تكثر في هذه الآونة التصريحات السياسية حول إدماج سوريا في البيئتين الإقليمية والدولية، كان آخرها ما كشفته صحف غربية في تقارير لم تنفَ صحتها لغاية الآن عن اجتماع وفد سعودي رفيع المستوى في دمشق مع مسؤوليين سوريين كبار من بينهم الرئيس السوري، بشار الأسد، لبحث عدة ملفات من بينها عودة العلاقات الدبلوماسية الثنائية، وعضوية سوريا في الجامعة العربية.
وفي خضم جولة خليجية لوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في مارس 2021 أكد وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، على ضرورة عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وهو ما يتوافق مع ما صرّح به أيضاً وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، أثناء لقائه بـ لافروف. كما عبّر وزراء خارجية أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا - في بيانٍ مشترك - عن التزامهم بضرورة التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية.
حيث ترغب هذه الأطراف بتخفيض الضغوط التي تفرضها هذه الأزمة على الأمن والسلم الإقليمي والدولي، فبعد عشر سنوات من الدمار؛ اقتنع الجميع أن الحل في سوريا سياسي بالدرجة الأولى وليس عسكرياً، ولربما لا تنبع هذه القناعة من تغير المواقف السياسية وإنما من تعذر حسم الموقف في سوريا عسكرياً، فقد أثبتت الدولة السورية قدرتها على التكيف في كل مراحل الصراع الذي لا يزال مُختَلَفاً على تصنيفه.
فثمّة من يعتبره حرباً بالوكالة سخّرت فيها جهات إقليمية جماعاتٍ محلية لتغيير الوضع القائم في سوريا لإعادة رسم سياساتها بما يتوافق مع مصالح هذه الجهات. وهناك من يعتبره "حرباً أهلية" بين الحكومة السورية وفئات من الشعب طالبت بإصلاحات جذرية في بنية النظام السياسي. وقد اكتسبت هذه الحرب - وفقاً لمن يعتبرها حرباً أهلية - مستوياتٍ أعقد من التصادم باشتمالها على أبعاد طائفية لم تكن في حقيقة الأمر بعيدة عن الواقع، حيث وُظّف العامل الطائفي لأغراض التجييش الإعلامي وحشد المتطرفين من حول العالم صوب سوريا.
وبغض النظر عن هذه التصنيفات، يرزح الشعب السوري تحت وطأة أزمة إنسانية تتطلب إعادة إعمار مُمنهجة ومدروسة وفق مسار يُعدّه خبراء في دراسات "ما بعد الحرب" فإعادة الإعمار نظرياً هي ليست عملية تشييد للبنيان وإنما إعادة تأهيل مجمل الظروف العامة في الدولة ليتسنى لها التعافي بحيث تكون قادرة على التعامل مع أزماتها المستقبلية المحلية والدولية بما يُمكّنها من الوفاء بواجباتها تجاه الشعب وإعادة سيادتها ومكانتها بعيداً عن التدخلات الصديقة والمعادية.
وقبل الحديث عن عودة العلاقات الدبلوماسية الدولية مع دمشق، لا بد من أن تشهد البلاد عملية إعادة إعمار تشمل الجوانب التالية:
1. الجانب السياسي:
تقوضت عناصر الدولة على امتداد عمر الأزمة، فخروج قطاعات جغرافية عن سيطرة الحكومة أضعفَ من شرعيتها القانونية وبالتالي من سيادتها التي بموجبها يحق للدولة تطبيق قوانينها على كامل مساحتها فـ "سلطان الدولة لا ينازعه سلطان".
لكن تمكنت الدولة السورية منذ عام 2015 من فرض سيطرتها الأمنية والعسكرية على مساحات متزايدة من أراضيها، مما أبعدها قليلاً عن خانة "الدولة شبه الفاشلة" التي تندرج تحتها الدول التي فقدت جزئياً أحد عناصر وجود الدولة.
ورغم ما طرأ في العقد الماضي من تناحر دبلوماسي، بقيت دمشق عضواً في الأمم المتحدة وظلت محافظةً على تمثيل دبلوماسي في بعض العواصم، إلا أن المرحلة الحالية تتطلب الشروع العملي في الإعمار الهيكلي للقوام السياسي للدولة؛ دولة تستوعب كل التيارات التي تلتزم بالتعبير عن مواقفها بالوسائل السلمية الديمقراطية وتحت مظلة الدستور القادم. وفي هذا السياق، تُجري اللجنة الدستورية التي تضم 150 عضواً موفدين بالتساوي من الحكومة السورية والمعارضة والمجتمع المدني، مداولاتٍ موسعة برعاية الأمم المتحدة لصياغة دستور جديد توافقي على أن يُعقَبَ إقرار الدستور بانتخابات رئاسية تجري بإشراف أممي ضمن بيئة محايدة. وهذه اللجنة مستوحاة من القرار الشهير "2254" الذي صدر عن مجلس الأمن بالإجماع في ديسمبر 2015، وتضمن الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار ضد المدنيين، وجمع الطرفين في مفاوضات رسمية.
وتشير الوقائع إلى تعثر أعمال اللجنة الدستورية بفعل المماطلة وعدم تناغم الأطراف المنخرطة، مما سيُطيل أمد إقرار الدستور السوري، وبالتالي تعطيل مسار الإعمار السياسي المرتقب.
ورغم حاجة دمشق إلى العودة للمجتمع الدولي، إلا أنها أجرت الانتخابات الرئاسية في 26 مايو 2021 دون إقرار دستور توافقي ووسط تشكيك دولي بنزاهتها ورفض بعض الدول التي تضم أعداداً كبيرة من السوريين – كتركيا وألمانيا – إجراءَ الانتخابات في السفارات والقنصليات السورية.
وقد عوّل بعض "المتفائلين" على إجراء انتخابات تستوعب ظاهرياً حتى التيارات السياسية المعارضة في الخارج. ومع عدم تقيّد دمشق بالقرار 2254 وعدم إحراز تقدم فعلي في نتائج أعمال اللجنة الدستورية، تراجعت فرص تقريب المواقف وإقامة تسوية بإرادة سورية محلية.
وممّا يُعقّد من إمكانية قيام مثل هكذا تسوية هو وجود خلافات داخل المعارضة المنقسمة على "منصات" يصعب توحيدها حيث تتناقض أهدافها وتوجهاتها وارتباطاتها الخارجية.
2. الجانب الاقتصادي:
يبدو الواقع الاقتصادي أشد تعقيداً من البعد السياسي المحلي، فالقاعدة الصناعية والزراعية في سوريا تلاشت إلى حد ما، وتعرضت الموارد الطبيعية – كالنفط والغاز– للاستغلال من قبل الجماعات المتطرفة، كداعش في فترة سابقة. وحالياً حُجبت مصادر الطاقة عن الحكومة السورية لوقوع آبار النفط في الشمال الشرقي تحت سيطرة قوات كردية مدعومة أمريكياً.
وفي المرحلة الحالية تشهد الحاضنة الشعبية للأسد في الساحل السوري احتقاناً غير مسبوق، بحسب مراقبين، لانقطاع الغاز والكهرباء والطحين، حيث تأثرت الأوضاع المعيشية في سوريا بفعل الأزمة الاقتصادية في لبنان وبفعل العقوبات الأمريكية التي تُعرقل إمكانية إقامة أي تواصل اقتصادي مع أي كيان سوري في مجالات حيوية ومدنية، كالطاقة والإنشاءات والحوالات البنكية، وهذه العقوبات مفروضة بموجب قانون أمريكي أقره الكونغرس ومعروف باسم قانون "قيصر".
كما تأثرت الأوضاع الاقتصادية في سوريا بانخفاض الدعم من حليفتها إيران المنهكة بمواجهة عقوبات "الضغوط القصوى" وتبعات جائحة كورونا.
ويتعين على أي مقاربة للحل النهائي في سوريا أن تضع في اعتباراتها الكلفة الضخمة للصراع والتي قدَّرتها منظمة "World Vision" للإغاثة والتنمية الدولية في آخر تقاريرها المنشورة في مارس 2021 بأكثر من 1.2 تريليون دولار، وإذا ما انتهت الأعمال العسكرية "الآن" ستصل الكلفة الإجمالية للنزاع حتى عام 2035 إلى ما يعادل 1.7 تريليون دولار بالقيمة الحالية للدولار، أي أن الرقم حتى ذلك العام سيكون أكثر من 1.7 تريليون دولار في أحسن السيناريوهات التي تتضمن الانتهاء الآني للعمليات العسكرية.
وتتنافس الدول الداعمة لسوريا كروسيا وإيران على انتزاع حصة وازنة من "كعكة" الإعمار وعقود الامتيازات في قطاعات حيوية ولفترات طويلة، كالموانئ وسكك الحديد والمواد الخام والاتصالات. وقد أثارت بعض هذه الصفقات استياء عدد من المقربين من الحكومة السورية المتمسكين بمبدأ سيادة الدولة على كل مواردها، حيث اعتبروا أن مثل هذه الاتفاقيات تسلب جزءاً ليس باليسير من الرصيد الاقتصادي للدولة، كما أنها تُضعف من قدرتها على التصرف السيادي بمقدّراتها وبما يراعي أولوياتها الوطنية.
وفي جزءٍ لاحق من هذا التقرير سيتم تسليط الضوء على الوضع الاقتصادي من منظور جيوسياسي وكيف يُمكن للسياسات الإقليمية والدولية الصادرة إلى سوريا أن تؤدي دوراً بنّاءً في هذا الملف تتجاوز تأثيراته المصالح الاقتصادية إلى تحقيق التوازن الإقليمي وعودة الاستقرار إلى القطر السوري.
3. الجانب الأمني:
لا تزال بعض المناطق، كإدلب، ترزح تحت سيطرة جماعات مسلحة، في حين شيدت قوات سوريا الديمقراطية نظام حكم ذاتي مستقل عن سيطرة دمشق، وبحكم الأمر الواقع "De Facto" تدير هذه القوات التي يغلب عليها المكون الكردي نطاقاً جغرافياً حيوياً من الدولة السورية.
ولا يزال لداعش حضور لا سيما في البادية السورية، فمؤخراً عادت الجماعة الإرهابية لتضرب بقوة في سوريا والعراق مستغلةً انكفاء الدول نحو التزاماتها الاقتصادية والسياسية.
ويتطلب الإعمار الأمني وجود تنظيم أمني واحد يملك الحق في استخدام السلاح بموجب تعليمات وقرارات السلطة المركزية، مما يعني أن سوريا يلزمها حملة واسعة لحصر الأسلحة – لا سيّما المتوسطة والثقيلة – بيد الدولة، وهذه المهمة صعبة نظراً لانتشار الأسلحة على امتداد الرقعة السورية، ناهيك عن تعويل بعض الجهات الإقليمية والدولية على هذا الفصيل أو ذاك لتحقيق مآربها الخاصة في سوريا، مما يعرقل جهود حصر السلاح بيد الدولة.
ولذلك يجب على أي حوار استراتيجي حيال الحل النهائي للأزمة السورية أن يعالج المسألة الأمنية، حيث يمكن إشراك بعض الدول، كتركيا، في تفاهمات سياسية لنزع السلاح من الفصائل المتحالفة معها، حتى لا تتحول هذه الأسلحة إلى قنابل موقوتة قد تُستغل في التوترات القادمة، فمرحلة ما بعد الحرب عادةً ما تكون مليئة بالتوترات.
في المقابل، يتعين على الدولة السورية أن تتعهد بضبط الممارسات الأمنية المعيقة للحياة السياسية، عبر تقليص التدخلات الأمنية التي لا تنبع من جوهر الاختصاص الأمني، كمكافحة الإرهاب وفرض النظام.
وإذا سعت الحكومة السورية إلى تجريد المستوى الأمني من حضوره السياسي، فستجد نفسها تواجه ممانعة حقيقية من هذا المستوى، إلا أنها ستحقق مكاسب دبلوماسية لا سيما في الدول الغربية، فكثير من تحفظات هذه الدول على دمشق لا تتعلق بالرئاسة السورية وإنما بالأجهزة الأمنية التي تعاملت مع الأزمة منذ بداياتها.
وينبغي التأكيد على أن إضعاف سوريا أمنياً سيصب في صالح "عودة الإرهاب" ولذلك يجب على أي إعمار أمني قادم أن يُوازن بين المتطلبات الأمنية والسياسية، فإقصاء الأجهزة الأمنية في هذا التوقيت سيُضعف من متانة الموقف الرسمي الهش أصلاً.
4. الجانب المجتمعي:
يبقى أهم ما في عملية الإعمار هو الجانب المجتمعي، فكل التفاعلات السياسية والاقتصادية والأمنية تنعكس على الواقع المجتمعي سلباً أو إيجاباً.
ولعل أصعب ما في الدراسات المجتمعية هو أنها تشخّص عناصر قد لا يكون من الممكن قياسها، كالقيم والمشاعر تجاه الدولة و"الآخر" والأنماط الثقافية السائدة في هذه البقعة أو تلك.
وقد غيّر عقدٌ من الصراع من هذه الثقافة، فقبل 2011 كان المجتمع السوري معتدلاً منفتحاً على الثقافات وبعيداً عن التطرف الطائفي، كما كان المواطن السوري متصالحاً مع فكرة التنظيم ضمن إطار الدولة التي كانت قادرة على توفير الخدمات الأمنية والأساسية.
ومع تدهور الوضع الأمني وعجز الدولة عن الوفاء بواجباتها تجاه المجتمع وبروز الوسائل غير الرسمية لتسيير الشؤون المعيشية؛ تطبّع قطاع عريض من السوريين مع حالة "اللادولة" وتكيّفوا مع الواقع الجديد.
لذلك ستواجه جهودُ الدولة السورية في فرض سيادتها المادية والمعنوية على امتداد الجغرافيا السورية، معضلةً جوهرية تتمثّل في تناقص قناعات السوريين بفكرة الدولة وبمبدأ الهوية الوطنية الجامعة التي تستظل تحتها – بسلام – كل الهويات الفرعية الطائفية والعرقية والمناطقية.
تغيُّر الأولويات
مع تطور مراحل الأزمة السورية، تغيّرت الأهداف الاستراتيجية للأطراف المنخرطة في الصراع. داخلياً؛ ومن منظور الحكومة السورية، تحول الهدف المركزي من استعادة السيطرة على المدن الحيوية إلى إعادة بناء الدولة بصورة شاملة. أما المعارضة فقد تغير هدفها من "إسقاط النظام" إلى المشاركة الوازنة في السلطة.
وخارجياً، فقد تغيرت أهداف الدول الداعمة لتشكيلات المعارضة من "إسقاط النظام" إلى مكافحة الإرهاب في مرحلة بروز "داعش"، وصولاً الآن إلى السعي نحو تأهيل البنية السياسية السورية ليصبح التواصل الدولي مع دمشق غير "محرج" للعواصم الغربية التي انهال سياسيوها وإعلاميوها بسيل من الانتقادات والوعيد على الرئاسة السورية.
ولعل هذا الحرج الدولي هو أحد أهم نقاط الضعف التي ستعتري مسار إعادة التأهيل، في المقابل تمتلك الدولة السورية عنصري قوة بارزيْن يتمثلان في سيطرتها على الأرض وتماسك منظومة داعميها، فميزان القوى يمنح دمشق يداً عليا في تحديد مسار المحادثات، حيث إن نتائج أي مفاوضات ما هي إلا إقرار سياسي بالوقائع على الأرض.
وقد أدركت الدول المعنية بالأزمة السورية هذه الحقيقة، ففي مقال حصري نشرته جريدة الشرق الأوسط في مارس 2021، اعتبر السفير الأمريكي السابق في سوريا، روبرت فورد، أن واشنطن أخطأت الظن بأن "الاتفاق بين وزراء الخارجية، أثناء اجتماعات مجموعة أصدقاء سوريا، يوازي الاتفاق حول الاستراتيجية والتكتيكات العسكرية في الحرب"، وأضاف "قد أخفقنا من جانبنا في حل مشكلة تعارض المصالح والأجندات الوطنية، والأفعال المتضاربة لأجهزة استخبارات الدول الصديقة لسوريا، التي أضرت بـالجيش السوري الحر، وشكَّلت عوناً عسكرياً للأسد".
وبعيداً عن التصريحات الإعلامية، فإن المزاج الدولي حتى في بدايات النزاع كان مقتنعاً أنه لا يوجد بديل عن الأسد قادر على فرض الأمن، ففي أوج التوتر العسكري داخل سوريا، سيطرت فكرة "اليوم التالي لسقوط النظام" على الفكر الأمريكي والغربي عموماً، وسط مخاوف من اندلاع صراع لا يمكن التنبؤ بمساره إذا غابت سلطة الدولة المركزية.
وهذا التخوف يفسر سبب امتناع داعمي المعارضة المسلحة عن تزويدها بأسلحة نوعية، كمضادات الطيران، ناهيك عن المخاوف المتصلة بتسرب هذه الأسلحة إلى "الأيادي الخطأ" التي ستستغلها في عمليات إرهابية في الإقليم وحول العالم.
مسار أستانا VS مسار جنيف
بقدوم إدارة جديدة إلى البيت الأبيض، ينتظر الملف السوري تغيرات قد تُسهم في إنهاء الحرب المندلعة منذ ما يزيد عن العقد، وبصورة مجردة؛ لا تملك واشنطن الأدوات الحاسمة لضبط الموقف في سوريا، ليس لضعفٍ فيها وإنما لكون الأخيرة لا ترتبط بالمصالح الحيوية للأمن القومي الأمريكي، ولذلك لم تنخرط بكثافة في الملف السوري.
ففي عهد أوباما اتبعت واشنطن أسلوب "القيادة من الخلف" واكتفت إلى حدٍ ما بدعم خطوات حلفائها حيال سوريا دون أن تسعى إلى فرض واقع جديد هناك. أما في عهد ترامب، فقد ازداد تخلخل الاستراتيجية الأمريكية تجاه سوريا – هذا أصلاً إن كان هناك استراتيجية فعلاً – فتارةً يُعلن عن سحب القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا، وتارةً يُعلن عن عقوبات أمريكية "قانون قيصر" تعرقل أي تواصل اقتصادي مع الجهات الحكومية وغير الحكومية في سوريا.
وقد مهّد انخفاض الانخراط الأمريكي في الملف السوري الطريقَ إلى روسيا وإيران لممارسة أدوار فاعلة تتعدى النفوذ في سوريا وصولاً إلى أهداف جيوسياسية أعمق، ففي السنوات القليلة الماضية تراجعت أهمية مسار جنيف الأممي لحل الأزمة السورية لصالح مسار أستانا الذي تَضْمَن وترعى فيه روسيا وتركيا وإيران جولات من المحادثات بين الحكومة السورية وأطياف من المعارضة السورية.
وحتى لو كانت هذه الدول الثلاث تملك زمام الأمور في سوريا، إلا أنها بكل تأكيد سئمت من هذا الصراع المعلّق الذي تكبّدت فيه كلفاً بشرية واقتصادية وسياسية واسعة، وتكاد تكون وصلت إلى حالة الإنهاك التي قد تكبح استمرارها في هذه الحلقة المفرغة من (هدنة مؤقتة – اشتباك – هدنة جديدة).
وعليه؛ فإن من مصلحة جميع الأطراف إيقافَ الدوامة السورية التي لن تُحلَّ عسكرياً وإنما عبر توافق كل الأطراف على دعم مسار سياسي سوري – سوري. وللأسف خرج الحل في سوريا من أيدي السوريين وتحولت القضية السورية إلى قضية إقليمية ودولية تُخفي في تفاصيلها – غير المهمة غالباً في حسابات القوى الفاعلة – أزمة إنسانية حادة.
وبنظرة تفاؤلية، فإنه يمكن التعويل على إعادة تموضع السياسة الخارجية لقوى إقليمية ودولية في إحراز تقدم في مسار التسوية النهائية، والخشية هنا هي من تفاقم التباين بين مساري جنيف وأستانا إلى تباين مستدام يُصعّب التوافق بينهما.
جدير بالذكر أن مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا، غير بيدرسون، اقترح إيجاد صيغة دولية جديدة لحل الأزمة السورية تضم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا وإيران وتركيا والدول العربية. وهذا الاقتراح يأتي في وقتٍ تزايدت فيه القناعة بتعذر حل الأزمة استناداً على الأدوات الموجودة حالياً.
وفي هذا الصدد، أصدرت وزارات الخارجية في كلٍّ من روسيا وتركيا وقطر بياناً مشتركاً هو الأول من نوعه أكدوا فيه على ما تم تأكيده في الاجتماعات الدولية السابقة حول سوريا، إلا أن المستجَّد في هذا الاجتماع الثلاثي هو "بدء عملية تشاورية جديدة في الشأن السوري" كما جاء في تصريحات لوزير الخارجية التركي، مولود أوغلو. وقد تنجح هذه العملية التشاورية في بلورة توافق إقليمي ودولي لحل الأزمة السورية.
ومن اللافت في هذا الاجتماع الثلاثي هو غياب – أو تغييب – إيران عنه، فتقييم الواقع في طهران يشير إلى أنها أصبحت تعاني من الأعباء التي تتحملها بفعل سياساتها الإقليمية التي تضغط بقوة على الداخل المنهك اقتصادياً بسبب العقوبات الأمريكية وجائحة كورونا وانخفاض أسعار النفط، كما أن هذه السياسة المستندة على الرواية الأيديولوجية تبدو عاجزة عن التأقلم مع التطورات الأخيرة في الإقليم.
فمع الإعلان عن حل الأزمة الخليجية، فُتحت الأجواء والمعابر مع قطر ولم تعد إيران منفذها شبه الوحيد على العالم. كما أن تركيا التي توافقت مصالحها مع إيران في الفترة الماضية في بعض القضايا، تشرع في ترتيب علاقاتها الشرق أوسطية وسط تقديرات تفيد بأن التفاعلات التركية الخليجية ستشهد تقارباً واضحاً بدأت ملامحه في الظهور منذ اتصال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بالملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، ضمن أعمال قمة العشرين التي عُقدت في نوفمبر 2020، ناهيك عن قرب إحراز نقلة نوعية إيجابية في العلاقات المصرية التركية، إذ أجرى الطرفان محادثات "استكشافية" لبناء الثقة ومحاولة تقريب وجهات النظر في القضايا الخلافية.
أما روسيا فمن الواضح أن رؤيتها لشكل سوريا القادمة تتناقض سياسياً واقتصادياً وثقافياً مع الرؤية الإيرانية التي تجد أصلاً معارضة من قبل بعض المستويات الرسمية والشعبية في سوريا.
يأتي هذا الجمود في واقع السياسة الخارجية الإيرانية في وقتٍ يزداد فيه إصرار البيت الأبيض مع حلفائه الأوروبيين على عدم تقديم "هدايا مجانية" لإيران في المفاوضات الجارية حالياً دون انتزاع ضمانات شاملة تتعدّى الملف النووي. وقد يكون ملف التواجد الإيراني في سوريا على طاولة "المقايضة" الإقليمية الكبرى التي تضم بالإضافة إلى البرنامج النووي الإيراني قضايا مثل الحرب في اليمن. ونظرياً، عادةً ما يُسهّل تعدد القضايا المطروحة على الطاولة من عملية تقديم التنازلات المشتركة وفق عملية "Give and Take" مما يخدم في المجمل تحقيق التسوية الشاملة.
والملاحظ أن معظم الدول العربية التي لا تقيم علاقات كاملة مع دمشق أعادت حساباتها في السنوات القليلة الماضية بما يشمل إعادة تقييم الأخطار الرئيسية المنبثقة من الجغرافيا السورية، وهي تكاد تنحصر حالياً في الإرهاب والتمركز الإيراني، أي لم تعد القيادة السورية بحد ذاتها خطراً يستوجب التعامل معه عسكرياً وأمنياً.
أمام هذه المعطيات تتلاقى مصالح معظم الأطراف نحو تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا الآخذ بالتمدد نحو مجالات اقتصادية وثقافية، وهنا تجد دول عربية وخليجية نفسها أمام التزام بعدم تكرار السيناريو العراقي عندما أُخليت الساحة العراقية للأدوات الإيرانية حتى تمكنت من بعض مفاصل القرار السيادي العراقي.
وعليه؛ لا بد لعملية "إعادة التأهيل" المنشودة أن تضع في اعتباراتها عدم تكرار الأخطاء المركزية السابقة، فإن كان المرفوض هو "السياسة الخارجية الإيرانية التوسعية" فلا ينبغي أن يمتد هذا الرفض إلى بؤر توسعها، بل يجب مزاحمة هذا النفوذ بصورة غير دموية عبر الوسائل الاقتصادية وصولاً إلى صنع حالة من الاتزان تمنح دمشق مرونة في اتخاذ قراراتها بما ينسجم وتطلعات شعبها في المقام الأول.
وجدير بالذكر أن عملية التواصل الاقتصادي مع سوريا محظورة حالياً بموجب قانون "قيصر" الذي تتيح بنوده تجميده جزئياً أو كلياً إذا ما تم إحراز تقدم في المسار السياسي لتسوية الأزمة السورية، وهنا يمكن لمزيد من الحوافز أن تزحزح الجمود المسيطر على المشهد، فمن الواضح أن "العقاب المكلف" أخذ حيزاً كبيراً في تعامل الأطراف مع سوريا دون أن يحقق أي نتائج حاسمة.
وقد يعتقد البعض أن لا مبرر يدعو أمريكا (وحلفاءها وشركاءها) لحسم الصراع في سوريا، إلا أن هذا الاعتقاد يبدو مغالطاً لحقيقة التوجه الأمريكي نحو الشرق الأقصى وخفض الكلف الاستراتيجية والمادية لتمركزها الشرق أوسطي، ذلك أن هذا الانسحاب التدريجي يتطلب تحقيق نوع من الاستقرار حتى لا تستغل روسيا والصين حالة الفوضى لزيادة حضورهما في منطقة تَبِعَت تقليدياً للنفوذ الأمريكي.
وهنا يُمكن فهم سعي واشنطن إلى تشكيل تحالف عربي إسرائيلي، حيث إن غايته الحقيقية لن تكون "ردع" إيران في الدرجة الأولى، وإنما الحيلولة دون وقوع "فراغ قوة" في مرحلة لاحقة لفك ارتباطها النسبي مع المنطقة.
الخاتمة
أمام المعطيات الآخذة في التشكّل والتي تم استعراضها في هذه الورقة، تعد "سوريا القادمة" أحد أركان الهندسة الجديدة للإقليم، فهي نقطة الوصل بين إيران والعراق مع لبنان، فدون سوريا ولبنان ستفقد طهران إطلالتها الجيوسياسية على البحر الأبيض المتوسط، كما أن حدود سوريا الشمالية مع تركيا ذات الكثافة الكردية العالية نسبياً تمنحها – أي سوريا – ثقلاً في حسابات الأمن الإقليمي.
ولأن الصراع القادم في المنطقة سيكون إقليمياً أكثر مما هو دولي، ستسعى التيارات الإقليمية الرئيسية إلى انتزاع أكبر مكاسب ممكنة في مسار التأهيل لسوريا القادمة.
السيناريو المرجح لعودة العلاقات الدولية مع دمشق: ممارسة واشنطن والغرب لضغوط إنسانية على دمشق قد تصل إلى فتح تحقيق جنائي أممي، والتوافق دولياً وإقليمياً على صيغة للحل في سوريا، إلا أن الجهود المحلية لتطبيق هذه الصيغة ستتعثر كثيراً.
ودون وجود إرادة سورية مشتركة لتحقيق الاستقرار؛ ستشهد البلاد موجات من العنف المجتمعي على المدى القصير-المتوسط، وقد يتحول اللاستقرار إلى سمة مزمنة لسوريا على المدى البعيد.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: