عند الحديث عن منطقة القرن الأفريقي، فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو النزاعات الحدودية المستمرة منذ عقود بين بلدانه، فالحدود التي تم ترسيمها في حقبة الاستعمار البريطاني، لا تزال بمثابة فتيل للأزمات حيث تختلف الدول هناك حول كيفية ترسيمها والأحقية القانونية والطريقة التي يجب من خلالها تفسير المعاهدات القديمة.
وقد يُنظر إلى الاشتباكات الحدودية الأخيرة - التي اندلعت في يناير 2021 - بين السودان وإثيوبيا على أنها أحدث سلسلة من التوترات المتواصلة والمستمرة منذ عقود، باعتبارها حدثاً عرضياً لا يمكن أن يرقى إلى مستوى صراع أوسع، تطبيقاً للقول السائد: "إن النزاعات الحدودية غالباً لا تؤدي إلى الحروب".
إلا أن مجموعة من المتغيرات الجديدة تدفعنا إلى الاعتقاد بأن هناك إمكانية كبيرة للتصعيد في الأزمة الحالية، فقد تتحول بسرعة إلى صراع إقليمي أوسع. ويتطلب تحليل التوترات الأخيرة مجموعة واسعة من الأدوات، أولها فهم الديناميكيات التي يتأثر من خلالها النزاع الحدودي بالاقتتال الداخلي في إثيوبيا. وثانيها التوسع في دراسة الأطراف والفاعلين ذوي الصلة بالقضية؛ وهم: إريتريا، وجبهة تحرير تيغراي، وجماعة الأمهرا، إلى جانب طرفي النزاع السودان وإثيوبيا. وثالثاً تشريح طبيعة النزاع باعتباره نزاعاً قائماً على الموارد الطبيعية وهي الأرض والمياه؛ وهنا يمكن دراسة تأثيرات سد النهضة على الاشتباكات الأخيرة، ومن شأن ربط العوامل السابقة ودمجها أن يُعطي تحليلاً ديناميكياً يسلط الضوء على مدى خطورة وتعقيد الموقف.
في البداية، يعود ترسيم الحدود السودانية الإثيوبية التي تمتد أكثر من 1600 كم إلى اتفاقية أديس أبابا الموقعة في العام 1902، حينما كان السودان لا يزال مستعمرة بريطانية، وبعد استقلاله طالب بـ 250 كم مربع من الأراضي التي سيطر عليها المزارعون الإثيوبيون.
وفي العام 1996، احتل الإثيوبيون منطقة الفشقة، وهي منطقة تقع في ولاية القضارف السودانية، وتلتقي في الشمال بولاية الأمهرا الإثيوبية، وتمتد على مساحة 600 كم مربع من الأراضي الزراعية الخصبة، لكن شهد العام 2008 تسوية اعترفت بموجبها إثيوبيا بالحدود القانونية للسودان، وسمح الأخير للمزارعين الإثيوبيين بالعيش في تلك المناطق ضمن حالة من "الحدود الناعمة".
لكن بالرغم من تسوية الخلاف، برزت قضية أخرى أكثر تعقيداً؛ حيث أعادت التحولات الدراماتيكية للأحداث في الداخل السوداني والإثيوبي النزاعَ إلى "نقطة الصفر"، فلقد أنهى صعود رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد علي، سيطرة جبهة تحرير تيغراي (وهي الطرف الأول من تسوية عام 2008) على السلطة منذ عقود، في حين شهد السودان انتفاضة شعبية أطاحت بالرئيس الأسبق، عمر البشير (وهو الطرف الآخر من تسوية عام 2008).
وقد خلقت هذه التغيرات فرصاً جديدة لتجدد النزاع، فمؤخراً تبدو الحكومة السودانية أقل تسامحاً مع فكرة "الحدود المرنة" وتطالب بحدود صلبة تمنع الإثيوبيين من الزراعة والتواجد داخل أراضيها. وفي غضون ذلك، تراجعت حكومة آبي عن التفاهمات السابقة بشكل يتماشى ومصالح كبار مزارعي القطن والسمسم المنتمين لجماعة الأمهرا، التي تعتبر الزراعة عنصراً أساسياً وتقليدياً في بنيتها الاجتماعية.
لكن الاشتباكات الأخيرة على الحدود تزامنت مع الاقتتال الداخلي بين القوات الإثيوبية والجماعات المتحالفة معها، وبين جبهة تحرير تيغراي، واتهم السودان في مطلع ديسمبر جماعات مسلحة إثيوبية بنصب كمين للقوات السودانية على طول الحدود، وقد وجَّه وزير الإعلام السوداني، فيصل محمد صالح، في حديث لرويترز أصابع الاتهام إلى قوات إقليم الأمهرا العسكرية؛ بعد أن وسَّعت جبهة تحرير تيغراي والقوات الإثيوبية قتالهما ليشمل مناطق حدودية متنازع عليها.
وللوهلة الأولى؛ قد تبدو هذه الحروب منفصلة، لكن من الواضح أن حروب الداخل تتقاطع وحروب الخارج في منطقة القرن الأفريقي، وإن تعقيدات أزمة تيغراي وتفاعلاتها الديناميكية مع الجغرافيا السياسية ستحدد بشكل أو بآخر مصير المناطق المتنازع عليها.
بالرغم من إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، الاستيلاءَ على ميكيلي عاصمة إقليم تيغراي، إلا أن الأزمة لا يبدو أنها انتهت؛ فلا يزال قادة الجبهة طلقاء، وهناك أكثر من 20 ألف عنصر من القوات، بالإضافة إلى قوات احتياط من ميليشيات مدربة، ومزارعين مسلحين يبلغ مجموعهم 250 ألف، وقد وصفت جبهة تحرير تيغراي انسحابها من عاصمة الإقليم دون قتال بأنه انسحاب تكتيكي، وهو ما يؤشر إلى اعتمادها على وسائل حرب العصابات التي لها باعٌ طويل فيها.
وفي خضّمها كانت إحدى استراتيجيات البقاء لجبهة تحرير تيغراي تتضمن التوسع في إريتريا، مستغلة الروابط الثقافية والاجتماعية لها هناك، وعودة هذه الاستراتيجية يعني أن الصراع سيأخذ طابعاً إقليمياً، لكن ذلك قد يكون في وقت تواجه فيه الجبهة اليوم تحالفاً ثلاثياً من الحكومة الإثيوبية وقوات الأمهرا العسكرية وإريتريا، وهذه الأخيرة تتشارك مع آبي العداء تجاه الجبهة منذ أن وقّع الطرفان في عام 2018 اتفاقاً للسلام أنهى عقوداً من الصراع؛ لذلك فإن قدرة الجبهة على تمديد أمد الصراع مرهون بالموقف السوداني منه.
وعلى اعتبار أن الحدود الدولية الوحيدة المتاحة أمام جبهة تحرير تيغراي هي الحدود مع السودان - باستثناء حدودها الشمالية مع إريتيريا المعادية لها - وبالرغم من سيطرة إثيوبيا على الشطر المكافئ من الحدود، فلا يزال ضبطها شبه مستحيل. وحتى اليوم، يتدفق اللاجئون إلى السودان حيث بلغت أعدادهم أكثر من 60 ألف لاجئ إثيوبي بحسب مفوضية شؤون اللاجئين لعام 2020. وقد لمحت أديس أبابا إلى حاجتها للسودان في ضبط الحدود والحيلولة دون هروب عناصر الجبهة.
لكن السودان لا يتشارك العداء تجاه جبهة تحرير تيغراي مع الأطراف الثلاثة سابقة الذكر، فقد كانت الجبهة شريكاً في التسوية الحدودية عام 2008، ومن جهة أخرى يعلم السودان أن مكاسب جماعة الأمهرا ضد الجبهة تُعد قيمة مضافة لهم لتأكيد مطالبهم بالسيطرة على المناطق المتنازع عليها. وهنا قد يُطرح التساؤل التالي: في حال رفض السودان إتاحة الدعم اللوجستي للجبهة؛ هل ستعترف إثيوبيا بسيادته على الفشقة بشكل رسمي؟
ليس من السهل قبول آبي لهذا الخيار، فلا يمكنه تجاهل مصالح الأمهرا في منطقة الفشقة، فهؤلاء يمثلون ثاني أكبر المجموعات العرقية في إثيوبيا، ويُعتبر دعمهم له ضرورياً لضمان استمراره في الحكم، فضلاً عن دعمهم له في القتال ضد جبهة تحرير تيغراي.
وعليه، تشير حيثيات الصراع الحالي إلى أن السودان قد لا يبقى حيادياً، فمنذ اليوم الأول وجّه الاتهام إلى القوات الإثيوبية بدعم مقاتلي جماعة الأمهرا على حدوده، وفي حين تسعى الأخيرة إلى الحفاظ على مكتسباتها الزراعية والاقتصادية، فإن مصلحة آبي تكمن في تشكيل عمق جغرافي يحول دون قدرة جبهة تحرير تيغراي على التمركز في الأراضي السودانية. ومن جهته، لا يمكن للسودان التنازل عن أراضيه، وبخلاف ذلك، قد تفهم الحركات المسلحة العديدة هذا الموقف باعتباره رسالة ضعف وتخلي من الحكومة.
وهذه الديناميكيات قد تحد من التقارب بين إثيوبيا والسودان، ويمكن بسهولة للدولتين العودة إلى المقاربات القديمة كما كانت عليه العلاقة في الثمانينيات، عندما دعمت إثيوبيا الحركات المسلحة السودانية، في المقابل دعمت السودان الجماعات القومية ومن ضمنهم جبهة تحرير تيغراي.
خلاصة ما سبق، إن الكيفية التي تتفاعل بها أطراف الأزمة داخلياً وخارجياً، تُنذر بمزيد من التصعيد، خاصة أنها لم تُظهر ضبطاً للنفس أو تردداً في تصعيد الموقف، ومع فشل جولة المحادثات بين البلدين؛ يسود الاتهام والخطاب المتأزم، ولا يبدو أن السودان ينوي الانسحاب من المناطق التي سيطر عليها، في وقت تحذر فيه إثيوبيا من نفاذ صبرها.
ويجدر هنا التطرق إلى جانب آخر من جوانب النزاع، فإذا ما نظرنا إلى طبيعة النزاعات الحدودية قيد الدراسة، سنجدها تتمحور - في الجزء الأكبر منها - حول المناطق الطبيعية، فهي بالمختصر صراع على الأرض والثروات. وهذا المنظور يُبرز خلافاً أكبر وأكثر تعقيداً بين البلدين. فلقد تزامنت الاشتباكات مع الأنباء عن فشل المفاوضات حول سد النهضة، وهو الملف الذي يفاقم التوترات بين الدولتين، ويهدد إمدادات مصر والسودان من المياه.
وهناك شواهد عدة تؤكد على الربط بين القضيتين؛ منها المقابلة مع قناة العربية في تاريخ 25 يناير 2021، التي ربط خلالها وزير الدفاع السوداني، ياسين إبراهيم، الخلافَ الحدودي مع إثيوبيا بمفاوضات سد النهضة، في حين أن السفير الإثيوبي لدى الإمارات العربية المتحدة، سليمان ديديفو، يعتقد بأن السودان تشن حرباً بالوكالة بدعم من مصر.
في الواقع لقد أكد بيان للحكومة المصرية على دعم القاهرة لسيادة السودان على أراضيه، وهناك أرضية قانونية وشرعية يمكن من خلالها لمصر التدخل في التوترات الحدودية، إذ تربط الدولتين معاهدة دفاع مشتركة تحت مظلة جامعة الدول العربية.
إن فهم موقف مصر هام جداً لمعرفة التداعيات الاستراتيجية للنزاع، في وقت تلوح فيه الفرصة أمامها للحصول على تنازلات من إثيوبيا في مفاوضات سد النهضة، ففي حال تدخلت القاهرة، فإن التوترات على الحدود قد تتحول إلى صراع طويل الأمد، وقد يُفاقم ذلك من انعدام الأمن في المناطق المتاخمة للحدود، ومنها إقليم بني شنقول الحاضن لسد النهضة، الذي يشهد في الأساس سلسلة من الصراعات بين الجماعات المسلحة.
وعليه، يمكن للقاهرة أن تُعقد حسابات آبي وأن تعيق قدرته على التعافي من تبعات الاقتتال مع جبهة تحرير تيغراي، وسينعكس ذلك على مساعيه الرامية إلى ضبط الحدود وتضييق الخناق على الجبهة، ناهيك عن تبعات ذلك عليه في زيادة كلف الأمن والإنشاءات الخاصة بسد النهضة.
قد يكون من السابق لأوانه الجزم بأن حرباً إقليمية قيد التطور، فحتى اللحظة لا تُعد الحرب خياراً مناسباً للدولتين، فهناك مصالح حيوية مشتركة، وبرامج تنموية واقتصادية قيد الإنجاز، ومستقبل سياسي على المحك، فضلاً عن إدارة أمريكية جديدة هي أقل تجاوباً مع الصراعات وأكثر ميلاً للدبلوماسية.
لكن من شأن دمج الأحداث والقضايا السابقة أن يحمل مخاطر كبيرة على منطقة القرن الأفريقي، حيث تواجه إثيوبيا اقتتالاً داخلياً وانعداماً للأمن، وخياراتها السلمية للتعامل مع أزماتها محدودة وغير مقنعة لآبي على ما يبدو، وقد يضطر السودان للجوء إلى الحرب أو الحرب بالوكالة ودعم جبهة تحرير تيغراي لضمان إظهار القوة الصلبة من أجل ردع الجماعات المتمردة داخلياً ومواجهة جماعات الأمهرا على الحدود، وهذا الواقع سيدفع كل من مصر وإريتريا للدفاع عن مصالحهما في المنطقة ودعم الجهات المتعاونة معهما، ومن جهة أخرى؛ ستسعى القاهرة إلى زيادة كلف سد النهضة والحصول على تنازلات، ومن جهة ثالثة ستواصل إريتريا دعمها لآبي في مواجهة العدو المشترك وهو جبهة تحرير تيغراي.
ولا تُظهر أي من الأطراف تردداً في ضمان أمنها وتثبيت مطالبها، وللتذكير فإن النزاعات الحدودية في القرن الأفريقي لم تكن بسيطة على الدوام، حيث خاضت إثيوبيا حربين لهما صلة بالمناطق المتنازع عليها مع الصومال في العام 1977، ومع إريتريا في العام 1998.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.