غريبٌ ما يحدث هذه الأيام من حجرٍ صحي أجبر السكان في أغلب دول العالم على العيش طبقا لواقع لم نكن نتوقعه منذ أشهر، ومع ذلك؛ فإن الشعوب تقضي الآن فترة خلوة إجبارية لم يسبق لها نظير بهذا المستوى الكبير من التأثير على جميع الفئات العمرية. قد يكون هذا التغيير المفاجئ شيئاً محموداً ومرحباً به لدى الكثير من الأشخاص بين فرصةٍ لقضاء وقتٍ أكثر مع العائلة، وبين أخرى ليحظى صاحبها ببعض السلام الداخلي بعيداً عن ضجة العالم الخارجي. أما لأناسٍ آخرين، فقد لا تبدو هذه الفترة إلا كحبس اضطراري أجبروا عليه كارهين وهو ما لاحظته على عدد كبيرٍ من الأشخاص، وأغلبهم من فئة الشباب، بعد متابعةٍ دقيقة لردود الأفعال تجاه الحجر الصحي على مواقع التواصل الاجتماعي.
إن طبيعة الحياة الاجتماعية التي آل إليها شباب اليوم تبعد كل البعد عن التقييد والأسر. فكما تحول الواقع من حولهم ليعطيهم الحرية الفكرية والنفسية أو المعنوية الكاملة من خلال الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، فقد أفضى هذا التحول أيضا إلى وجوب حصولهم على الحرية الجسدية أيضاً؛ مما أدى إلى أن ينظروا لهذا الواقع على أنه حبس مذموم. ولكن وكما ذكرت سابقاً، فبالإمكان النظر إلى هذا الموضوع على أنه أمرٌ سيءٌ يقيد الحريات، أو أنه فرصةٌ ذهبية للعمل وللاستعداد لمرحلة قادمة جديدة على وشك البدء.
وما يدفعني لاعتبار هذا الوقت المتاح خلال فترة الحجر الصحي فرصة ذهبية هو عدة عوامل منها: الوقت الذي سيدفع الكثيرين لقضاءِ خلوةٍ مع النفس مما سيخلق مساراً لنشأةِ الكثيرِ من الأفكار والطاقات الكامنة لدى الشباب؛ فكثيراً ما أسمع تذمر الشباب من عدم إيجاد الوقت لممارسة ما يحبون وما يعبر عما في داخلهم من إبداع، ولذلك؛ فإن هذه الفترة ستكون بمثابةِ محفزٍ لتفجر طاقاتٍ لطالما أرادت الظهور وإحداث التغيير على المستوى الشخصي والمجتمعي. الرائع في الأمر والذي يجعله مهماً جداً هو تأثيره المستقبلي، فبعد قضاءِ وقتٍ مع الذات لمحاولة تسخير هذه الطاقات والأفكار، سيخرج الشباب من هذه الفترة وفي جعبتهم كم وفير من الأشياء التي يستطيعون تقديمها للعالم من حولهم.
فقد تساهم هذه الفترة - إن تم اغتنامها طبعاً - بتوفير الوقت الكافي للجميع وبالأخص للشباب وذلك للعمل على صقل مهاراتٍ شخصيةٍ عمليةٍ واجتماعيةٍ ومهنيةٍ مختلفة، خاصة فيما نراه من مبادراتٍ رائعةٍ من الكثير من المواقع والجامعات والمكتبات بعرض محتوياتها بالمجان خلال هذه الفترة. فعالمنا اليوم يسمح لنا بالوصول إلى الكثير والكثير من المواد العلمية المتاحة من خلال الإنترنت ونحنُ جالسون في بيوتنا. أذكر - على سبيل المثال لا الحصر - تعلم التصميم بمختلف أنواعه والترجمة واللغات والبرمجة والتسويق والكتابة والتأليف والخطابة والإلقاء وتطوير مهارات التواصل والفنون بأنواعها، وأخيراً القراءة؛ وهي ما أظن أن شباب اليوم يفتقدها بشدة. إن ممارسة البعض لهذه المهارات والخبرات سوف تساعد الفئات المقبلة على مرحلةٍ دراسيةٍ جديدةٍ في اختيارٍ أفضل للاختصاص مع اقتراب نهاية العام الدراسي، وسوف تساعد كل من يعاني من شتاتٍ في الهوية العملية على إيجاد مسارٍ مختلف للعمل واستثمار الجهود.
إضافةً إلى ذلك، فكثيرٌ من هذه المهارات ستكون جزءاً لمرحلةٍ جوهريةٍ قادمةٍ نقبل عليها. فقد شهد عالمنا مؤخراً زيادةً ملحوظةً في الأعمال الحرة إذ باتت معظم الشركات والمنظمات تعتمد بشكل متزايد على هذا النوع من العمل لما يقدمه من سهولةٍ في التعامل واستثمارٍ للجهود والوقت والمال. فالواقع الذي اضطررنا للعيش به الآن سيؤدي حتماً إلى تفجر هذا النوع من الأعمال في المستقبل القريب. إني أناشد كل من يريد أن يكون جزءاً فعالاً في هذا التغيير أن يغتنم هذه الفرصة للاستعداد له وللمحاولة في تطبيقه على مستوى المهارات الشخصية.
ويجب علينا أيضاً في ظل هذه الظروف أن نتابع أثر هذا التغيير على الطباع النفسية وعلى أخلاقيات العمل والدراسة لدى الشباب إذ أنه يأتي مع الكثير من المعطيات. فإنَّ أغلب القطاعات، سواءٌ الدراسية والعلمية والعملية، بدأت بتنفيذ المهام وإنجاز الأمور عن بُعد. والسؤال المطروح هنا: هل ستؤدي هذه التغيرات إلى فتح المجال لإبداعٍ أكبر بسبب التواجد في بيئة مريحةٍ وصديقة تتجسد في المنزل أم على العكس؛ فنشهد إطالةً وكسلاً في تأدية هذه المهام؟ أم هل سيكون الواقع خليطاً بين الاثنين معاً؟ شيءٌ كهذا يصعب التنبؤ به من الآن، ولكني أقول: إن لم تدفعْنا هذه الأزمةُ لاغتنامها في مواجهة أنفسنا وإلزامها بالقيام بالمهام، فما الذي سيدفعنا لذلك؟
أخيراً ومن النقاط المهمة جداً أن نناقشها هي العلاقة بين الشباب وعائلاتهم وأثر الحجر الصحي عليها. فقد لا تبدو هذه النقطة بالجوهرية، ولكن قضاء وقت مطول في البيوت مع العائلات سيحدث حتماً تغييراً في طبيعة هذه العلاقات. لذا يجب على الشباب أن ينتهزوا هذه الفرصة للتقرب من ذويهم وذلك للاستفادة من الحديث معهم ومن قصصهم وتجاربهم القديمة ولمحاولة إفادتهم وتقديم المساعدة بكل ما هو جديد إذ أن التطور ينبع عادةً من عملية الدمج بين القديم والجديد.
وختاماً، إن الوضع الحالي ليس بالوضع السهل أبداً. وإنني أرجو السلامة لكل أمم العالم وبلدانها من هذا الوباء الذي يعصف بالأرض من جميع أقطابها. ومع ذلك، فيجب علينا أن نفكر وننظر بعنايةٍ لما يحدث من منظور يساعدنا على التقدم والإنجاز والإبداع، لا على التوقف والرجوع والكسل؛ فإن الكم الهائل من مؤلفات الكُتَّاب، والكثير من اختراعات العلماء، ونهوض الأمم، وإرشادات الأنبياء كانت كلها تبعاً لخلواتٍ تتبعها خلوات. إن الأمل بمستقبلٍ مشرقٍ موجودٌ بل ومحتوم إن أحسنّا اغتنام حاضرنا، وإنه لمن الشيق رؤية ما سيؤول إليه عالمنا وطبيعة سيره أثناء هذا الوباء وبعد انتهائه؛ وهو ما أترك القارئ معه للتفكير والتأمل.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: