منذ أن انسحبت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي عام 2015، طرحت مجتمعات السياسة والاستخبارات الكثير من الأسئلة عما إذا كان العالم مستعداً للتعامل مع افتراض أن تُصبح إيران مُسلحة نووياً، وهو الافتراض الصاعد في ظل جمود وتعقد مسار مفاوضات فيينا الهادفة لإحياء الاتفاق النووي تحت وقع مجموعة من المتغيرات الدولية والإقليمية، والتقارب الإيراني الروسي الصيني، ووسط العديد من التقديرات التي تُشير إلى اقتراب طهران من تجاوز العتبة النووية للأغراض العسكرية، جاء أبرزها بتصريح رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات الأمريكية، مارك ميلي، أمام لجنة شؤون القوات المسلحة في مجلس النواب الأمريكي في مارس الماضي "أن إيران تمتلك كل ما تحتاجه لصنع سلاح نووي خلال عدة أشهر في حال الضرورة" وبأنها " قادرة على صنع كمية كافية من المواد الضرورية للسلاح النووي في أقل من أسبوعين".
هل يمكن التعايش مع إيران نووية؟
تستمر إيران بتأكيد أن برنامجها النووي للاستخدام السلمي ولأغراض إنتاج الطاقة والنظائر التشخيصية الطبية، ومع ذلك لا يُمكن استبعاد فرضية أن تُعلن إيران عن امتلاكها للسلاح النووي، حيث لا توجد ضمانات حقيقية قد تدفع طهران للتخلي عن تطوير مُحتمل لأسلحتها النووية، خاصة وأنها تنتج ما يكفي من المواد الانشطارية التي تُمكنها من صنع قنبلة نووية في غضون 12 يوم بحسب وزارة الدفاع الأمريكية في فبراير 2023. كما يقول مفتشو الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إن نسب تخصيب اليورانيوم بلغت 84%، وهي بذلك قريبة من نسبة 90% المطلوبة لصنع قُنبلة نووية، وتُشير هذه البيانات المتواترة أن المجال يضيق أمام فرص التوصل لاتفاق نووي جديد.
وحيث تنظر الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى خطة العمل الشاملة المشتركة بأنها الضمانة الوحيدة لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي، فإن دولاً مثل إسرائيل لا تكتفي بالاعتماد على الجهود الأمريكية لمنع طهران من تطوير برنامجها النووي، وكان موقع "إكسيوس" الأمريكي قد أشار في أبريل 2023، إلى قلق المسؤولين الإسرائيليين بشأن التزام الولايات المتحدة الأمريكية بسياستها الخاصة بمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، وقد أبدوا انزعاجهم من حديث رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة مارك ميلي، أثناء مداخلة له أمام مجلس النواب الأمريكي حينما ذكر أن الولايات المتحدة "تظل ملتزمة بأن إيران لن تمتلك سلاحا نوويا ميدانيا".
وقد شعرت إسرائيل بالقلق من كلمة "ميدانيا" بدلاً من الاستخدام المعهود لكلمة "تطوير"، حيث فُهمت في سياق اتباع الولايات المتحدة لمقاربات جديدة في تعاملها مع برنامج إيران النووي، إدراكاً منها للمعطيات الدولية والإقليمية المُتغيرة، فقد جاء استخدام هذه الكلمة من أهم سلطة عسكرية أمريكية ميدانية، وهو ما يصاعد من التساؤلات حول دلالة هذا الاستخدام، خاصة إنه من المعروف أن القادة العسكريين على هذا المستوى يختارون كلماتهم بدقة شديدة بسبب ما يترتب عليها من تداعيات مهمة وخطيرة وربما كارثية كذلك.
مع ذلك تواجه مساعي إسرائيل لتعطيل القدرات النووية الإيرانية عراقيل وصعوبات لوجستية عدة، بموازاة ما يرتبط بها من مجموعة واسعة من المحاذير والتهديدات. بشكل قد يضطرها في النهاية إلى "التعايش مع إيران نووية" كما يُشير المؤرخ والكاتب العسكري البريطاني ماكس هاستينغز في صحيفة التايمز البريطانية في 10 أبريل 2023، ويُعلل ذلك بصعوبة وعدم جدوى اللجوء إلى الخيار العسكري كملاذ أخير.
