هذه الورقة جزء من سلسلة: الإسلام السياسي تحت المجهر
مقدمة
بداية؛ هناك لبُسٌ وغموضٌ في فهم ودراسة مسار الإخوان المسلمين في الأردن، رغم الكم الكبير من الدراسات والمعالجات الأدبية أو الإعلامية. والتي ركزت في معظمها على السيرورة التاريخية للجماعة باعتبارها حركة سياسية اجتماعية، دون التوسع في قياس أثرها على بنية المجتمع ومفاهيمه والوقوف على تحولاتها في سياق متكامل من الأسباب والأبعاد التي طالت الحركة من حيث وظائفها وخطابها وبرامجها.
وبهذا الصدد مَثل "الدين" محتوى عمل جماعة الإخوان ونطاق تأثيرها الأساسي في أربعينات وخمسينات القرن الماضي. لكن الجماعة تحولت بعد ذلك وبشكل تدريجي في المحتوى وطبيعة خطابها وتطورت في مسارها ومواقفها ونطاق عملها تطوراً هجيناً ملتبساً ومعقداً، صعُب تفسيره حتى على الدارسين لأدبيات الجماعة في الأردن.
إن الجماعة في الأردن تحوّلت ضمن مسارٍ متعرج من خطاب دعوي اجتماعي إلى خطاب سياسي، زاوجت خلاله الاعتبارات السياسية بوصفها حزب سياسي، والأبعاد الدينية والاجتماعية كمنظمة حاصلة على ترخيص لممارسة النشاط الخيري والدعوي، وقد انعكس ذلك على مضمون خطابها الذي تحول من إصلاحي تقليدي وعظي، إلى احتجاجي متشدد يمكن وصفه بـ"المفاصلة" مع المجتمع والدولة، وقد أثر ذلك على فهمها الديني والسياسي، المتناقض تارة مع مفاهيم السلفية والوسطية والصوفية والجهادية، والمُقتبس لها تارة أخرى.
وهذا ما سنحاول تناوله وإلقاء المزيد من الضوء عليه في هذه الدراسة في أجزائها الأربعة؛ خاصة الجزء الأول، الذي تم تخصيصه ليكون الأساس المنهجي تمهيداً لمعالجة بقية الأجزاء بمقاربة كلانّية (holistic approach) حيث سيُدرس موضوع الإخوان المسلمون في الأردن ضمن السياقات التاريخية من النشأة حتى عودة الحياة الديمقراطية 1989، من خلال عدد من المحاور الفرعية ستتناول المحطات الرئيسة في نشاط الإخوان في الأردن ضمن قالب تاريخي متسلسل من فترة التأسيس في الأربعينيات من القرن العشرين إلى نشاطهم في فترة الخمسينيات، ثم الستينيات والسبعينيات، وصولاً إلى فترة الثمانينيات التي اتسمت بالتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الأردن عام 1989م وشهدت أوج نشاط وتأثير جماعة الإخوان المسلمين.
العمل الخيري كمدخل للسياسي
بدأ نشاط ما يطلق عليه "الإسلام السياسي" في الأردن متزامناً مع إنشاء جماعة الإخوان المسلمين بتاريخ 19 نوفمبر عام 1945، برعاية عبد اللطيف أبو قورة، كفرع للجماعة الأم في مصر الذي أنشأه حسن البنا عام 1928، حيث كان أبو قورة عضواً في الهيئة التأسيسية للجماعة في مصر. وقد صدر الترخيص للجماعة بالعمل عن مجلس الوزراء الأردني ونشرته صحيفة الجزيرة بتاريخ 8 فبراير عام 1946، بصفتها جمعية خيرية ودعوية. حيث جاء بالخبر ما نصه (قرَّر مجلس الوزراء العالي في جلسته المنعقدة في تاريخ 9 كانون الثاني السماح للوجيه إسماعيل بك البلبيسي وإخوانه السادة عبد اللطيف أبو قورة، إبراهيم جاموس، راشد دروزة، قاسم الأمعري، وغيرهم).
آنذاك؛ اتسمت علاقات الجماعة مع الملك عبدالله الأول بطابع من الودية، نظراً لحاجة الإمارة إلى نهضة العمل الخيري والدعوي، ويُذكر قوله "إن إمارة شرق الأردن بحاجة الى جهود الإخوان، وعرض على عابدين أن يعينه وزيرا في الحكومة الأردنية، وأن يُنعم عليه وعلى حسن البنا برتبة الباشوية. لكنهم اعتذروا عن القبول. حيث اعتذر حسن البنا بأن العمل غير الرسمي للدعوة الإسلامية أحوج الى جهود الإخوان"[1].
وقد انصب تركيز الجماعة في مطلع نشأتها على العمل الديني والدعوي، الخيري والاجتماعي، وهذا ما تشير عليه أهدافها المنشورة باعتبارها "أقرب الى الجمعية الخيرية أو الهيئة الإسلامية العامة المعنية بالدعوة الإسلامية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[2]".
وعليه؛ حصل الإخوان المسلمين على دعم من الدولة الأردنية، لتماثل نشاطها الخيري والإسلامي المعتدل مع نهج وسلوك الملك عبد الله الأول، علاوة على ثلاثة أسباب رئيسة تقف وراء قيام الأمير عبدالله برعاية تأسيس الجماعة:
أولاً: أن توجهات الجماعة المعلنة آنذاك من حيث تأسيس المدارس، والعمل الخيري العام، وغيرها من المبادئ، كانت تتوافق مع توجهات الأمير عبدالله.
ثانياً: خطاب الجماعة المؤيد للملك عبد الله الأول بن الحسين.
ثالثاً: رغم المنافسة السياسية الشديدة بين الأمير عبدالله والملك فاروق خلال تلك الفترة، إلا أن الأمير عبدالله أراد "الاستفادة من تجربة الإخوان وتحالفهم مع الملك فاروق في مصر ضد حزب الوفد الليبرالي"[3].
ولعل أهم حدث سياسي في منطقة الشرق الأوسط بعد نهاية الحرب العالمية الثانية كان قرار الأمم المتحدة بإعلان تقسيم فلسطين بتاريخ 29 نوفمبر 1947، وإعلان تأسيس دولة إسرائيل بتاريخ 14 مايو 1948، الأمر الذي تسبب باندلاع الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948. إضافة الى حملة العنف الممنهج الذي مارسته الجماعات الصهيونية مثل شتيرن الهاجاناة ضد العرب والبريطانيين في فلسطين.
وقد انعكست الحرب على تغيرات جلية في الإخوان المسلمين، طالت صفوف قياداتها (التي كان معظمهم من التجار)، وأيضاً دورها وبنيتها التنظيمية والتي أصبحت جلية خلال الخمسينات من القرن الماضي[4].
ورغم أن الأدبيات المتوفرة عن تجربة الإخوان المسلمين في الأردن خلال حرب 1948 تكاد تكون نادرة ومبعثرة في مجموعة من المقابلات الشخصية والمذكرات والمدونات ولا تخلو من المبالغة. إلا أن مشاركتهم في العمليات العسكرية كانت مقتصرة على قوة قوامها 100 متطوع، بالإضافة إلى جمع التبرعات والمساعدات.
والمؤكد لدى الكثير من الباحثين في موضوع مشاركة الإخوان المسلمين في حرب 1948 سواء ضد الجماعات الصهيونية أو الجيش الإسرائيلي، لم تكن ذات وزن عسكري مؤثر وفعال، ولم تغير في موازين القوى. بالرغم من المبالغات والدعاية الاعلامية خاصة لدى تنظيم إخوان مصر بهدف توسيع حملات التجنيد وكسب الجماهير الشعبية لتنفيذ مخططاتهم المستقبلية.
التوطئة نحو التحول السياسي
في منتصف الخمسينات بدأت إرهاصات تحول الجماعة نحو العمل السياسي، فقد شهد العام 1954، تأسيس جريدة الكفاح الإسلامي، وفي العام 1955 شارك أعضاء الإخوان المسلمين في المظاهرات الرافضة لانضمام الأردن إلى حلف بغداد، وفي العام 1956 نجح 4 نواب عن الجماعة، ومنحوا الثقة آنذاك لحكومة سليمان النابلسي[5].
لقد شكل نشاط الإخوان المسلمين في الخمسينات، نقيضاً للدور الذي أُسست على إثره الجماعة، وحصلت عليه تأييداً من الملك عبد الله الأول، باعتبارها حركة تنشط في المجالات الخيرية و الدعوية والإرشادية، ويُعد تحولاً في وظائف الجماعة وخطابها، فعندما طالب أحد مرشحي الانتخابات البرلمانية عام 1950، الدعم من جماعة الإخوان المسلمين، ردت قيادة الإخوان قائلة أن: "الإخوان المسلمين جمعية دينية تهدف الى تهذيب الأخلاق وتقوية الروابط الأخوية بين المسلمين ولا علاقة لها بالسياسة والمنظمات... وإن حديث المرشح عار عن الصحة لا بل دعت أعضاءها والمؤيدين لها انتخاب الرجل الصالح..."[6].
لكن؛ كان للتغيرات الكبيرة التي طالت قيادات الجماعة عاملاً من عوامل التوجه نحو العمل السياسي والحزبي، فقد حل عبد الرحمن خليفة، رئيساً للجماعة خلفاً لمؤسس الجماعة عبد اللطيف أبو قورة في أواخر العام 1953، واستحدث منصب "المراقب العام"، وفي العام ذاته أقرت الجماعة نظامها الأساسي وبشكل مشابه لذلك المعتمد عند الجماعة الأم في مصر، ويذكر أنه حتى في ظل هذه التغيرات استمرت الدولة في النظر إلى الجماعة بوصفها جمعية خيرية وليست حزباً سياسياً، وبناء على ذلك حصلت على موافقة مجلس الوزراء الأردني في رئاسة توفيق أبو هدى على نظامها الأساسي، ومُكنت من الانتشار والتوسع في الدعوى بما يشمل الأماكن العامة والمساجد وغيرها.
إضافة إلى ذلك، كان نشاط الحركة في فترة الخمسينات وحتى سبعينات القرن الماضي، مقروناً على الدوام بحافز التنافس مع التيارات السياسية المنافسة لهم أيديولوجياً، وبشكل أكثر تحديداً من القوميين واليساريين، المدعومين وفقاً للأدبيات من الأنظمة العربية في مصر وسوريا، أو من المتعاطفين مع خطابات الرئيس المصري جمال عبد الناصر والأنظمة البعثية في كل من سوريا والعراق.
وضمن هذه البيئة السياسية التنافسية، وتداخل المحلي والإقليمي، وجد الإخوان المسلمين في الأوساط السياسية الأردنية بيئة حاضنة لهم، وبدت علاقة الدولة والإخوان مستقرة بدوافع وحدة الموقف ضد الأحزاب البعثية والقومية التي تخالف الإخوان بالأيديولوجية، وتضمر موقفاً سلبياً تجاه الدولة الأردنية ونظامها السياسي[7]، وهذا ما أكده مضر بدران – رئيس وزراء الأردن السابق عندما قال: "الأوضاع السياسية والأمنية الصعبة، كانت إلى حدًّ كبير نتاج طبيعة التفاعلات السياسية بين دول الإقليم، وألقت بظلالها على الأردن فكنّا مستهدفين من دولة الوحدة بين مصر وسورية، وعلاقتنا مع المصريين ليست على ما يرام، والعلاقة مع سوريا ما صنع الحداد"[8].
ومن جهة أخرى وجد الإخوان المسلمين أنفسهم في سياق من المصالحة مع الدولة الأردنية في وقت كانت فيه الجماعة الأم المصرية في حالة من التصادم مع جمال عبد الناصر، وقد انعكست علاقات الإخوان مع الدولة الأردنية آنذاك على توجهاتهم وقراراتهم ومواقفهم، وأسست للطابع البراجماتي الذي استمرت عليه حتى يومنا الحالي، ومثال على ذلك، اتخاذها موقف الضد من حكومة النابلسي بعد عام واحد فقط من منح نواب الجماعة الثقة للحكومة المؤلفة من تيارات شيوعية وقومية.
ونلاحظ أن مصلحة الإخوان تقاطعت مع مصالح الدولة باستهداف المعارضة اليسارية والقومية التي كانت متغلغلة في الحياة السياسية والمؤسسة العسكرية والتصدي لمساعيها الرامية لتحويل الأردن إلى الكتلة الشرقية وتعزيز العلاقات مع الاتحاد السوفيتي على حساب الولايات المتحدة الأمريكية.
بمعنى أن الطرفين: الدولة بمؤسساتها، والإخوان كان لهما في تلك الفترة مصالح مشتركة للعمل معاً وأن الدولة كافأت الإخوان بأن سهلت لهم الحركة والتنظيم على حساب بقية المكونات السياسية الأخرى.
إذن؛ كان الشق الدعوي والعمل الخيري في فترة الأربعينات وحتى نهاية الخمسينات إبان تأسيس جماعة الإخوان، يحمل في طياته بذور التحول إلى العمل التنظيمي السياسي الذي أصبح أكثر وضوحاً مع بداية فترة الستينات. إذ لم تمض الجماعة في العمل الخيري والدعوي الصرف سوى لعقد من الزمان قبل أن تبدأ النظر في المصالح والمنافع السياسية وما رافق ذلك من تحولات في المنهج والخطاب.
وفي هذا السياق يُمكن ملاحظة قِلة الوثائق والنشرات والدراسات أو المراجعات الصادرة من داخل الجماعة لتبيان أسباب هذا التحول الجذري، أو لوقوف على أسبابه الموضوعية ومبرراته، مع ذلك كان للتغيرات الإقليمية والدولية منذ ستينات القرن الماضي، أن عمقت من تجربة الجماعة في العمل السياسي، وفتحت الباب على مصراعيه لنشاطها وتصاعد ثقلها في المجتمع الأردني.
فقد ساهمت الأجواء المشحونة بالتنافس السياسي بين الدول العربية، والمرتبطة بتحولات اجتماعية نظراً للتغيرات الاقتصادية والسياسية الناتجة عن نتائج الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، وكذلك الوحدة بين الضفتين، ورواج الخطابات اليسارية والقومية، بالإضافة إلى تحولات أوسع في سياق النظام العالمي، والذي ترافق بتراجع الهيمنة البريطانية، وصعود الولايات المتحدة، وظهور الكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفييتي.
ثم؛ جاءت حرب 1967؛ والتي رافقها تحولٌ في المفاهيم العربية من القومية التي نادى بها جمال عبد الناصر وتراجع سطوة القوى اليسارية والقومية في مقابل بروز الصحوة الإسلامية، وشكلت تلك بداية الإرهاصات للمد الإسلامي في العالم العربي، التي كانت إحدى معالمه صدور كتاب سيد قطب "معالم في الطريق" الذي يعتبر الدليل الأول للحركة الإسلامية الراهنة.
وقد كان من تداعيات حرب العام 1967، أن فرضت واقعاً جيوسياسي ديمغرافي جديد على الدول العربية في كل من مصر وسوريا والأردن، وهذه الأخيرة كانت الأكثر تأثيراً بنتائج الحرب، فقد شهدت موجات من اللجوء الفلسطيني من الضفة الغربية إلى شرقي الأردن، وبأعداد تقدر بمئات الآلاف، مما أدى إلى عكس التوازن الديموغرافي بين ضفتي نهر الأردن.
هذه الظروف الموضوعية ساهمت في تهيئة البيئة الخصبة لنشاط جماعات "الإسلام السياسي" ومنها جماعة الإخوان المسلمين في الأردن. وفي نفس الوقت دخل الكثير من الشباب المتعلمين الى الجماعة، وزادت علاقاتها مع الجماعة الأم في مصر.
"المد الإسلامي" في الأردن والعالم العربي
يرى الباحث في الجماعات الإسلامية، محمد أبو رمان أن عقد السبعينات هو "مرحلة الجذور" الاجتماعية والثقافية لصعود التيارات الإسلامية عربياً، والعقد الذي شهد التأسيس الحقيقي للوجود الاجتماعي للإخوان في الأردن لعدد من الأسباب، كان أهمها أن الجماعة لم تتأثر كثيرا بالأحكام العرفية وحالة الطوارئ التي كانت مفروضة على الأحزاب والتنظيمات اليسارية والقومية منذ عام 1967[9].
ومرد ذلك، أن الجماعة دعمت الدولة سياسياً في أحداث أيلول عام 1970، إبان مواجهة التنظيمات الفلسطينية اليسارية، التي كان على أثرها تراجع النفوذ الإجتماعي والثقافي والثقل السياسي للتيارات اليسارية والقومية على الساحة الأردنية، ومنحت الإخوان المسلمين مزيداً من المساحة والمرونة للنشاط وبشكل خاص في المدن الرئيسية (عمان، الزرقاء واربد).
وقد ترافق ذلك، مع انخراط الأعداد المتزايدة من الأردنيين المغتربين في دول الخليج وبشكل خاص السعودية والكويت حيث كان ينشط هناك الإخوان المسلمين الهاربين من ملاحقتهم في مصر وسوريا والعراق، وهناك تأثر الأردنيين إيديولوجيا بأفكار الإخوان والجماعات السلفية الأخرى[10].
ومن جهة أخرى؛ لا يمكن إغفال تأثير "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979، التي ألهمت كافة حركات الإسلام السياسي، سواء المعتدل منها والوسطية أو حتى الإرهابية والمتطرفة. ومن هنا بدأت مرحلة "المد الإسلامي" وانفلاته في الأردن بشكلٍ عام، والذي يمكن ملاحظته في صعود جماعة الإخوان المسلمين التدريجي للمشهد السياسي، وتعزز وجودهم في المجتمع الأردني.
وفي غضون ذلك، تحولت الجماعة من رقم ثانوي في معادلة السياسية الاردنية إلى الحزب الأقوى والأكثر ثراءً وتأثيرا بين المنظمات والجماعات السياسية في الأردن، وتزايدت مشاركتهم في مؤسساتها المختلفة، فأصبح لهم نفوذ كبير في الجهاز التعليمي وفي وزارة الأوقاف، وكانت آثارها جلية في الكتب والمناهج التعليمية التي شكلت بالنسبة للإخوان آنذاك رافداً فكرياً وثقافياً لهم لنشر منهجهم.
وبهذا الصدد، ألقت التغيرات السابقة تحولات مماثلة في فكر ومنهج الجماعة، والتي يمكن تحديدها؛ بالبراغماتية وفقاً للعلاقة بين الجماعة والدولة، والشمولية من خلال التغلغل في النسيج الاجتماعي التي كانت المناهج التعليمية إحدى بواباتها إلى جانب العمل الخيري، والازدواجية لتحقيق المرونة بين العمل الخيري والسياسي.
وبتاريخ 28 أغسطس 1978 اتحد تنظيم الإخوان في الأردن وفلسطين وغزة، تحت اسم "تنظيم بلاد الشام" حيث تم دمج الإخوان في فلسطين وغزة ودول الخليج الكويت والسعودية وقطر والإمارات بالجماعة في الاردن، وأقر قانون أساسي جديد للجماعة وجرت انتخابات تنظيمية جديدة فاز بها محمد عبدالرحمن خليفة، وثلاثة من المقيمين في الخليج. ولقد بقي هذا التنظيم قائماً حتى ظهور حركة حماس في ديسمبر عام 1987، التي سرعان ما تحولت إلى تنظيم عضوي مستقل منذ مطلع عام 2001. وانتهى تنظيم بلاد الشام عملياً بالانقسام عام 2008 حين انفصلت حماس عن تنظيم الإخوان في الأردن وأصبحت تنظيم قطري يتبع مكتب الإرشاد مباشرة وليس قيادة التنظيم في الأردن[11].
إرهاصات الانحسار والتفكك
تعزز حضور الإخوان وتأثيرهم في المجتمع الأردني نتيجة لجملة الظروف والأسباب التي ذكرناها سابقاً، حيث انعكس ترابط وتشابك الأحداث التي شهدها الأردن خلال الفترات السابقة كنتيجة منطقية في زيادة الوعي السياسي للمجتمع الأردني بشكلٍ عام.
وبناء على ذلك، شهدت فترة الثمانينات من القرن الماضي، تحولات بنيوية عميقة وواسعة في المجتمع الأردني، وتغيرت معها الرؤى والمطالب حتى في أوساط جماعة الإخوان المسلمين ذاتها، ونظراً لغياب مبادئ التعددية والرأي الآخر داخل الجماعة، فقد كانت تلك المطالب بمثابة البذور التي قادت لاحقاً نحو تصاعد الخلافات والانشقاقات داخلها، فمع أن المجتمع الأردني كان مجتمعاً تقليدياً بسيطاً محافظاً، إلا أن تسارع الأحداث والتغيرات الجيوسياسية في فترة الخمسينات التي مهدت الطريق للحرب الباردة قد انعكست على زيادة الوعي السياسي لكافة شرائح المجتمع الأردني وجعلته يبحث عن أمل ومخرج لحالة الهزيمة في حربي 1948 ثم 1967.
ومع فشل المد اليساري والقومي بالتعبير عن مشاعر وتطلعات المجتمع، وبروز الصعوبات والتحديات الاقتصادية، زعمت الجماعة أن الدين والجماعات الدينية الاسلاموية هي المخرج والحل، بيد أنها فشلت في تأطير هذه الشعارات ببرامج واضحة وواقعية، ما أفضى إلى تصاعد الجدل الفكري والتنظيمي داخلها لينقسم في اتجاهين:
الاتجاه الأول: كان يمثله اسحق الفرحان، يوسف العظم، وأحمد الأزايدة؛ ويدعو إلى الحوار مع الدولة والانخراط في المشاركة السياسية والتعاطي مع الدولة والأطراف السياسية الأخرى.
أما الاتجاه الثاني: والأكثر تشدداً في كان يمثله همام سعيد، ومحمد أبو فارس؛ الذي كان يرفض المشاركة السياسية والعمل العام لأنه "يساهم في ترقيع كيانات الجاهلية". وقد كان هذا الاتجاه هو المسيطر على التنظيم، واحكم سيطرته بشكل كامل عام 1986 فخرج الكثير من المعتدلين، وتوترت الأجواء داخل التنظيم. وسوف نلاحظ لاحقا بأن تلك الخلافات تطورت مع بداية التسعينيات نحو ما بات يعرف في أدبيات الجماعة وفي الصحافة والإعلام باسم الصقور والحمائم[12].
وكنتيجة لذلك، شهدت الفترة بين عامي 1984-1989، تراجعاً ملحوظاً في علاقة الإخوان بالدولة. وسطر العام 1989 وما بعده؛ علامة فارقة في تاريخ الحياة السياسية في الأردن، وفي تاريخ الإخوان المسلمين أنفسهم، فقد عادت الحياة النيابية وتم إقرار قانون الأحزاب السياسية و ألغيت الأحكام العرفية، وتبع ذلك إجراء انتخابات برلمانية في 10 ديسمبر، نتج عنها حصول جماعة الإخوان المسلمين على 22 ممثلاً، كان أبرزهم القيادي الإخواني عبداللطيف عربيات الذي أصبح رئيسا لمجلس النواب.
كما شاركوا في صياغة الميثاق الوطني وتحالفوا مع حكومة مضر بدران؛ الذي قام بتعديل حكومي أشرك فيه 5 من نواب من جماعة الإخوان المسلمين في حكومته يناير 1991[13]، بهدف احتواء التوتر والحماس الشعبي الذي أخذ شكلا شعبياً مفعما بالقومية والحماس الديني والدعوة الى الجهاد أثر حرب الخليج والذي ساهم فيه جماعة الإخوان المسلمين بخطاباتهم الشعبوية [14].
خاتمة
لاحظنا في الجزء الأول التأسيسي من الدراسة أن الإخوان المسلمين في الأردن هم أهم أطراف ما يسمى بالإسلام السياسي المعاصر، أو ما يطلق عليه الآن عصر ما بعد الإسلاموية. وأنهم مروا خلال مسيرتهم قيد الدراسة (1946-1989م) بعددٍ من المحطات التاريخية الملتوية التي تبدل وتغيير فيها سلوكهم السياسي؛ من جماعة تحظى برعاية ودعم الدولة والنظام السياسي بوصفها تنشط في المجال الدعوي والخيري الاجتماعي العام، وتجنب المشاركة في العمل السياسي المباشر، الى تنظيم سياسي براغماتي يسعى إلى السلطة.
وكذلك أظهرت الورقة أن حضور الإخوان وتأثيرهم في المجتمع الأردني تعزز نتيجة لاعتمادهم الخطاب الديني، ولجملة من الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عصفت بمنطقة الشرق الأوسط عقب الحرب العالمية الثانية، وأيضاً لانخراط الأردن المبكر في سيرورة العولمة وانكشافه على التأثيرات والأزمات الخارجية.
كما أوضحنا أن العام 1989 شكل علامة فارقة في تاريخ الحياة السياسية في الأردن، وفي تاريخ الإخوان المسلمين، لكونه العام الذي شهد نهاية الكتلة الشرقية، وتسارع العولمة، وعودة الحياة الديمقراطية إلى الأردن والبداية الفعلية لصعود جماعة الإخوان المسلمين الذين اعتمدوا بعدها خطاباً شعبوياً لتزيف الوعي الشعبي والتلاعب بعواطف الجماهير خدمة لمصالحهم السياسية الضيقة أو لمصالح التنظيم الدولي، والذي سنتحدث عنه في الأجزاء القادمة.
[1] - شحادة، مروان، دراسة وصفية تحليلية "الإخوان المسلمون في الأردن.. من الجمعية الخيرية الى الجبهة السياسية!"، منشورة في موقع الحقيقة الدولية، تاريخ النشر: 10 أكتوبر، 2007، الرابط: http://factjo.com/fullnews.aspx?id=1756
[2] - غرايبة ، إبراهيم، "من الدعوة الى السياسة ،الإخوان المسلمون في الأردن : تاريخهم وأفكارهم"، مركز الدراسات الاستراتيجية، الجامعة الأردنية، دار سيرين للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، عمان، الأردن، 2017، ص 126
[3] - البطاينة، محمد، "الجماعة الحائرة: قراءة تحليلية في التاريخ السياسي لجماعة الإخوان المسلمين بالأردن (1945-2015)"، دار الكتب الحديث، إربد، الأردن، 2016، ص 7.
[4] أبو رمان، محمد وبندقجي، نيفين، "من الخلافة الإسلامية إلى الدولة المدنية: الإسلاميون الشباب في الأردن وتحولات الربيع العربي"، مؤسسة فريدريش إيبرت، 2018، ص51.
[5] أبو رمان، محمد وبندقجي، نيفين، مرجع سبق ذكره، ص 24.
[6] - مرجع سابق، ص 135
[7] أبو رمان، محمد وأبو هنية، حسن، "الحل الإسلامي في الأردن: الإسلاميون والدولة ورهانات الديمقراطية والأمن"، مؤسسة فريدريش إيبرت ومركز الدراسات الاستراتيجية، 2012، ص32.
[8] بدران، مضر، "القرار"، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، دار الفارس للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الأولى، 2020، ص75.و 97.
[9] - أبو رمان، محمد وبندقجي، نيفين، مرجع سبق ذكره، ص 25.
[10]- المرجع السابق نفسه، ص 27-28
[11]- حميد، شادي، "أكثر من مجرد جماعة الإخوان المسلمين: مشكلة حماس والحركة الإسلامية في الأردن". معهد بروكنغز، 2017، على الرابط:
[12] - غرايبة، إبراهيم، 2017، مرجع سبق ذكره، ص 180-182،192.
[13] - المرجع السابق نفسه، ص 260.
[14] - بدران، مضر، مرجع سبق ذكره، ص 292-293.
*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: