامل العسكري في ميدان الاشتباك وقتَ تفجّر المعركة، ولذلك أقرّت رئاسة الجيش الإسرائيلي خطة الزخم "Momentum" في مطلع يناير 2020 كاستجابة للدروس المستفادة من حرب غزة 2014 التي استمرت أكثر من 50 يوماً إذ لم تنجح فيها القوات البرية في تحقيق توغل بري مؤثر ضد قدرات الفصائل الفلسطينية. وتتلخص الخطة في تكامل وتكاتف كل الأركان والعمليات العسكرية لتحقيق إنجاز عسكري في وقتٍ قصير وعبر "زخم" ناري كبير بحيث يتم تدمير (50-60)٪ من قدرات العدو وحسم الموقف سريعاً دون تعطيل وإضرار الجبهة الداخلية الإسرائيلية لفترة طويلة.

وهذه الخطة يجب أن تكون مسنودة باستقرار حكومي داخلي وبمناخ دولي وإقليمي مؤيد للعمليات الإسرائيلية، لأنه سيترتب عليها خسائر بالغة في المدنيين والبنى التحتية، ولذلك يرجح أن "الزخم" لم يُفعَّل ضد غزة لأن التصعيد بقي في مستوياته الأولى ولم يتفاقم إلى حدود الذروة التي تتغاضى معها الحكومة عن التبعات الدولية لعملياتها وتركز على الجانب الميداني بغض النظر عن أي ضغوط أو حتى تهديدات دبلوماسية تصدر من الحلفاء.

كما أن خطة الزخم ليست موجهة في الدرجة الأولى ضد تهديد مختلط الطبيعة (مدني وعسكري) كما في جبهة غزة، وإنما موجهة ضد إيران وسوريا وحزب الله الذين يملكون مقرات عسكرية واضحة وهياكل عسكرية أكثر تنظيماً. يضاف إلى ذلك أن تفعيل هذه الخطة يتطلب أن يبادر الجيش الإسرائيلي بإطلاق النار، وفي التصعيد الأخير لم تحدد تل أبيب ساعة الصفر وإن كانت قد تسببت سياسياً في الاحتقان الذي قاد إلى الانفجار.

أمام هذه الساحات المختلفة، وأمام الاستراتيجيات العسكرية المتباينة التي يتم توظيفها استجابةً للتغيرات الطارئة؛ ستفرض مواجهة غزة الأخيرة نفسَها على جدول أعمال القيادة العسكرية الإسرائيلية المزدحم بالتهديدات الإيرانية واللبنانية والسورية، فما جرى من هجمات صاروخية غير مسبوقة - التي طالت حتى أطراف إسرائيل - تستدعي بالضرورة تقييمَ الأدوات الدفاعية وعلى رأسها القبة الحديدية التي تعرضت لهزة معنوية ستؤثر حتماً على خطط تسويقها وبيعها إلى بعض الدول.

وهذا التقييم سينجم عنه إدخال تعديلات على الخطط العسكرية التي تتطلب موافقة المجلس الوزاري المصغر وتوفير الأموال اللازمة، وفي ظل هذا الانقسام السياسي سيتأثر هذا الملف – الذي يفترض أن يكون مهنياً حرفياً – بالمواقف السياسية وبالتركيبة الحكومية الموجودة.

0اسرائيل-بعد-العاشر-من-مايو-in-3.jpg

وقد بدأت الأصوات داخل إسرائيل تطالب بتبني سياسة أمنية جديدة حيال غزة، ففي حوار مع القناة 13 الإسرائيلية قال وزير شؤون الاستيطان الإسرائيلي والعضو في حزب الليكود، تساحي هنغبي، إن تل أبيب ستبادر إلى قصف أهداف عسكرية داخل القطاع حالما أعادت الحركة – يقصد حماس – التسلح واستعدّت لشن الهجمات، حيث لن تنتظر تل أبيب إطلاق الصواريخ عليها لتقوم بالرد، مضيفاً أن ذلك هو"تغيير جذري للمعادلة ولم نفعل ذلك من قبل". وهذا التغيير يشابه استراتيجية إسرائيل في مواجهة التمركز الإيراني في سوريا عبر تنفيذ ضربات محدودة محددة لا تتعمد إيقاعَ ضحايا وبما يحول دون مراكمة القوة.

وفي هذا الصدد، ينبغي التساؤل حول ماهية الهدف الاستراتيجي لإسرائيل في قطاع غزة فهي تصنف حماس حركةً إرهابية، مما يعني أنه لا يجوز التواصل والتفاهم سياسياً معها بصورة مباشرة، وفي نفس الوقت هي لا تخطط لإنهاء سيطرة حماس على القطاع وإعادة السلطة الوطنية الفلسطينية لتتولى إدارة القطاع، وقد يكون الهدف الوحيد هو إعادة الإجماع داخل المجتمع الإسرائيلي على ثوابت الدولة العبرية اليهودية، إلا أن ما جرى مؤخراً أظهر التناقضات العرقية والسياسية كما جاء في البند الأول من هذا التقرير.

كما أظهرت الأحداث الأخيرة قدرةَ إسرائيل "المحدودة" على إدامة الصراع العسكري، فلديها الكثير لتخسره اقتصادياً وسياسياً ورفاهياً على عكس سكان قطاع غزة الذين بالكاد يملكون متطلبات الحياة الأساسية، فقدرتهم على التكيف مع حالات الطوارئ أكثر من الجبهة الإسرائيلية الداخلية، ولا يُقصد بذلك التماشي مع الطرح المشكك بمَنَعَة الوضع الإسرائيلي الداخلي وإنما قراءة لتفاعل البنية الإسرائيلية مع الأحداث الأخيرة كما جاء في الصحافة الإسرائيلية التي أجمعت على وجود خلل استخباراتي عملياتي.

in-4-0اسرائيل-بعد-العاشر-من-مايو.jpg

وتمثلت أبرز أوجه هذا الخلل في تقدير نوايا وقدرات حماس بعد تهديدها بالتصعيد ضد إسرائيل ما لم تنسحب القوات الإسرائيلية وجماعات المستوطنين المتشددين من المسجد الأقصى، فلم تستجب تل أبيب بجدية لهذا التهديد وافترضت أنه رسالة سياسية فلسطينية داخلية موجهة لكسب التأييد، ولم يتوقع المجمع الاستخباري والعسكري في تل أبيب أن الفصائل الفلسطينية مستعدة لمواجهة طويلة من حيث تمويه منصات إطلاق الصواريخ ورفع كفاءة الاتصال والتنسيق الميداني.

وجدير بالذكر أن إسرائيل تعرضت لأحداث خطيرة قبيل التصعيد الأخير والتي يُرجَّح أن تكون جزءاً من الحرب الهجينة بينها وبين إيران وحلفائها، كما في الحرائق التي اشتعلت في منشآت حيوية والهجمات السيبرانية.

وعليه، وفي ظل حالة الاستقطاب السياسي والمجتمعي في إسرائيل، فإنها ستسعى إلى استعادة الردع الإقليمي وترميم أوجه القصور المادي والمعنوي، وهذا الأمر قد لا يتم إلا بمواجهة جديدة تحدد هي ميدانها وساعة صفرها، وقد تندلع على خلفية تنفيذ اغتيال لشخصية بارزة أو قصف أصول عسكرية ثمينة.

وماذا بعد؟

مما لا شك فيه أن الأحداث الأخيرة أعادت الاهتمام إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بوصفه حجرَ أساس للاستقرار الإقليمي، وهذا الزخم السياسي يجب البناء عليه لصناعة سلام مستدام حتى لا تتحول الحرب الأخيرة إلى مجرد حدث عابر في سلسلة أزمات القضية الفلسطينية التي تتولد تباعاً.

وإذا كان البعد الناري العسكري قد انتهى بالتوصل إلى تهدئة، فإن التداعيات السياسية لما جرى ستستمر بالظهور في إسرائيل خلال هذا العام والتي يُتوقع أن تكون كالتالي:

فلسطينياً، ستسعى حماس إلى تمدين خطابها وتخفيف الصبغة الأيديولوجية لسلوكها، أملاً في اكتساب شرعية إقليمية ودولية، وهي بذلك تعد العدّة للانتخابات القادمة التي كان يُفترض أن تجري في وقت سابق من هذا العام قبل أن يُعلَن عن إلغائها بحجة رفض إسرائيل إجراء انتخابات في القدس الشرقية.

وفي حال تحدد موعد جديد لعقد الانتخابات الفلسطينية وبدء التطبيق العملي للتفاهمات السابقة المعنية بإنهاء الانقسام الإداري والسياسي؛ فإن حركة فتح ستشهد تراجعاً في تمثيلها لصالح حماس التي عززت مكاسبها المعنوية مؤخراً.

وفي هذا الصدد، قال وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، في حديث لصحفيين تلا التوصل إلى الهدنة أنه "يتعين تعزيز قوة السلطة الفلسطينية في غزة من خلال تكليفها بمهمة الإشراف على إعادة ترميم قطاع غزة وعدم نقل الأموال مباشرة إلى حماس" راهناً إحراز أي تقدم في المشاريع الاقتصادية في القطاع بإيجاد حل لقضية الأسرى والمفقودين الإسرائيليين. وعليه ستواجه عملية الإدارة السكانية للقطاع معضلات معيشية عدّة لا سيّما وأن الدمار الناشئ واسع النطاق استهدف المنشآت المدنية الحيوية والاقتصادية والخدمية.

وفيما يتعلق بالقدس الشرقية ستستمر اقتحامات المسجد رفضاً لمعادلة حماس التي تربط غزة بالقدس وحتى لا يتم تكريسها كأمر واقع في الذهنية الفلسطينية، لذلك تهدف إسرائيل من هذه الاقتحامات إلى الإيحاء بأنها لم ترضخ أو تُهزم في معركة غزة.

وبالنسبة لمحاولات الاستيلاء على مساكن حي الشيخ جراح، فإن تل أبيب ستتجنب إثارة رد فعل إقليمي – لا سيّما من الأردن – ودولي، لذلك ستجمد القضية دون الإقرار بأحقية السكان الفلسطينيين ودون طردهم.

إسرائيلياً، كما كان متوقعاً، لم ينجح نتنياهو في كسب تأييد الأغلبية اللازمة في الكنيست لتسميته رئيساً للوزراء، في حين نجح ائتلاف مكون من تيارات سياسية يمينية ووسطية ويسارية وعربية في حصد تأييد 61 عضو في الكنيست لحكومة يتناوب على رئاستها رئيس قائمة يمينا، نفتالي بينيت، ورئيس حزب يوجد مستقبل، يائير لابيد.

وسيتم التصويت على منح الثقة لهذه الحكومة في جلسة للكنيست في تاريخ 13 يونيو 2021 – حُدّثت هذه السطور في تاريخ 9 يونينو 2021 – وسط احتجاجات صاخبة لأنصار نتنياهو بلغت حدّ التحريض على النواب اليمينيين الذين سيصوتون لصالح الائتلاف الناشئ والذي إن حاز الثقة ستكون بأغلبية ضئيلة، مما يجعلها حكومة هشة لا يجمع بينها سوى "رفض" نتنياهو وإنهاء مستقبله السياسي سواء عبر السجن أو عبر تعهده بعدم الانخراط في الحياة السياسية. وعليه، لا يُستبعد تفتت الائتلاف الحكومي في المدى القريب.

على الصعيد المجتمعي، يشعر المتطرفون بخذلان حكومتهم وأنها لا تقوم بما يجب القيام به، مما يدفعهم إلى "أخذ حقهم بيدهم" كما نقلت بعض وسائل الإعلام عن صفحات خاصة بهم على منصات التواصل الاجتماعي.

في المقابل سيميل العرب إلى التعبير عن أنفسهم ضمن الهوية الفلسطينية، وستتكرر الصدامات التي قد تأخذ طابعاً أمنياً خطيراً، كهجمات الذئب المنفرد مثلاً.

إقليمياً ودولياً، ستسعى الأطراف الفاعلة إلى تحريك عملية السلام الراكدة عبر الدفع بأدوات جديدة نحو عملية السلام بصورة رسمية، وتتم المطالبة برفع حماس من قوائم الإرهاب الأمريكية والأوروبية حتى يتسنى التواصل معها كمُكوّن سياسي معترف به، تماماً كما حصل قبل توقيع اتفاق أوسلو ورفع منظمة التحرير من قوائم الإرهاب.

وإن هذا الاعتراف بالشرعية السياسية لحماس قد ينشأ عنه تدهور علاقات تل أبيب مع العواصم الغربية، والتي بدورها سئمت من هذا الصراع المعلّق المزعزع لحسابات الاستقرار الإقليمي، فقد أعادت الأحداث الأخيرة القضية الفلسطينية إلى سُلّم أولويات المنطقة، ولن تقبل واشنطن وحلفاؤها في الغرب بقاءَ الأوضاع على ما هي عليه دون حسم أو دون إحراز تقدم ملموس على طريق التسوية النهائية.

ولذلك قد تعيد واشنطن النظر في قرار إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن الذي صدر في عهد ترامب، وقد تفتتح قنصلية في القدس الشرقية كنوع من التمثيل الدبلوماسي في فلسطين. وقد يتزايد الاعتراف الغربي بفلسطين كدولة عضو في المجتمع الدولي بما يرفع تمثيلها من دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة (جرى هذا الاعتراف في نوفمبر 2012) إلى دولة عضو.

وقد يتم إعادة تفعيل اللجنة الرباعية الدولية لعملية السلام في الشرق الأوسط والمؤلفة من الاتحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتحدة والأمم المتحدة، لتقوم اللجنة بدور وسيط ناجز يسعى إلى تطبيق خارطة طريق مُجدولة بهدف إحلال السلام الشامل بين الجانبين.

ويُتوقع من بعض الدول العربية وخاصة الأردن ومصر لعب دور أكبر في سبيل تنسيق المواقف العربية، ومحاولة بلورة موقف شبه موحد حيال قضايا الحل النهائي، وهذه المهمة صعبة وتشهد تنافساً بين المرجعيات السياسية في الإقليم، فمثلاً يقترح مسؤولون أتراك بين الفينة والأخرى تشكيلَ لجنة ثلاثية – إسلامية مسيحية يهودية – للإشراف على المقدسات في القدس الشرقية، وهي بذلك تُناكف الوصاية الهاشمية على المقدسات في المدينة والتي يعتبرها العاهل الأردني، عبد الله الثاني، ذخراً استراتيجياً لا يمكن التفريط به، وسيسعى بكل ثقله الدبلوماسي إلى تثبيت هذه الوصاية في أي اتفاق أممي حيال قضايا الحل النهائي.

وهذا الحل يستلزم وجودَ منظومة فلسطينية قادرة على ضمان المتطلبات الأمنية للدولة ولإسرائيل، ويمكن إيفاد قوات حفظ سلام دولية تُشرف على مراقبة ما يتم التوصّل إليه من اتفاقيات، وفي الوقت نفسه تعمل هذه البعثة الدولية على تأهيل البنى الأمنية والعسكرية والمدنية للدولة الفلسطينية ذات السيادة الكاملة.

 

 

YOUR_SUBSCRIBTION_COULDNOT_BE_SAVED
Your subscription has been successful. YOUR_SUBSCRIBTION_HAS_BEEN_SUCCESSFUL

ستراتيجيكس
الكاتب: ستراتيجيكس فريق تحليل السياسات