وفي جميع الأحوال فإن مجرد طرح مثل هذا التساؤل الأخير والذي بات يأخذ حيزاً من النقاش في مراكز الفكر والأبحاث الغربية، يمثل بحد ذاته تحولاً مهماً لأنه يشكك في أحد المسلمات أو المباديء الرئيسية التي تحكم سياسة الولايات المتحدة والغرب وإسرائيل تجاه برنامج إيران النووي وهو عدم السماح لطهران بأن تكون دولة نووية مهما كان الثمن.
هل تصبح إيران دولة نووية؟
هناك العديد من الاعتبارات التي يستند إليها التساؤل فيما إذا كان لافتراض أن تعلن إيران امتلاكها السلاح النووي منطقياً؛ ومن أهمها:
1- التعثر في مسار المفاوضات النووية، خاصة في ظل امتلاك إيران أوراق تعزز موقفها تجاه الضغوط الغربية ومن ثم عدم قابليتها للتراجع أو تقديم التنازلات أمام هذه الضغوط، وفي مقدمة هذه الأوراق علاقاتها القوية مع روسيا والصين في ظل موقفها من الأزمة الأوكرانية وهذا يضعف بشكل كبير من العقوبات الأمريكية عليها.
وفي الوقت نفسه تتقدم طهران في برنامجها النووي بحيث أصبحت قريبة من امتلاك القدرة الكاملة على صنع سلاح نووي وفق التقديرات الأمريكية نفسها.
2- استخدام الخيار العسكري لتعطيل برنامج إيران النووي لن يؤدي إلى تدميره بالكامل أو الحد من قدرة إيران على امتلاك السلاح النووي. وعلى افتراض قدرة تدمير المنشآت النووية الإيرانية بشكل كامل بضربة عسكرية، فإن الخبرة الكبيرة التي تمتلكها إيران على مدى سنوات طويلة في هذا المجال، والعدد الكبير من العلماء والخبراء النووين يمكنها من إعادة بناء برنامج نووي في وقت قصير.
وفي هذا السياق نقل هاستينغز في صحيفة التايمز، عن نائب مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، تشاك فرايليتش قوله: "إيران لديها المعرفة المطلوبة اليوم لإعادة تشكيل البرنامج حتى بعد هجوم ناجح تماماً. وبالتالي، لم يعد العمل العسكري خياراً للقضاء على البرنامج، بل لكسب الوقت فقط".
3- يُمكن أن يأتي اللجوء إلى الخيار العسكري بنتائج عكسية؛ حيث أن عوامل عدم الاستقرار قد يزيد من إصرار النظام الإيراني على امتلاك الأسلحة النووية، خاصة وأن التقديرات تُشير إلى أن إيران لم تتخذ حتى اللحظة قراراً بحيازة الأسلحة النووية تفادياً للمخاطر التي قد تجلبها، وبالتالي فإن أي هجوم ضد إيران قد يحررها من التزاماتها وتحفظاتها، وربما يؤدي إلى تخلي طهران رسمياً عن فتوى الخميني بتحريم امتلاك السلاح النووي.
4- من الناحية النظرية فإن امتلاك إيران لسلاح نووي لا يمنع التعايش بينها وبين إسرائيل بناءاً على قاعدة "توازن الرعب"، كما هو الحال في العلاقة بين الهند وباكستان اللتان لم تشهد العلاقة بينهما أي مواجهة عسكرية كبيرة منذ امتلاكهما معاً للسلاح النووي على عكس الفترة التي سبقت ذلك والتي شهدت عدة مواجهات عسكرية كبرى.
5- إن مخاوف دول الشرق الأوسط من برنامج إيران النووي، لا يعني أنها راغبة في اندلاع مواجهة عسكرية تقودها إسرائيل أو الولايات المتحدة، قد تُلقي بتداعيات ثقيلة على المنطقة، في وقت تشهد فيه المنطقة حالة من الانفتاح، بعد أن واجهت دولها عقد مليء بالصراعات والنزاعات.
ويشير البعض في هذا الخصوص إلى أن التحسن الكبير الذي جرى في مسار العلاقات الإيرانية- الخليجية خلال الفترة الماضية وخاصة العلاقات السعودية-الإيرانية، جاء بينما تتعثر مفاوضات إحياء الاتفاق النووي بشكل كبير، وتتواتر التقديرات الاستخباراتية الغربية والإسرائيلية حول اقتراب طهران من امتلاك السلاح النووي.
المسألة أكثر تعقيداً
مع أهمية الاعتبارات السابقة، فإن المسألة تبدو أكثر تعقيداً وتشابكاً، حيث أن هناك العديد من العوامل التي تجعل من الصعب قبول إسرائيل أو الولايات المتحدة أو دول المنطقة بالتعايش مع إيران نووية، لعدد من الأسباب لعل أهمها:
أولاً: أن النظام الإيراني يتبنى أيديولوجية تُشرعن له التدخل في شؤون دول المنطقة، كتصريحات أركانه بشكل متواصل عن نية طهران "إنهاء إسرائيل من الوجود"، فضلاً عن دوره في حالة عدم الاستقرار التي يشهدها الإقليم منذ عام 2011، وفي ظل هكذا سلوكيات فإن الحديث عن إرساء مبدأ "توازن الرعب" قد لا ينطبق على إيران التي تنتهج سياسات عدائية تجاه معظم دول المنطقة، وبمجرد حصولها على السلاح النووي، فذلك قد ينعكس في تعزيز نفوذها وتقوية الجماعات المُسلحة التابعة لها.
ثانياً: يُمكن تفسير وصف رئيس هيئة الأركان الأمريكية لمفردة "ميدانياً" بشكل لا يتضمن احتمالات قبول الولايات المتحدة أو تغاضيها عن امتلاك إيران للسلاح النووي، من خلال النظر للتصريح بأنه يستهدف الجهود الصينية لإرساء الوساطة بين السعودية وإيران من خلال التلميح إلى احتمال قبل الولايات المتحدة بامتلاك طهران السلاح النووي ضمن حدود وشروط معينة؛ حيث تدرك واشنطن حساسية هذه المسالة لدى السعودية وما يمكن أن تؤدي إليه في مسار علاقاتها مع إيران. إلى جانب أن الولايات المتحدة ربما تبدو أكثر واقعية في التعامل مع الملف النووي الإيراني من إسرائيل، ومن هنا يمكن فهم تصريحات رئيس هيئة الأركان الأمريكية باعتبارها بمثابة "بالون اختبار" موجه إلى إسرائيل في هذا الخصوص.
ثالثاً: لا يمكن مقارنة حالة إيران وإسرائيل بحالة الهند وباكستان، لأن أياً من إسلام آباد أو نيودلهي لا يتبنى علناً خطاباً يُلغي الآخر ويستهدفه وجودياً، كما هو الحال في علاقة إيران مع إسرائيل.
رابعاً: إن امتلاك إيران السلاح النووي سوف يخلق حالة خطيرة من سباق التسلح النووي في المنطقة برمتها ربما تشمل السعودية وتركيا ومصر وغيرها، خاصة أن الرياض قد ألمحت أكثر من مرة إلى أن امتلاك طهران لهذا السلاح سوف يدفعها إلى السعي للحصول على رادع نووي.
خامساً: على الرغم من التطور الكبير الذي لحق بعلاقات إيران مع كل من روسيا والصين خلال الفترة الماضية، فإن البلدين لا يقبلان بامتلاك إيران السلاح النووي لأنه يهدد مصالحهما في المنطقة. ويمكن الإشارة في هذا الخصوص إلى تصويت روسيا لصالح 6 قرارات في مجلس الأمن الدولي ضد إيران بين عامي 2006 و2010، وكذلك قامت بفرض عقوبات على طهران بسبب برنامجها النووي.
من جهة روسيا فهي تُدرك التغيير الذي سيحدثه امتلاك إيران للسلاح النووي في موازين المنطقة، وذلك سيلحق الضرر في الكثير من مصالحها لا سيما في سوريا، وأما الصين، فهي حريصة على علاقاتها الاستراتيجية مع دول الخليج العربي وفي مقدمتها السعودية الإمارات، ومن مصلحتها استقرار المنطقة على أساس علاقات طبيعية بين دولها، وهذا أحد الأسباب الرئيسية التي وقفت وراء وساطتها بين طهران والرياض مؤخرا.
سادساً: على الرغم من الاستشهاد بتجربة باكستان والهند للحديث عن إمكانية التعايش مع إيران نووية أو التوازن بين إيران وإسرائيل، فإنه من المفارقة أن تجربة باكستان النووية تمثل بحد ذاتها أحد الأسباب المهمة التي تدعو الولايات المتحدة والغرب إلى منع إيران من امتلاك سلاح نووي. لأن وجود هذا السلاح لدى باكستان هو مصدر قلق دائم من وقوعه في أيدي المتطرفين أو المتشددين ما سيؤدي إلى كارثة كبيرة. والأمر نفسه ينطبق على إيران؛ حيث لا توجد أي ضمانة لعدم وقوع السلاح النووي في أيدي المتطرفين فيها الذين يتبنون مواقف وتوجهات خطيرة تجاه الجوار والعالم بشكل عام.
وفي ضوء كل ما سبق يمكن القول، ثمة إدراك غربي بشكل عام وأمريكي بشكل خاص، بصعوبة وقف أو تعطيل برنامج إيران النووي بشكل كامل ومحدودية الخيارات في التعامل مع هذا البرنامج بما في ذلك الخيار العسكري، وهذا هو السبب الذي يدعو البعض إلى طرح إمكانية التعايش مع طهران نووية لأول مرة، إلا أن ذلك في الواقع يدفع بالولايات المتحدة بشكل خاص إلى تبني رؤية أكثر واقعية في التعامل مع ملف إيران النووي، بما يعنيه ذلك من احتمال تقديم بعض التنازلات، لكن دون القبول بامتلاك إيران السلاح النووي، لأن هذا من الخطوط الحمراء الرئيسية في التعامل مع الملف.
وعلى الرغم من معوقات التوصل إلى اتفاق حول إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015، والمحاذير التي تحيط بالخيار العسكري في مواجهة برنامج إيران النووي، فإن هذا لا يعني انعدام الخيارات الأمريكية أو الإسرائيلية للتعامل مع هذا الملف.
ففي الوقت الذي تجد فيه إسرائيل صعوبة في التدمير الكامل لبرنامج طهران النووي فإنها تستخدم الضربات الاستخباراتية لإبطاء هذا البرنامج وتأخير امتلاك إيران للسلاح النووي وتمضي في هذه السياسة بإصرار وقوة.
أما الولايات المتحدة فإنها تستمر في العقوبات الاقتصادية من ناحية، وتعمل على طرح أفكار حول اتفاق مؤقت بشأن الملف النووي الإيراني يمنع إطلاق يد طهران في تطوير قدراتها النووية، وهذا يعني أن واشنطن لا تستسلم لواقع التعثر في المفاوضات النووية وتترك لإيران الفرصة لمزيد من التطوير لقدراتها النووية.
وأخيراً فإيران ذاتها تدرك خطورة تجاوزها لحدود معينة في برنامجها النووي، لمعرفتها بأن الغرب وإسرائيل لن يسمحا لها بامتلاك السلاح النووي، وإن إقدامها على هذه الخطوة قد يشكل تهديداً لنظامها السياسي، بينما تشير التجارب إلى إن طهران يمكن أن تقدم أي تنازلات إذا رأت أن نظامها السياسي يتعرض إلى تهديد حقيقي وجدي.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: