اعتبرَ مجلسُ الذهب العالمي عامَ 2018 أنه العامُ الأعلى مستوى من حيث صافي المشتريات السنوية للذهب من قبل البنوك المركزية منذُ فك ارتباط الذهب بالدولار عام 1971 كاستجابة لتوترات الحرب التجارية بين كل من: الولايات المتحدة الأمريكية والصين؛ التي فرضَت ضبابيةً في المشهد السياسي والاقتصادي على المستوى العالمي، مما دفع الأفراد والمؤسسات للجوء إلى الملاذات الآمنة؛ مثل: العملات القوية (كالدولار، واليورو، والجنيه الإسترليني.. إلخ) إلى جانب الذهب.
إن هذا الحدث - أي الحرب التجارية - دفعَ الفاعلين وغير الفاعلين على الساحة الدولية إلى تكثيف إعادة النظر بموقع الولايات المتحدة والدولار كناظم للعلاقات المالية والتجارية في العالم، كما أنه بيَّن عدم رضا بعض القوى العظمى في العالم - روسيا والصين في المقام الأول - عن طريقة "استغلال" واشنطن لهذا الموقع الذي اكتسبته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهذا ما أظهرته حُمّى شراء الذهب الذي ترافق مع تراجع الاقتصاد العالمي ككل؛ ما يعني بشكل أو بآخر أن منافسي الولايات المتحدة وخصومها، سيفعلون ما بوسعهم لإضعاف هيمنة الدولار أو تحجيم تأثيره على نشاطهم الاقتصادي في إطار محاولتهم خلق صيغة جديدة للمعادلة الاقتصادية الدولية.
ويعتقدُ البعض أن استخدام الولايات المتحدة لعُملتها المحلية - التي هي وسيلة الدفع الدولية السائدة في أغلب المعاملات التجارية والمالية في العالم - للتضييق على عدد من اقتصاديات الدول التي لا تلتقي مع الرؤية السياسية الأمريكية تجاه ملفات معينة، دفع هذه الدول ليس إلى مجرد التفكير بالانفكاك عن "هيمنة" الدولار الأمريكي فقط، وإنما الانتقال إلى تشريع القوانين وإقرار التعليمات وعقد الاتفاقيات الثنائية ومتعددة الأطراف؛ وذلك بهدف تنظيم عملية تحييد الدولار عن التجارة الخارجية للدول الراغبة بذلك.
التعاون بين الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي ضد الدولار
قد يلاحظُ الشخصُ العادي أن ما وصلت إليه المصالحُ الصينية - الهادفة إلى تحقيق توسع اقتصادي وتكنولوجي وانفتاح مالي متنامي - لا تتماشى مع احتلال الولايات المتحدة المركز الأول في العالم نقدياً وعسكرياً، وبالأخص مع وجود الإدارة الأمريكية الحالية في البيت الأبيض، التي تلجأ إلى السياسات الحمائية عند أول خلاف في وجهات النظر، إلى جانب التنافس على النفوذ الجيوسياسي في كل بقاع العالم تقريباً، وتحديداً في المجال الحيوي الصيني.
وعلى الرغم من كل ذلك؛ لا ترغب الصين بصدام متسارع أو مفاجئ مع واشنطن، لا لشيء وإنما مراعاةٌ لحجم الاعتمادية الكبيرة التي تربطُ الاقتصادين الأمريكي والصيني ببعضهما البعض، وعليه ترغبُ بكين بالتعامل الهادئ وعلى المدى الطويل للإخلال بموقع الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي شيئاً فشيئاً، وذلك لكي لا تتأثر المصالحُ الصينية في المقام الأول، إذ أن البنك المركزي الصيني ما زال يوازنُ - حتى الآن - ربط الإيوان بالدولار عند سعر الصرف المنخفض؛ للمحافظة على تنافسية الصادرات الصينية.
وحتى في ذروة الحرب التجارية، توقع كثيرون أن تُقْدم الصين على بيع جزء كبير مما بحوزتها من سندات الخزينة الأمريكية وأذوناتها، إلا أن ذلك لم يحصل، إذ قامت الصين بتخفيض هذه الحيازات إلى حوالي 60 مليار دولار منذ أغسطس 2019، لتتخلى بذلك عن مركز صدارة امتلاك الديون السيادية الأمريكية بواقع 1,11 تريليون دولار وبنسبة 15٫5٪ من قيمة هذه الديون في العالم، مباشرة خلف اليابان التي احتلت المركز الأول بواقع 1٫26 تريليون دولار.
فلو أقدمت الصين على إغراق سوق السندات الأمريكية، هذا سيعني أن قيمتها سوف تنهار، وبالتالي ستنخفض قيمة الدولار التي تقوم عليها هذه السندات، مما سيؤدي إلى انخفاض كبير في قيمة الصادرات الصينية وبالأخص صادراتها إلى الولايات المتحدة، وعليه سيُضرب موقع الاقتصاد الصيني المعتمِد في نموه على الصادرات؛ وربما أن شكل الاقتصاد هذا هو ما دفع السلطات الصينية عام 2013 إلى تبني استراتيجية أُطلق عليها اسم "الجديد العادي" الهادفة إلى تحويل نموذج النمو الصيني من الاعتماد على الصادرات إلى الاستناد على الطلب الاستهلاكي المحلي ليكون النمو الاقتصادي أكثر استدامة واستقراراً، وبمعنى آخر تحاول الصين الانسحاب من دورها كـ "مُصنع العالم" والتحوُل إلى تأمين الطلب في السوق المحلي.
تسعى الصين ومعها روسيا إلى استهداف الدولار من خلال فصله تدريجياً عن انفراده بتسعير سلعة النفط وتداولها، التي حققت عبر عقود من الزمن انتشار الدولار كوسيلة دفع دولية من خلال ما بات يُعرف بالبترودولار، إذ أن أول طرح لعقود آجلة قائمة على عملة الإيوان ليتم تداولها في بورصة شنغهاي كان في أواخر مارس 2018، وما يقوي خطوة بكين بطرح عقود نفط بالعملة المحلية هو كونها أكبر مستورد للنفط في العالم منذ عام 2017، وسبق ذلك إعلان صندوق النقد الدولي عن ضم العملة الصينية إلى سلة العملات المعتمَدة عام 2016، كما انتشرت في مطلع العام نفسه عدد من التسريبات التي تفيد بأن المملكة العربية السعودية تنوي بيع نفطها إلى الصين بالإيوان في إطار عدد من الاتفاقيات التي جرى توقيعها خلال زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى الرياض، إلا أن السلطات السعودية نفت ذلك في وقت لاحق.
وتعززت القناعة الروسية بضرورة التخلي عن الدولار بعد عام 2015 الذي جرى فيه ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا وما تبعه من عقوبات اقتصادية أمريكية وأوروبية ألحقت أضراراً جسيمة بالاقتصاد الروسي، فقلص البنك المركزي الروسي حيازته للسندات الأمريكية بواقع 96 مليار دولار منذ أبريل 2018، لتستقر بذلك الممتلكات الروسية للديون السيادية الأمريكية إلى حوالي الـ 10 مليارات فقط مع نهاية عام 2019، إلى جانب التخطيط الذي لم ينقطع من أجل بيع النفط والغاز الروسيين بالروبل، إلا أن هذا المشروع يبقى تطبيقه صعباً إلى حد كبير، ذلك لأن الروبل الروسي ضعيفُ التداول عالمياً، ناهيك عن أنه لا يمكن تصنيفُه على أنه عملة مستقرة، إلا أن هذه الصعوبات من الممكن أن يتم التعامل معها في إطار التعاون الاقتصادي مع شركاء روسيا الاقتصاديين؛ مثل: الصين والهند وغيرهما.
ولم يسْلَم الدولار من الانتقادات الموجهة من بعض دول الاتحاد الأوروبي أيضاً، فعلى سبيل المثال صرح الرئيسُ الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في أغسطس 2019 بضرورة "بناء سيادة اقتصادية ومالية أوروبية" بعيداً عن التبعية للدولار، ومن الجائز اعتبار الآلية المالية الأوروبية "إينستكس" للتعامل التجاري مع إيران، من بوادر هذه "السيادة" التي تحدث عنها ماكرون، إذ تم صياغة هذه الآلية كالتفاف على العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، وتشغل جمعية الاتصالات المالية العالمية "SWIFT" المسيطَر عليها أمريكياً حيزاً كبيراً من هذه الآلية.
وفي خطابه أمام البرلمان الأوروبي في سبتمبر 2018، عبر رئيس المفوضية الأوروبية السابق، جان كلود يونكر، عن عدم منطقية قيام الاتحاد الأوروبي بشراء 80% من احتياجاته من الطاقة باستخدام الدولار وليس باليورو.
كورونا والدولار
في مارس 2020، قررت منظمة شنغهاي للتعاون - التي تعد أكبر منظمة إقليمية في العالم من الناحيتين الجغرافية والسكانية - التخلي عن اعتماد الدولار خلال المعاملات الاقتصادية فيما بينها، وذلك في نفس التوقيت الذي دخلت فيه الولايات المتحدة معركتها العنيفة مع مكافحة تفشي فيروس "كوفيد - 19" المستجد، واللافتُ في الأمر أن الهند وافقت على هذا القرار بالرغم من مخاوفها من النفوذ الصيني في آسيا، وبالرغم من التوترات العسكرية التي تجمعُها مع باكستان؛ مما يعني أن هناك إجماعاً بين أعضاء المنظمة على ضرورة تعزيز التبادل بالعملات الوطنية في مواجهة الدولار.
وتأتي خطوة دول منظمة شنغهاي - التي تضم كلاً من: الصين، كازاخستان، قيرغيزستان، روسيا، طاجيكستان، أوزبكستان، الهند، باكستان - لتوسيع حيز المناورة عند التفاوض والتفاهم مع الولايات المتحدة على ملفات معينة، أبرزها سياسة العقوبات الاقتصادية وفرض التعرفات الجمركية التي تنتهجها إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب.
ومن الممكن فهم الخطوة المذكورة على أنها اقتناصٌ لفرصة انشغال واشنطن في كيفية الخروج من أزمة "كورونا"، وكإشارة للعالم حتى يسارع لاستغلال هذا الوقت في إمكانية البحث عن البدائل النقدية والاقتصادية بعيداً عن هيمنة العملة الخضراء.
لكن إذا افترضنا عبثاً عدم حدوث أزمة الفيروس؛ فوقتها سيكونُ الطريقُ طويلاً أمام مريدي إزاحة الدولار أو تحجيمه عالمياً؛ فبحسب عضو الجمعية العالمية لاقتصاديات الطاقة، وضاح الطه، فإن الدولار ما زال يتسيدُ العملات العالمية إذ أنه يشكل 90% من تداولات سوق العملات (الفوركس)، وحوالي 60% من الاحتياطات البنوك المركزية حول العالم، و40% من وحدات حقوق السحب الخاصة بصندوق النقد الدولي، وتوحي هذه النسب أن عدم التفاهم على واقع جديد لإدارة الاحتياطيات النقدية الدولية، والاستعاضة عن ذلك بتصرفات فردية من قبل الأسواق الناشئة أو الولايات المتحدة على حد سواء، سيكون من شأنه جرُ الاقتصاد العالمي إلى وضع كارثي.
ولا بد من الاعتراف بأن جائحة "كورونا" غيرت قواعد اللعبة بعض الشيء، فالولايات المتحدة ترسل إشارات توحي من خلالها بأنها بصدد قيادة حملة دولية من أجل محاسبة الصين "مالياً" على ما تعتبره إلى جانب بعض الدول الأوروبية تقصيراً صينياً يتعلق بعدم دقة رواية بكين حول انتشار الفيروس، بالإضافة إلى الاتهامات التي يتم إطلاقها بين الفينة والأخرى حول تسرب الفيروس من أحد المخابر البيولوجية في مدينة ووهان، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى احتمالية قيام السلطات الصينية بغض الطرف عن خطط تدويل عملتها المحلية كبادرة حسن نية تجاه واشنطن، لتجنب حرب تجارية جديدة ستكون - بالتأكيد - أكثر قسوة من سابقتها.
هذا أولاً، أما ثانياً، فإن الأثر الاقتصادي الناتج والذي سينتج عن تفشي فيروس "كورونا" المستجد في دول الاتحاد الأوروبي يهدد بانهيار هذا الأخير وتفككه، وبالتالي التخلي عن اليورو، وفي أسوأ الأحوال انهياره؛ ما سيزيد من حدة الاستقطاب النقدي في العالم بين الدولار والإيوان، وسيكون لذلك تداعيات سلبية على استقرار الاقتصاد العالمي بشكل عام.
وأخيراً، فعلى ما يبدو أن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، قد تخلى - بشكل مرحلي - عن سعيه لخفض الدولار، بهدف تعزيز الصادرات، لأن ذلك بات مستحيلاً؛ خاصة بعد الإقبال الكبير على الدولار كملاذ آمن في ظل الركود الاقتصادي الذي يضرب العالم اليوم، إلا أن هذا الوضع لن يطول، حيث سيعود الفريق الرئاسي لترامب بالمطالبة بخفض قيمة الدولار حتى لو تطلب الأمر تدخلاً مباشراً بعيداً عن معيار الفائدة المحدد من قبل الاحتياطي الفيدرالي. وبالإضافة لسعيه إلى عدم خسارة قاعدته الشعبية في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ستكون ذريعةُ ترامب لخفض قيمة الدولار هو الركود ولربما الكساد الذي سيصيب الاقتصاد الأمريكي، وعليه، فلا بد من خفض قيمة الدولار لتحريك الاقتصاد، في حال عدم جدوى الفائدة الصفرية المحددة من قبل الاحتياطي الفيدرالي.
إن السعي لخلق نظام نقدي دولي جديد، لا يتعلق فقط بطبيعة النخب السياسية المستلِمة لزمام الأمور في دول تُعتبر مراكز قوى في صنع القرار العالمي، ولا بطريقة تعبير هذه النخب عن نفسها بحسب مصالحها، ولا بانتشار فيروس "كورونا" المستجد، وإنما - إلى جانب ذلك كله - فإنه يتعلق بالشكل الذي وصلت إليه التناقضات الحاكمة لسير الاقتصاد الدولي، وما يتطلبه ذلك من أداة جديدة يخلقها السوق للتداول، ومن الممكن أن تكون هذه الأداة عملة قومية جديدة (مثل: الدولار أو الإيوان أو.. إلخ)، أو قد تكون عودة جزئية لمعيار الذهب، أو فتح المجال كلياً أمام النقد الرقمي.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: