في الشتاء الماضي عُثر على صديقي ميتاً في سريره البارد؛ لأنه لا يملك أية وسيلة للتدفئة، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا؟ لأن العقوبات الأميركية على سوريا تفرض وتؤثر على الناس العاديين وليس على حكومة بشار الأسد، حيث لا يتوافر التيار الكهربائي للناس سوى ساعة واحدة أو نحو ذلك في اليوم.
الشهر الماضي، رنّ هاتفي، وإذ بأحد أقاربي في دمشق يطلب مني مساعدة طفل سوري صغير، اسمه "محمد دعفيس"، تستخدم عائلة محمد ابن السنتين من عمره "ببور الكاز"، وهو منتج يعود إلى العصر الفيكتوري للطبخ، ولا يوجد لديهم مرجل للماء الساخن في الحمام، حيث وصل تقنين الكهرباء في سوريا إلى أعلى مستوياته؛ بسبب عجز الحكومة عن تأمين مادة الفيول اللازمة لتوليد التيار الكهربائي نتيجة العقوبات.
وكأي طفل في سنّه، كان محمد يلعب مع أخوته في بيتهم الغارق في الظلمة، والذي لا تتجاوز مساحته 300 قدم مربع، وأثناء اللعب سقط محمد في حوض للماء المغلي، الذي قامت والدته بغليه على ببور الكاز، ابتعدت والدته لوهلة لأداء بعض المهام الروتينية لكن محمد لم يرَ الحوض وسقط فيه نتيجة الظلام الدامس في المنزل.
تعالت صرخاته لتهرع إليه والدته لتنجده، والده بائع متجول مقعد يلازم كرسياً متحركاً نتيجة لإصابة في قدمه خلال الحرب - هرع إليه أيضاً بأقصى سرعة، وقام مسرعا بحمل الطفل المحروق إلى مستشفى المجتهد الحكومي في دمشق، لكن حالة حروق الطفل ونزيفه ساءت كثيرا وأصبح محتاجا إلى نقل دم.
وقف أطباء المستشفى الحكومي عاجزين أمام ألمه ومعاناته، كان الدم المنقول إلى الطفل ملوثاً، مما توجب على عائلة محمد أن تنقله على وجه السرعة إلى مستشفى خاص، ولكن كيف لأب يبيع الطماطم على عربة أن يدفع تكاليف العلاج في مستشفى خاص؟
لقد انهارت قيمة الليرة السورية إلى لا شيء تقريباً، فأصبح الدولار يساوي قرابة الـ 3660 ليرة، ومتوسط الأجر اليومي في سوريا أقل من دولارين، ووالد محمد لا يكسب دولاراً واحدا في اليوم. روج في سوريا لقانون قيصر لحماية المدنيين السوريين لعام 2019، الذي وقعه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، كانتصار لقوى العدالة ضد الحكومة الوحشية. لكن، لم يحقق هذا القانون العدالة، بل جلب المجاعة والظلام والطاعون والبؤس والسرقة والخطف وتدمير الأمة. فلم تعد المساعدات الدولية تصل إلى سوريا كما كانت في السابق؛ لأن الوكالات تخشى أن تتعارض مع قانون قيصر.
لا يتعلق الأمر بالرئيس الأسد، فمثلما نحن لا نختار مكان مولدنا، لم يختر الشعب السوري أيضا حكومته. سيعتمد الأسد في مواجهة العقوبات، على الدعم الإيراني الذي سيضر بسوريا أكثر مع استمرار معاناة المواطنين العاديين.
لجأ والد محمد إلى قريبي الذي أرسل لي صوراً صادمة لحروق الصبي، فعندما شاهدت الصور شعرت بالصدمة، ولم أدخر جهداً للمساعدة، وبعد صعوبة كبيرة، أدخل محمد مستشفى خاصاً في سويا، ولكن هذه المستشفيات الخاصة في سوريا، ليست مجهزة كغيرها في بقية دول العالم. أتذكرون كيف عانت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة للحصول على معدات الحماية الشخصية خلال الأيام الأولى من الجائحة؟ لا يزال السوريون يعيشون تلك المعاناة يومياً، نتيجة لنقص الأوكسجين والإمدادات الطبية الأساسية.
أبلغ الأطباء والد محمد أن الصغير لن ينجو إذا بقي في سوريا، فسارعت بالاتصال بمستشفى خاص مجهز بشكل أفضل في بيروت بلبنان الواقع على بعد مسافة ساعات للوصول إليه بالسيارة، وبعد توسل كثير تمكنّا من العثور على سرير في المستشفى، وتولت سيارتان من الهلال الأحمر والصليب الأحمر من كلا البلدين مهمة نقل الطفل عبر الحدود السورية - اللبنانية.
حاول أطباء رفضوا ذكر أسمائهم في المستشفى في بيروت إنقاذ محمد، لقد كافح الصبي آلامه لمدة ستة أيام، لكن حتى مستشفيات لبنان أيضا تفتقر إلى المعدات الجيدة المتطورة. وصلت فاتورة المستشفى إلى أكثر من 100,000 دولار. وتسبب الالتهاب الحاد لدى الطفل بفشل كليتيه، وتوقف قلبه الصغير في نهاية المطاف.
لن يكون الطفل محمد آخر طفل سوري يموت نتيجة للحرمان الناجم عن العقوبات.
فلم يرَ أي طفل سوري دون سن العاشرة بلده ينعم بالسلام، وإذا بقيوا يعانون من الجوع والحرمان من الرعاية الطبية الأساسية في بلد تنعدم فيه الفرص الاقتصادية، فقد ينتهي المطاف بهؤلاء الأطفال جنوداً في موجة جديدة للإرهاب في الشرق الأوسط. فالعديد من ملالي إيران يتوعدون بـ “الموت لأمريكا" و "الموت لإسرائيل" بشكل منتظم في مساجدهم المسيّسة، وعلى الرغم من العقوبات الأميركية فليس لدى السوريون مثل هذه الثقافة حتى الآن. ولكن، يمكن للحرمان والتأثير الأجنبي أن يغيرا الأمور.
بالفعل، لقد كان واضحاً منذ أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، أن الإرهاب المتزايد هنا يصل دائماً إلى الولايات المتحدة، هدفه النهائي.
وإذا كانت استراتيجية الولايات المتحدة هي إجبار الناس على الإطاحة بالأسد، فهذا لم ينجح ولن ينجح. سوف ينضم الناس إلى النظام: هذا هو الدرس المستفاد من كوبا فيدل كاسترو تحت العقوبات الأميركية. انظروا عبر الحدود حيث تسيطر إيران الآن على جزء كبير من العراق ولبنان، فهل ترغب واشنطن في خلق فراغ في سوريا ليعيد وكلاء تركيا أو إيران الحرب الأهلية، بحيث تكون إيران أقرب إلى مواجهة مباشرة مع إسرائيل؟
تغيير النظام لم ينجح في سوريا، ولذلك يجب ألا تؤدي مشاكل الغرب مع الأسد إلى عقاب جماعي لشعب بأكمله. عائلة محمد ليست سوى واحدة من بين ملايين العائلات التي تضم والدين مصابين وعاجزين.
لقى قرابة نصف مليون سوري حتفهم اعتباراً من 2011، ونزح حوالي ثلاثة عشر مليون شخص - أكثر من نصف سكان البلاد قبل الحرب، ويتجه الكثيرون نحو أوروبا وإذا لم يتم رفع العقوبات قريباً، فسيصبح عدد أكبر منهم لاجئين في الغرب، ليس لديهم ما يخسرونه في رحلتهم عبر البحر الأبيض المتوسط وسوف يحملون غضبهم معهم.
ومع ذلك، ها هو جوزيب بوريل المفوض السامي للاتحاد الأوروبي يصرّ على معاقبة الشعب السوري، مصرحاً الشهر الماضي بأن الاتحاد الأوربي "لن يتخلى عن تطبيق العقوبات المفروضة على سوريا، قبل بدء الانتقال السياسي في البلاد".
لا يدرك هذا النهج الساذج للسياسة حقيقة الشرق الأوسط، ولا يُظهر القلق على حياة الأطفال العاديين مثل محمد. فلقد جددت كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا عقوباتها بدلاً من أن تقرّ بأن العقوبات لا تجدي نفعاً. لم تُطح العقوبات بالزعيم العراقي السابق صدام حسين، ولا بالزعيم الليبي السابق معمر القذافي ولا بفيدل كاسترو، كما لم تؤدِ إلى خلع آية الله خامنئي في إيران أيضاً. هذا هو تعريف اينشتاين للجنون: "أن تفعل نفس الشيء مرة بعد أخرى وتتوقع نتيجة مختلفة".
هل يغفو بايدن والكونغرس الأميركي والقادة الأوربيون ليلاً، بينما يموت شعب بأكمله من الجوع والقمع والتهميش، لمجرد أن السياسيين يريدون أن يُنظر إليهم على أنهم يفعلون شيئاً ضد الحكومة السورية؟
لقد اختبر الرئيس بايدن فقدان اثنين من أبنائه، لذا هو في وضع فريد يمكّنه من فهم حزن الآباء السوريين، وعليه رفع العقوبات الأميركية عديمة الجدوى ومنح السوريين فرصة لحياة جديدة وإعادة بناء ما هدمته سياسة القوة البغيضة.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: