يعاني الشباب اليوم من ظاهرة التدفق الهائل للمعلومات؛ فمع انتشار وسيلة الأنترنت وكل ما يتبعها، باتت كمية كبيرة من المعارف والعلوم متاحة من دون إشراف أو تنظيم. مما عرض الشباب لمختلف الأفكار والإيدلوجيات؛ وبالتالي أصبحوا في حيرة من أمرهم تجاه كثيرمن قضايا الوجود والكون.
أمامنا طريقان في هذه الحالة. إما أن ننظر للأمر على أنه شيء سلبيٌ خطير سيؤدي إلى عصر يملأه الضياع، وإما أن ننظر للأمر بإيجابية على أنه بدايةٌ لعصر الثقافة المعرفية الواسعة الأفق، وهي ما أرجحه وأعمل لأجله. سأتناول في هذه المقالة نقاطٍ عدة تناقش هذه القضية من منطلقاتٍ مختلفة تتضمنها قصصاً واقعيةً من تجربتي مع عدد من الشباب الذين تحدثت معهم بما يخص هذا الأمر.
أكثر ما يزعجني بالحديث عن تساؤلات الشباب التي يصلني منها الكثيرعلى حساباتي على مواقع التواصل الاجتماعي (مثل: هاشتاق شباب الوطن العربي) هو الطريقة السلبية التي ننظر بها للموضوع وكأن بداية ظهور الشكوك والأسئلة عند الشباب هي بدايةً لضياعهم؛ فنبدأ باتخاذ ردة فعلٍ معاكسة تماماً تحاول القضاء على هذه الأفكار فضلاً عن محاولة فهمها واستيعاب الشخص الذي يمر في هذه التجربة. ردة فعلٍ كهذه عادةً ما تخلق فجواتٍ بين الطرفين تؤثر على الطرف الأول بأن لا يفصح عن ما يدور في عقله وقلبه خوفاً من عدم التقبل وبالتالي ستبعده أكثر فأكثر عن الوسط الذي يحاول فهمه، وعن الطرف الثاني بأن يفقد الموقع والثقة اللذان يمكنانه من الإشراف القريب والإرشاد متى لزم الأمر.
قد لا أكون الشخص المؤهل للإجابة عن كل خاطرةٍ أو سؤال في موضوع العقائد والإيدلوجيات، ولكن عادةً ما يحدثني الشباب في الأمور التي تجري في خواطرهم حيال الموضوع لأنني غالباً ما أكون جاهزاً للاستماع لأسئلتهم والتحدث بأمورٍ، قد تكون حساسةً، من دون إصدار أي أحكامٍ أو تحذير. في الحقيقة، لقد وجدت دائماً أن هذه المحادثات الشيقة والمفيدة فرصاً ثمينة لما تطرحه على العقل من أفكارٍ مهمة تستحق التوقف عندها والاستفادة منها.
إن من بالغ الأهمية أيضاً ألا نحاول كبت هذه الأسئلة الصادقة التي من الطبيعي جداً للمرء الخوض فيها، بل من المهم للمرء أن يخوض فيها ليكون تدينه على أساس متين. أتذكر، في هذا السياق، قصة سيدنا إبراهيم كيف أنه اتخذ كواكباً، واحداً تلوَ الآخر، أرباباً له في مسيرة بحثه عن الله الخالق الواحد حتى وصل إلى الحقيقة المطلقة. نرى هنا أن تجربة الخوض في الشكوك التي تطرح على الإنسان أمراً طبيعياً خاض فيه أناسٌ عظماء، فكيف بأجيالٍ تخللت حياتهم الكثير من وفرة في الأفكار والمعارف؟
أسئلة مختلفة طرحت على مسمعي مؤخراً من شبابٍ واعدين، جلُّ همهم كان البحث عن حقائق يعرفونها ولكن يصعب عليهم إدراكها وفهمها. أحد الشباب كان محبطاً لأنه لم يستطع إيجاد فائدة متمثلةٍ بما يفعل من أعمالٍ من صلاة وصيام وغض بصرٍ ودعاء وذكر وقال أنه بحث وقرأ كثيراً ليحاول فهم تأثيرها الذي يتحدث عنه الكثير من علماء الدين فلم يجد ما يساعده في ذلك مما أبعده عن التطبيق لهذه الأعمال. شابٌّ آخر حدثني عن عدم قدرته لفهم الكون والوجود من وجهة نظر الدين ومشايخه التي عادةً ما تكون، من وجهة نظره، معقدةً بالمقارنة مع تفسير العلم لها مما اضطره لأخذ مسار علمي، والذي وصفه بالصريح المباشر، لمحاولة فهم الوجود من حوله. الكثير من الأسئلة الأخرى طرحت في نقاشاتٍ بيني وبين شبابٍ يحاولون الإجابة عن أسئلةٍ تطرح باستمرار. إن كان الله هو خالق كل شيء، فمن خلق الله؟ أين العدل الإلهي مما يحصل من كوارث فكرية وطبيعية وحروب؟ لم خلقني الله إن أراد تعذيبي لاحقاً؟ لم خلقني الله أصلاً؟ ما ذنبي إن خلقتُ في بيئة لا تهتم بالعقائد والدين؟ ما الهدف من هذه الحياة؟ لم نصلي؟ هل يجب عليَّ حرمان نفسي من الأكل والشرب لأشعر بمعاناة غيري؟
لستُ بصدد الإجابة عن هذه الأسئلة هنا التي قد تستغرق الكثير من الوقت. مع ذلك، سأحاول تشخيص الحالات بشكل عام سعياً لفهم جوهر هذه الظاهرة التي تنتشر بكثرةٍ في الآونة الأخيرة. في ظني أن جذور المشكلة تنبع من قصر فهمنا وإحاطتنا بحقيقة وجودنا بطريقة تعاملنا مع مواضيع الوجود والكون والايمان منذ الصغر؛فعندما انشغلنا بحث أولادنا على الصلاة والصيام والتصدق وفعل الخير منذ الصغر، أهملنا بناء الأساسات التي ترتكز عليها كل هذه الأفعال وهي محاولة فهمنا للوجود، سبب عبادتنا لله تعالى. إضافة إلى ذلك، فقد زرعنا في عقول أبنائنا علاقةً، بين العبد وربه، بنيت على اتباع ما أمر الله خوفاً من ناره وطمعاً في جنته، فتحولت أفعالهم لقائمة مهامٍ ما بين عبادات يمارسونها لكسب الأجر، وممنوعات يسعون لاجتناب وزرها. فأصبح تعاملنا مع الله كتعاملنا مع رب العمل أو الوالدين، ونسينا أننا نتعامل مع إلهٍ سخر لنا العالم بأسره لنتعرف عليه ولنفهمه ولنتفكر فيما أبدع.
هذه المشكلة ممتدة أيضاً إلى وسط التعليم الشرعي حيث أخبرني أحد الشباب أيضاً عن دراسته الشرعية التي تلقاها في أحد أكبر معاهد دمشق على يد كبار المشايخ والعلماء وكيف أنها غنية بمختلف العلوم الشرعية الواجب على كل إنسانٍ تعلمها. استمر الشاب ليتحدث عن عظمة وشمول هذه العلوم بأصولها وفروعها وكيف أن بعض المعاهد، في أواخرِ القرن الماضي، خرَّجت أناساً نقلوا تلك العلوم لبلدانٍ في مختلف أقاصي الأرض. مع ذلك، فإن الكثير من المشاكل تطورت مؤخراً لتصبح هذه المعاهد، من وجهة نظرِ وتجربة الشاب، تورث الطلاب علوماً كثيرةً من دون حالٍ روحيٍّ ملموسٍ يعكس عظمة هذه العلوم فبات معظمهم مشغولين باكتساب مختلف العلوم وتركوا التطبيق والعمل بالأصول ونقلها لمن يحتاجها بصدقٍ ولمجرد فعل المساهمة بنشر العلوم الدينية. برأيي، تأثير مشكلةٍ كهذه لا يقتصر فقط على متعلمي تلك العلوم، وإن كانوا هم من يحملون الوزر الأكبر في هذه الحالات، ولكن على كل من يتبعهم من العامة ويعتبرهم مراجع موثوقةً لتعلم تلك العلوم.
إن الأمثلة المذكورة تعكس مراحلاً مختلفةً يمر بمعظمها كل من يبحث عن الحقيقة. لا يجب علينا إلقاء اللوم على الشباب، لمجرد سؤالهم، ونسيان أصل المشكلة التي سببت لهم هذا التشتت. وكما أن المشكلة قد حصلت بالفعل فيجب علينا الآن أن نتخذ ما استطعنا من الخطوات لمساعدة هذه العقول الناشئة في مسيرتها نحو الحقيقة التي يقصدونها وأن نكون على مسافة قريبة منهم للإشراف والمساعدة متى احتيجت. بالإضافة أنني أؤمن أن معرفة هذه الأشياء تأتي من البحث والتجربة الشخصية للساعي لها، لا من اتباع وجهات نظر أناس آخرين تجاه الموضوع.
نهايةً وتأكيداً لما ذكرت، فإن كل الأمور يمكن أن ينظر لها على أنها الحل أو على أنها النهاية. بإمكاننا أن ننظر إلى هذه الظاهرة ونتعامل معها على أنها مشكلة وبالتالي سيبعدنا أكثر فأكثر عمن يخوضون بها، أو أن ننظر لها على أنها الحل والبداية لمستقبل جديد يبشر بإيمان وتدين عقلاني يعتنقه الشباب.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: