يُثير انتخاب رئيسٍ أميركي جديد دائماً مئات الأسئلة حول السياسات التي سيتبعها، خصوصاً الخارجية منها، إذ لا يكاد يخلو أي ملف عالمي من دورٍ محوري للولايات المتحدة فيه. لذلك تكثر، في مطلع كل ولاية رئاسية جديدة، التحليلات والقراءات والتنبؤات حول الكيفية التي سيدير بواسطتها سيد البيت الأبيض الجديد القضايا العالقة التي ورثها عن سلفه!
هكذا وما إن باشر الرئيس جو بايدن مهامه الجديدة، حتى بدأ بالحديث عن نواياه المتوقعة للتعامل مع الملفات الإشكالية كالملف النووي الإيراني والسلام في الشرق الأوسط والاتفاقات البيئية العالمية.. إلخ. واحتل موضوع سورية والحرب المستمرة فيها منذ عشر سنوات موقعاً مهماً على قائمة هذه التكهنات، إذ لا تقتصر التركات في هذا الملف على إرث الحرب فقط، أو على ما قام به الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، بل تتجاوزها إلى رؤساء سابقين كُثر. وربطت بين البلدين سلسلة من أعقد العلاقات الدولية المعاصرة، والتي شهدت مستويات عالية من الشد والجذب، واقتصرت فترات الهدوء فيها على مناسبات قليلة ومحدودة.
إن تاريخ العلاقات الأمريكية-السورية، والتوتر بين الدولتين، قديمان قدم تاريخ الدولة السورية الحديثة نفسها. صحيحٌ أنَّ الولايات المتحدة أقامت علاقات دبلوماسية مع سورية منذ عام 1944 أي حتى قبل خروج الفرنسيين بشكل نهائي منها، إلا أنَّها بدأت بالتدخل في الشأن السوري الداخلي بعد بضعة أعوامٍ. ولم يكن انقلاب حسني الزعيم في 30 مارس (آذار) 1949، الذي أطاح بشكري القوتلي، أول رئيس منتخب للبلاد، وقائد معركة استقلالها، هو أول تحرك عسكري من نوعه في سورية وحسب، بل كان أحد الإجراءات السرية الأولى التي نفذتها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية منذ إنشائها في عام 1947.
لقد كان هذا الانقلاب، الذي ساعدت إدارة الرئيس الأميركي هاري ترومان على حدوثه، الأولَ في سلسلة طويلة من الانقلابات العسكرية التي أدت إلى هيمنة القوات المسلحة على الحياة السياسية ليس في سورية وحدها بل في دول عربية وشرق أوسطية عدة. أضف إلى ذلك أن الرئيس القوتلي وبعد استعادته السلطة عام 1955، سارع إلى التقارب مع مصر الموالية للسوفييت حينها. ووقّعت دمشق في عهده سلسلة اتفاقيات مع الاتحاد السوفييتي السابق، كان بعضها عبارة عن صفقات سلاح.
لقد كانت الولايات المتحدة منتشيه بانتصارها قليل التكاليف في الحرب العالمية الثانية، وتراجع نفوذ القوى الكبرى التقليدية (فرنسا وبريطانيا) لصالحها، ولم تتوقع أن ترفض دولة صغيرة في الشرق مثل سورية أن تنصاع لرغبتها، وهي العملاق المنتصر. وجاء الضوء الأخضر للانقلاب على القوتلي مجدداً من الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور، الذي اتهم نظيره السوري بالوقوف مع الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة. فشلت المحاولة هذه المرة، وجرى تعليق العلاقات الدبلوماسية بين البلدين نتيجة حرب السويس 1956، وتمت الوحدة بين سورية ومصر عام 1958 ثم قطعت الولايات المتحدة علاقاتها مع سورية، رغم أنها أبقت عليها مع مصر.
ربما أدركت واشنطن في تلك المرحلة أن سورية لن تتوقف عن المشاكسة، مستفيدة من الأوراق التي منحها إياها موقعها الجغرافي، ورغبت في نشر الهدوء في تلك المنطقة لحماية أمن إسرائيل، لذلك أعاد الرئيس جون كينيدي العلاقات مع سورية مباشرة بعد خروجها من "الجمهورية العربية المتحدة" في سبتمبر (أيلول) عام 1961. واستمر الهدوء الحذر بين الدولتين حتى اندلاع حرب يونيو (حزيران) 1967، التي استمرت لأيام قليلة لكنها غيّرت معادلات الشرق الأوسط، ومن ضمنها العلاقات السورية الأمريكية، حتى الآن.
أعلنت سورية قطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، برئاسة ليندون جونسون حينها، إذ رأت أن الدعم الأميركي هو ما مكَّن إسرائيل من احتلال مرتفعات الجولان السورية، وغيرها من الأراضي العربية. لتعود العلاقات على يد وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر وزياراته المكوكية بين دمشق وتل أبيب بحثاً عن حل سلمي لنزاعهما بعد حرب عام 1973. وفعلاً نجح في التوصل إلى اتفاق لفض الاشتباك بين القوات تم التوقيع عليه في أيار/مايو 1974، وانتهت الحرب رسمياً. وفي غضون شهر واحد، زار الرئيس الأميركي حينها ريتشارد نيكسون دمشق معلناً إعادة إحياء العلاقات الدبلوماسية مع سورية، المقطوعة منذ سبعة أعوام خلت. ويقال إن التدخل السوري في لبنان عام 1975 تم بموافقة أميركا التي كان يرأسها جيرالد فورد خلفاً لنيكسون المستقيل.
رغم هذه "الموافقة"، لم تكن الولايات المتحدة راضية تمام الرضا عن الدور السوري المتعاظم في الإقليم. لكنها لم تعمد إلى انتهاج سياسة خاصة بسورية تختلف عما تتبعه مع الدول "المشاغبة" الأخرى، بل حاولت دائماً ابتزازها وفرض الشروط والإملاءات عليها، فجرى إدراج اسمها على القائمة الأمريكية للدول الداعمة للإرهاب منذ إصدار هذه القائمة أول مرة عام 1979، ما دفع سورية إلى التقارب مع إيران بعد انتصار ثورة الخميني في العام نفسه.
ولأن واشنطن أرادت فرض التبعية على دمشق فرضاً، ظلت العلاقة بينهما متوترة على امتداد ثمانينيات القرن الماضي، واستمرت في نهجها الذي يتسم بالفوقية والتعالي والغرور حيال سورية فاتهمتها بالضلوع في نشاطات إرهابية تمت في ذلك العقد مثل تفجيرات السفارة الأمريكية وثكنات المارينز الأمريكية عام 1983 في بيروت، وقصف الطائرة المدنية الأمريكية Pan Am Flight 103 عام 1988 فيما عُرف لاحقاً بقضية لوكربي.
جاء التحسن الأكبر في علاقات البلدين في التقارب بينهما عام 1990، عندما انضمت سورية إلى التحالف الذي قاده الرئيس جورج بوش الأب لتحرير الكويت. ثم كانت سلسلة "الجولات المكوكية" الثانية التي كان عرابها هذه المرة ثعلبُ دبلوماسيةٍ أميركي آخر هو وزير الخارجية جيمس بيكر الذي استطاع إقناع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بالمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام.
رغم الفشل الأميركي في دفع سورية لتوقيع اتفاقٍ مع إسرائيل، إلا أن نوعاً من التفاهم الضمني ظلَّ سائداً بين البلدين طوال العقد الأخير من الألفية الماضية، فلا تتجاوز أي منهما دورها في المنطقة. لقد وظَّف الأسد الأب حينها عملية السلام والمفاوضات مع إسرائيل لتحسين علاقات بلاده مع أميركا، والحدِّ من احتمالات الصدام. وشهدت تلك الحقبة اجتماعين له مع نظيره الأميركي بيل كلينتون، كان اللافت فيهما تعبير الأخير عن إعجابه بالأسد وبطول أناته في التفاوض، خاصة بعد قمة جنيف التي جمعتهما في أبريل (نيسان) 2000. توفي الأسد بعد هذا الاجتماع بأشهر قليلة، وسارعت واشنطن إلى تأييد تنصيب ابنه بشار خلفاً له، وزارتْه وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت على أمل استمراره على خطى أبيه فيما يتعلق بالسلام ومسار المفاوضات.
لكن، أبت الأحداث العالمية إلا أن تعيد العلاقات الأمريكية السورية إلى مربع التوتر الأول، فقد ترافقت أحداث 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001 مع وجود جورج بوش الابن في المكتب البيضاوي، وإدارته التي غلب عليها فريق "الصقور"، فصدرت عنهم تصريحات شديدة اللهجة تجاه دمشق، وألحقها جون بولتون، السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة في ذلك الوقت، بما سماه بوش "محور الشر" أي العراق وكوريا الشمالية وإيران، بناء على الزعم بامتلاك دمشق أسلحة دمار شامل.
زاد التوتر في أعقاب غزو الولايات المتحدة للعراق 2003، ومعارضة سورية له في مجلس الأمن الدولي، وتجاهلها العقوبات المفروضة على العراق، بل وتوسيع حجم تجارتها معه. ثم فرضت العقوبات عليها هي نفسها في العام التالي، فكيف تسامحها واشنطن التي لم تسكت على امتناع فرنسا، الدولة العظمى، عن المشاركة في الغزو؟
أما في عام 2005، فقد بلغ التوتر أشدّه بين البلدين على خلفية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، إذ سحبت واشنطن سفيرها من دمشق متهمة سورية بالوقوف وراء الجريمة. وظل التوتر هو سيد الموقف طيلة السنوات الخمس التالية، والتي شهدت فوز باراك أوباما بالرئاسة الأميركية، فحاول أن يعيد ربط ما انقطع من علاقات بين البلدين، وتوج هذا التقارب والانفتاح النسبي بتسمية الدبلوماسي المخضرم روبرت فورد سفيراً جديداً في دمشق. غير أنه لم يُتح له القيام بالكثير، أقله على صعيد تحسين العلاقات بين البلدين، إذ لم ينقضِ الربع الأول من عام 2011 حتى اندلعت في سورية أحداث ما سُمي بـ "الربيع العربي".
تربعت سورية منذ ذلك التاريخ على قمة أولويات الولايات المتحدة التي كانت سياساتها الأخيرة حيال دمشق أبعد ما تكون عن "الاستراتيجية" فكثيراً ما أخطأت، وكثيراً ما صححت الخطأ بخطأ أكبر، وغالباً ما اعتمدت أسلوب الابتزاز وحاولت ليّ ذراع الطرف الآخر متوقعة منها أن تنصاع خلال وقت قصير، فقد فرض أوباما منذ بداية الاضطرابات عقوبات جديدة على سورية، وبدأت واشنطن بتسليح المتمردين المناهضين للحكومة متذرعة بالتخوف من استخدام قوات الحكومة للأسلحة الكيماوية. ومنذ عام 2015، شنت غارات جوية في سورية في إطار جهودها لمحاربة تنظيم "داعش" الإرهابي الذي تشكل في سورية والعراق، كما قالت. واستطاع خلف أوباما الرئيس ترامب أن يقضي على أبو بكر البغدادي زعيم هذا التنظيم ويحدَّ من وجوده إلى مستوى كبير. إلا أنه أيضاً نفذ ضربات صاروخية استهدفت مواقع عسكرية حساسة في سورية، ناهيك عن ممارسته سياسة الضغط الأقصى عليها، وفرضه عقوبات اقتصادية كبيرة ما زال شعبها يرزح تحت وطأتها وما زالت معاناته تتفاقم.
إذن، لا يقع اللوم على سورية وحده لتراجع علاقاتها مع الولايات المتحدة، فقد لعب العديد من الرؤساء الأميركيين السابقين أدواراً أثرت سلباً على مواقف البلدين من بعضهما بعضاً. والمفارقة أنهم فعلوا ذلك انطلاقاً من رغبتهم في تحقيق مصالح بلادهم أو ضبط سلوك سورية في محيطها الإقليمي، فزادوا من توتر العلاقات بين البلدين، والاستياء الشعبي وارتياب السوريين من السياسة الأمريكية تجاه بلادهم. ودفعوا دمشق مرة إلى أحضان السوفييت، ثانية إلى فخ الوحدة مع عبد الناصر، وثالثة باتجاه تركيا أردوغان. واليوم، تُجبر دمشق على المضي بعيداً عن مجالها العربي إلى تحالف اضطراري مع إيران، فتتفاقم عزلتها عن المجتمع الدولي، وتتراجع ثقتها الضعيفة أصلاً، بالقيادة الأمريكية، وتتصلب بالتالي في مواقفها لأنها تتوقع من أميركا الأسوأ دائماً، ولا سيما أنها لم تُلدغ من الجحر مرتين فحسب، بل مرّات كثيرة.
لا أقول هنا أنَّ العلاقات بين البلدين محكومة بالخلاف دائماً، بل على العكس؛ إذ بالرغم من أن التوتر هو السمة الغالبة التي طبعت تاريخ علاقاتهما، إلا أن ثمة سمة كانت أكثر وضوحاً وتأثيراً على كيفية تعاطي إحداهما مع الأخرى، وهي "البراغماتية العقلانية"، فقد أظهرت الدولتان قدرة على التقارب والتفاهم، سراً كان ذلك أم علناً، عندما اقتضت الحاجة وفرضت الظروف. كما استفادت كل منهما من قدرات الأخرى لتحقيق مصالحها، حتى في أحلك الأوقات وأحرجها. وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن فتح صفحة جديدة في العلاقات ما بين الدولتين ما زال ممكناً، وأن بناء الثقة بينهما، ولو نسبياً، ليس بالأمر المستحيل.
تقتضي البراغماتية والعقلانية من الرئيس الأميركي الجديد إعادة تقييم سياسة بلاده الخارجية تجاه سورية، فدمشق ورغم سنوات الحرب التي أنهكتها ما تزال رقماً مهماً في مختلف المعادلات التي تهم الولايات المتحدة في المنطقة وفي الشرق الأوسط الأوسع.
والسؤال الذي ينتظر الإجابة من الإدارة الجديدة، هو هل يدرك الرئيس بايدن حقاً مدى أهمية إيجاد حل للصراع في سورية بالنسبة للولايات المتحدة ذاتها؟ وهل سيولي ذلك الاهتمام الكافي، وبالتالي يفتح الباب على سلام وتقارب وانفتاح، أم أنه سيسير على خطى بعض أسلافه ويكرر أخطاءهم في سورية، متابعاً نهج الابتزاز والتعالي والإملاءات التي بدأها من سبقوه على السلطة في واشنطن؟ وهل ينتهج حيال سورية سياسة صارمة ويرفع عصا غليظة بوجهها، وكأنها إيران مثلاً، من دون الانتباه إلى خصوصيتها، وأهميتها بالنسبة إلى عملية السلام، ولمصالح بلاده التي يمكن أن تتحقق إذا ما استطاعت تغيير منظومة تحالفات دمشق في الإقليم؟
البحث عن إجابات لهذه التساؤلات، يحتاج إلى مساحة خاصة، سيوفرها مقالٍ مقبل!
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: