في أغسطس 1945، أُجبرت اليابان على إعلان استسلامها في الحرب العالمية الثانية، بعد أن تعرضت مدينتا هيروشيما وناغازاكي لأول هجوم نووي في التاريخ. وبعد 4 سنوات؛ أعلن الاتحاد السوفييتي إجراء أول تجاربه النووية، كاسراً بذلك احتكار الولايات المتحدة لهذا السلاح؛ ليصبح "الردع النووي المتبادل" أهم سمات نظام القطبية الثنائية.
سعى المنظّرون الاستراتيجيون إلى ابتكار وسائل جديدة، لاحتواء مظاهر الصراع القطبي؛ خشيةً من استخدامٍ آخر لسلاح دمارٍ شامل. إذ أدركت القوتان والمجتمع الدولي بأسره، مدى "التدمير المتبادل المؤكد" الذي سيحدث إن حصلت مواجهة مباشرة شاملة، ويعرف هذا النوع من التدمير اختصاراً بـ (MAD: Mutual Assured Destruction). لذا، تحول هدف "الاستراتيجية العسكرية" منذ خمسينيات القرن الماضي من الانتصار في الحرب، إلى تجنّب مواجهةٍ مدمرة ومكلفة لا تحقق الهدف الاستراتيجي للسياسة الخارجية للدولة؛ استناداً على معادلة "الكلفة والمكسب". كما توسّعت وسائل تحقيق الأهداف العامة للسياسة الخارجية للدولة، لتشمل أدواتٍ اقتصادية ودبلوماسية، إذ لم تعُد "القوة الصلبة - Hard Power" ركيزةً وحيدة في منطق العلاقات الدولية. ويُرجِع مؤيدو "المدرسة الواقعية" في العلاقات الدولية عدم اندلاع حرب بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي إلى حرص الطرفين على عدم البدء في مواجهة قد تتدرج مستويات الأسلحة المستخدمة فيها من الأسلحة "التقليدية" وصولاً إلى أسلحة الدمار الشامل.
إلا أن الرهان على "الردع المتبادل" المتمثل بدفع طرف ما على إدراك قدرة الخصم على إيقاع أقصى الضرر به، يبقى محفوفاً بمخاطر التقدير الخاطىء للنوايا والحسابات. لذا تنوعت العقائد العسكرية القتالية بين العقيدة الهجومية التي تتبنى خيار الضربة الاستباقية الوقائية، أو العقيدة الدفاعية التي تتبنى الضربة الانتقامية الثانية.
كما أن تفسير طرف ما، لزيادة تسلّح طرفٍ آخر، على أنه تهديد مُحتمل؛ يُديم المعضلة الأمنية القائمة على النوايا. ففي الوقت الذي تُعتبر فيه زيادة القدرات العسكرية وسيلةً للحفاظ على متطلبات الأمن القومي، قد يتصورها الطرف المقابل على أنها تهديد وشيك لاستقراره.
وبالرغم من أن "نظام الردع" يرتبط بافتراض اتباع العقلانية تجاه الاستراتيجية النووية بما يُخضعها لحسابات معمقة عند اتخاذ القرارات ذات الصلة، إلا أن هذا النظام يبقى متأثراً بمتغيراتٍ قد لا يكون قياسها والتيقن منها ممكناً، وهو ما يجعل من انتهاء "السلام النووي" سيناريو ممكناً عند بعض الظروف.
تكمن إحدى أهم الانتقادات الموجهة إلى الأسلحة النووية في أن اتساع رقعة الدمار الناشىء عنها، لا يُفرّق بين الأهداف العسكرية والمدنية. لذا هذّب التطور التقني من هذه الرقعة وركزها في بؤرة محددة. وتصنَّف الأسلحة ذات القدرة التدميرية الأقل من 1 كيلو طن من مادة "TNT" المتفجرة؛ بأنها أسلحة نووية تكتيكية. وهي ليست بالقدرة المحدودة، فقنبلة "الولد الصغير" التي أُلقيت على مدينة هيروشيما اليابانية، يتراوح الدمار الناشىء عنها من 12 - 18 كيلو طن؛ بحسب تقديرات متباينة.
وفي تقرير تُحدّثه منظمة "مبادرة التهديد النووي" باستمرار، يتّضح التباين في تصنيف الأسلحة النووية (استراتيجية أو تكتيكية) بين الدول؛ حيث تصنف فرنسا جميع أسلحتها المنشورة بأنها استراتيجية. وتضع الصين العديد من أسلحتها النووية في خانة الأسلحة الاستراتيجية، بينما تُعتبر بحسب المعايير الروسية والأمريكية أسلحةً تكتيكية.
ولذلك تميل بعض التصنيفات الأكاديمية والعملياتية إلى اعتماد عامل "المدى" لتحديد فئة السلاح بدلاً من معيار "الدمار الناشىء"، إذ تصنف الولايات المتحدة وروسيا الأسلحة التكتيكية بأنها أسلحة قصيرة المدى (أقل من 600 كم). والمدى القصير لا يمنح الجهة المستهدَفة الوقت الكافي للتعامل مع الموقف.
ويتزايد توجه الجيوش نحو الأسلحة التكتيكية، تكيفاً مع مختلف التهديدات العملياتية التي قد تواجهها. إذ أكدت وثيقة "استعراض الموقف النووي" التي أقرتها وزارة الدفاع الأمريكية في يناير 2018، على أهمية الأسلحة النووية ذات الطاقة المنخفضة، لضمان رادع نووي ذي مصداقية في وجه الأخطار الروسية المتزايدة في أوروبا.
إلا أن تحرر استخدام هذه الأسلحة النووية من القيود السياسية والأخلاقية مقارنةً بالأسلحة الاستراتيجية، قد يجعل من مُتخذ القرار أقل انضباطاً في إصدار الأوامر بتوجيه ضربة محدودة النطاق. وبغض النظر عن مدى الطاقة المحررة في التفجير، فإنه لا يمكن الجزم بالقدرة على حصر أي تصعيد نووي في مستوياته الدنيا، فهذه الأسلحة التكتيكية قد تكون شرارةً لأخرى استراتيجية، رغم أن الغاية من وراء استخدام الأسلحة التكتيكية هي تجنُّب المبادرة باستخدام الأسلحة ذات الطاقة الهائلة.
ومع اعتياد العالم على ظاهرة الإرهاب وأساليبه المتغيرة، يبدو أن العلاقات الدولية ستشهد شيئاً فشيئاً عودة إلى الفكر الردعي الكلاسيكي، لضمان الأمن والاستقرار الدوليين. وبحسب العقائد الأمنية المنبثقة عن نظرية الردع، يُنظر إلى الأمن على أنه مسألة وجودية؛ ما يعني قصور المنطق الأمني في هذه الحالة عن الوسائل والأدوات الأخرى الضرورية ذات الصلة بالواقع المعيشي للسكان.
وما قد يُعزز هذه العودة هو تعدد مراكز الاستقطاب دولياً وإقليمياً، وتنامي حالة التنافس العسكري فيما بينها، في ظل ازدواجية المعايير بين دوافع فرض الأمر الواقع، وضرورات مراعاة الجوانب الأخلاقية في الحروب. ويُثبت التاريخ أنه في القضايا المصيرية، تتغاضى الدول عن هذه الجوانب في سبيل "الوجود". لذا لم يتردد المجلس الفيدرالي الروسي في تعليق العمل بمعاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى في 27 يونيو 2019، بعد إعلان الولايات المتحدة الانسحاب منها. وفي نفس اليوم، أعلنت طهران عن البدء بزيادة نسبة تخصيب اليورانيوم رداً على ما تراه عدم التزام الدول الموقعة على اتفاق لوزان النووي، بتعهداتها الاقتصادية والتجارية.
وفي المرحلة الحالية - كما في المراحل السابقة - يسعى أطراف فاعلون في المجتمع الدولي إلى ضبط انتشار أسلحة الدمار الشامل عمودياً وأفقياً؛ ويُقصد بالانتشار العمودي زيادة ترسانة أسلحة دولة ما، كماً أو نوعاً. أما الأفقي فيتعلق بدخول دولة جديدة إلى النادي النووي. وفي الشرق الأوسط، قد تسعى دول راغبة في تحسين مكانتها الإقليمية إلى دخول هذا النادي، لما يضمنه الردع النووي من متانةٍ لموقف الدولة السياسي. إذ أن عسكرة مختلف القضايا المتنازع عليها، وعدم وجود حل جذري ومستدام للصراعات القائمة، هما عاملان محفزان لرغبة عديد من الدول في إضفاء المزيد من "شرعية الأمر الواقع" بمختلف الوسائل الممكنة.
شرق أوسط نووي
يرجع أول تأثر بالقدرات النووية في الشرق الأوسط إلى حرب عام 1973 التي اندلعت بين مصر وسوريا من جهة، وبين إسرائيل من جهة أخرى. وتشير بعض التقارير إلى إصدار رئيسة وزراء إسرائيل، غولدا مائير، الأوامر بنشر صواريخ "أريحا" القادرة على حمل رؤوس نووية، لتتدخل بعدها الولايات المتحدة وتدشن جسراً عسكرياً جوياً لتعويض رجحان كفة أسلحة العرب التقليدية على حساب إسرائيل، بحيث لا يكون في المعركة طرف منتصر وآخر مهزوم وجودياً، ولتحول دون توغل الجيش المصري إلى درجة تضطر معها إسرائيل إلى استخدام السلاح النووي، إن كانت تحوزه.
تتبع إسرائيل سياسة "الغموض النووي" دون نفي حيازتها للقدرات النووية العسكرية. فأي نظام ردع فعال يرتكز على مصداقية التهديد، لذا تُبقي إسرائيل خطر حيازتها السلاح النووي حاضراً في تصورات أعدائها ومنافسيها. وفي الوقت نفسه، لا تكشف عن قدراتها النووية، حتى لا تعطي ذريعةً لدول المنطقة لتقوم بتطوير سلاح نووي. فأحد مرتكزات الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية هي عدم القبول بأي دولة نووية في المنطقة، لأن العمق الاستراتيجي لإسرائيل والبالغ 65 كم - من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط - لا يحتمل هجوماً نووياً؛ ما يدفعها إلى تأكيد حالة عدم التوازن العسكري بينها وبين دول المنطقة.
ولذلك تتشدد إسرائيل فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني، ولا تتصور إمكانية التعايش مع قدرات طهران العسكرية النووية، وتحاول تحشيد موقف دولي رافض لطموح إيران النووي، رغم أن تقرير "التسليح العالمي والأمن الدولي" لعام 2019، والصادر عن معهد "ستوكهولم" لأبحاث السلام، كشف عن امتلاك إسرائيل لترسانة صواريخ نووية غير منشورة تتراوح ما بين (80-90) رأس.
ويثير تهديد إيران بتخفيض التزاماتها في الاتفاق النووي، مخاطرَ اندلاع سباق تسلح نووي في المنطقة. فقد كشف ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في مقابلة مع قناة "CBS" في مارس 2018، عن أن السعودية ستطور "بلا شك وفي أسرع وقت" قنبلة نووية إذا أقدمت إيران على هذه الخطوة.
وكشفت قناة "CNN" في يونيو 2019 عن حصول الوكالات الاستخبارية الأمريكية على معلومات مؤكدة تفيد بتطوير السعودية برنامجاً للصواريخ الباليستية بمساعدة صينية. وهو ما قد يزيد من شكوك بعض الجهات الدولية والأمريكية حول نوايا البرنامج السعودي، والذي تؤكّد السعودية بدورها على سلميته.
وبتقييم الموقف النووي السعودي من منظور الرقابة الدولية، يُلاحظ أن صلاحية الوكالة الدولية للطاقة الذرية للقيام بأعمال التحقق من طبيعة النشاط النووي في السعودية، تقل عمّا تستطيع الوكالة القيام به في إيران. فالسعودية صادقت عام 2005 على بروتوكول "الكميات الصغيرة" التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبموجبه يُسمح لها بالتعامل مع كميات "ضعيفة التخصيب" من المواد المشعّة. وفي الوقت نفسه، لم تصادق الرياض على اعتماد الإجراءات الرقابية التي تسمح للمفتشين الدوليين بالوصول إلى "المواقع النووية قيد التطوير أو التشغيل".
وبحسب مركز بون الدولي للدراسات؛ فإن تطوير تقنيات نووية لغايات سلمية، يمكّن الجهة المطورة من اكتساب المعرفة والمواد اللازمة للبرنامج النووي العسكري؛ فالمجالان المدني والعسكري مرتبطان ببعضهما ارتباطاً وثيقاً إلى درجة يصعب الفصل بينهما.
أما فيما يتعلق بمفاعلات اليورانيوم لتوليد الكهرباء، فهي متقدمة على تلك ذات الغايات العسكرية من ناحية السيطرة على التفاعل النووي، وتوجيه الطاقة الناتجة عنه نحو خطوط محددة، أي أن هذا التفاعل السلمي يتطلب أن يكون "متحكَمَاً به" أكثر من التفاعل الذي تكون غاياته عسكرية، والذي تتحرر فيه الطاقة الكامنة في اليورانيوم لحظة الانفجار وليس في قلب المفاعل كما يحدث في مفاعلات توليد الكهرباء. وفي سياق ذي صلة؛ تتجه إيران إلى إضفاء بعد نووي أكثر وضوحاً في تصعيدها مع الولايات المتحدة، موحيةً بقوة موقفها بالرغم من تشديد العقوبات عليها لحدود قصوى.
إن حيازة أي دولة لأسلحة كاسرةٍ للتوازن الإقليمي الهش يدفع منافسيها إلى تقليص الفجوة النووية من خلال امتلاك سلاح يحول دون تفوق هذه الدولة في ميزان القوى. ويتطلب الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، الحيلولة دون اندلاع سباق تسلح نووي في بيئة إقليمية معقدة لا يمكن ضبط القرارات بشأن الاستراتيجية النووية فيها عبر مؤسسات مؤهلة ومستقلة، ولا التكهن بمسار الأحداث على أرضها. فهناك مخاطر عالية من وقوع سلاح دمار شامل في "الأيدي الخاطئة" سواء أكانت في أيدي تنظيمات إرهابية، أو دولة لا تدرك عواقب الحرب النووية.
إلا أن مبدأ عقلانية التظاهر بعدم التعقل "Rationality of Pretended Irrationality" الذي تُظهر فيه دولة ما سلوك "الدولة المجنونة" واستعدادها لشن حرب نووية من أجل ردع الطرف المقابل، قد يحفز التوصل إلى تسويات مختلفة للقضايا الشائكة، تجنباً لدمار حتمي في حال تدرّج التصعيد نحو حرب نووية. إلا أن السلام الحقيقي لا يأتي فقط من مجرد الخوف من دمار الحرب، وإنما يتطلب السلام تعايشاً مشتركاً وإيماناً بحقوق الدول والشعوب، فغياب الحرب بين دولتين نوويتين لا يعني وجود حالة من السلام بينهما.
فمثلاً، يزخر تاريخ الهند وباكستان بثلاثة حروب وعدة مواجهات شاملة، إلا أنه ومنذ إعلان باكستان عن حيازة السلاح النووي، لم تحدث أي حرب أو مواجهة شاملة بين القوتين النوويتين، باستثناء اشتباكات متقطعة جرى تطويقها بصورة عاجلة، مثل ما حدث في المواجهة الجوية التي اندلعت في فبراير 2019 حيث جرى سريعاً العمل على خفض التوتر الميداني. ولكن منذ عام 1947 - العام الذي استقلت فيه الهند وباكستان - لا تزال القضايا العالقة قابعة في مكانها، ولا يزال افتراض وقوع الحرب منطقياً، مما يكرس فكرة الاحتقان في المواقف، ويسرع من وتيرة التصنيع الحربي الذي يثير شكوكاً حول الغاية من مثل هكذا زيادة على صعيدي: الكم والنوع.
ويبقى التساؤل مفتوحاً فيما إذا كان دخول السلاح النووي إلى الشرق الأوسط، سيخفض التوترات ويدفع نحو إجراء تفاهمات جادة بين فرقاء الإقليم، وعلى رأسهم السعودية وإيران، أم أن مثل هكذا تحول سيؤدي إلى زيادة الجمود والتمسك بالمواقف بما قد يؤدي إلى الانزلاق نحو حافة الهاوية؟!
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: