يتباين حجم الضرر الذي ألحقه التفشي العالمي لفيروس كورونا تبعاً للقطاع أو المنشأة الاقتصادية أو الخدمية المعنية، إلا أنه لا خلاف على مبدأ "الضرر" بمعناه المجرد، فإيقاف وتعطيل الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية بشكل كلي أو جزئي، كان من شأنه أن يعمل على إعادة توجيه الأفراد والمؤسسات لأجنداتهم وتطلعاتهم، بحيث تتلاءم قدر الإمكان مع الواقع الذي فرضته الجائحة.
وقد يصعب الخروج بالحصيلة النهائية للخسائر المادية الناتجة عن الجائحة بحكم أن هذه الأخيرة لم تنتهِ بعد، حيث إن موعد العودة إلى "الحياة الطبيعية" أي إلى ما قبل كورونا، ما يزال يخضع للتخمينات العلمية والرسمية وغيرها، وبالتالي ولحين العودة إلى الشكل السابق أو شكل آخر مختلف ولكن مستقر للحياة الاجتماعية، يتخذ موضوع مراقبة وتحليل عمل المؤسسات على مختلف أنواعها ومجالات عملها ومستويات اختصاصها، درجة عالية من الأهمية من ناحية فهم آلية استجابتها للمتغيرات التي عكستها هذه الجائحة الصحية غير المسبوقة ليس لكونها أزمة من الناحية "الفيروسية"، وإنما لاشتباكها مع الواقع الإنساني الذي بلغ درجة فائقة من التطور والتعقيد في كافة الحقول بسياق معمم على كافة المجتمعات.
إن مراكز الأبحاث والدراسات السياسية والاجتماعية وحتى المؤسسات الصحفية والإعلامية، تكتسب في هذا السياق - شأنها شأن جميع القطاعات الأخرى - سمة مميزة، حيث إنها اضطرت إلى تخصيص جزء كبير من اهتمامها لفهم هذا التفاعل السياسي والاقتصادي الفريد من نوعه والذي يحتاج إلى إعادة صياغة و"موضعة" مختلف الأحداث المتناولة، لجعلها مواكبة من الناحية التحليلية وحتى السردية لآثار الأزمة المركبة، وبالتالي نحن أمام مرحلة نوعية لخلق المحتوى الإعلامي والبحثي، نتجت عن وجود متغير مستقل لا يمكن التغاضي عنه اسمه "كوفيد -19" الذي ما زال يتحكم إلى حد ما في قيادة وتوجيه مختلف المتغيرات التابعة من سياسية واقتصادية وعلاقات اجتماعية، حتى وإن نزل هذا الفيروس إلى مرتبة الفيروس التابع وإن خرج عن حسابات التأثير المباشر، إلا أن النظر إلى آثاره سيظل نقطة التحول التي تحكمت في سير العديد من الأحداث لموضوع ما ولمرحلة ما على المدى القريب ولربما المتوسط.
منذ أواخر عام 2019 وإلى ما قبل مارس 2020، كنا في STRATEGIECS نعمل على إعداد تقرير يتناول من زاوية تحليلية واستشرافية أبرزَ المواضيع والأحداث التي ستكون حاضرة عام 2020، بالطبع في إطار السياق التاريخي والاستمراري للموضوع أو الحدث المعني، وذلك استكمالاً لإطار عمل سابق تضمن تقديرين استراتيجيين سنوي ونصف سنوي لعام 2019، إلا أن التفشي الواسع لفيروس كورونا خلق حاجة لدى فريق المركز بضرورة إعادة ضبط المحتوى بسرعة باتجاه الاتصال مع الأحداث الجارية، حيث اضطررنا إلى أرشفة مواد التقرير المذكور، والاتجاه صوب دراسة تفاعل الأحداث السياسية العالمية والشرق أوسطية مع تداعيات الجائحة.
وكأي منشأة أخرى، فقد حُرمنا من انتظام الدوام الوجاهي في مكاتب المركز المستقرة في العاصمة عمان، كاستجابة لتوجيهات السلطات المعنية لمكافحة الوباء، وبالتالي انتقلنا للعمل عن بعد، لكن بقي تأثير ذلك على سير العمل في حدوده الدنيا نظراً لطبيعة العمل المرنة المستندة على القراءة في المقام الأول، إلا أننا واجهنا في فترة من الفترات صعوبة في القدرة على الوصول إلى جهات الاتصال الخاصة بالباحثين العرب والأجانب ممّن كنا نرغب بأخذ وجهات نظرهم ورؤاهم التحليلية بشأن مواضيع معينة.
لكن وعلى الرغم من حداثة النشأة والصعوبات الفنية المرتبطة بالعمل عن بعد، تمكنا في STRATEGIECS من الإدراك مبكراً - على الرغم من الخلاف في وجهات النظر - الدور الهائل الذي بدأت تفرضه الجائحة في ميدان العلاقات الدولية، إلا أننا هنا لم نقم بالانطلاق من كورونا كنقطة أولية لتحليل الظواهر القائمة أثناء إعداد عشرات التقارير وأوراق تقدير الموقف التي نُشرت خلال العام؛ بل جرى ويجري التعامل معها كعامل مؤزم في الموضوع المعني وهذا ما ظهر على سبيل المثال في التقريرين: هل سيساهم كوفيد 19 في تعقيد الأزمة الاقتصادية القادمة؟ و هل سيفقد الدولار مكانته كعملة عالمية؟ وذلك بهدف التنويه المستمر إلى وجود معضلات وتناقضات على الساحة العالمية أو المحلية للدولة المعنية التي امتلكت سياقاً تاريخياً طويلاً ومعقداً قبل ظهور الوباء، وهذا ما لا يظهر عادة في التغطية الإعلامية لبعض الجهات والمؤسسات.
واستمر المركز في نشر الأوراق التحليلية بحسب هذا المبدأ، الذي يمكن التعبير عنه بالقول إن تطور تداعيات الوضع الوبائي على واقع العلاقات السياسية والاقتصادية العالمية يسير بشكل متوازٍ ومتداخل مع سير الأحداث ضمن الملف المعني، فعلى سبيل المثال تم تناول موضوع سعي إدارة ترامب لإعادة توزيع القوات الأمريكية في القارة الأوروبية من زاوية العلاقة الأمريكية الأوروبية المضطربة في عهده، مع الإشارة إلى دور الجائحة في هذا الاضطراب، وهذا ينسحب على التقارير والمواد الأخرى بطبيعة الحال.
ووجدنا أنه يتوجب الذهاب إلى تلخيص وتوجيه الأفكار باتجاه موضوع محدد بعينه في ظل هذا الكم الهائل من تدفق الأخبار والتقارير على خلفية الجائحة أولاً، وأيضاً بسبب الأحداث الفارقة التي حدثت خلال عام 2020 على مستوى العالم ومنطقة الشرق الأوسط، على اعتبار أن هذه المساحة الأكثر أهمية بالنسبة لعمل المركز، ولهذا قمنا بإعداد ملف حمل عنوان "أوراق على طاولة الـ G7"، ناقش نقاط الالتقاء والتناقض بين الدول المكونة لمجموعة السبع في مجال الطاقة، والمناخ، والتنافس التكنولوجي، وأزمة كورونا، والسباق لإنتاج اللقاح، والتنافس مع الصين وغيرها، حيث قدّم الملف قراءة في أبرز التحديات التي تواجه العالم، وشكّل نقطة للانطلاق لبحث قضايا محددة وجزئية من خلال منظور عام وشامل يبين درجة وطبيعة الارتباط بين القضايا الدولية بشكل عام.
أما الملف الثاني فحمل عنوان "انتخابات 2020: ولاية رئاسية ثانية أم انتخاب لرئيس جديد؟" وقد تناول الجوانب والأجواء المحيطة بأكثر الانتخابات الرئاسية الأمريكية تفرداً في التاريخ، حيث شمل مقالات عن السياسة الخارجية الأمريكية والاقتصاد الأمريكي في عهد دونالد ترامب، والشكل العام للتيارات الاجتماعية والهوياتية والثقافية في المجتمع الأمريكي، ودور الإعلام ووسائل التواصل على الساحة السياسية والاجتماعية الأمريكية، وغيرها.
كما استمر STRATEGIECS خلال هذه الفترة في تكثيف جهوده الساعية إلى تعزيز العمل البحثي وتطويره؛ حيث أعلن عن إطلاق مشروع مشترك بالتعاون مع مجلةPRISM الرائدة في شؤون الأمن الوطني والدولي والصادرة عن جامعة الدفاع الوطني الأمريكية؛ بحيث يقوم المركز في أطر هذا التعاون بترجمة عدد من المواضيع المهمة التي تنشرها المجلة إلى اللغة العربية، ليكون بذلك أول منصة عربية تقوم بعرض محتوى PRISM وترجمته إلى اللغة العربية، ويهدف هذا التعاون إلى توسيع قاعدة قرّاء المجلة من الناطقين باللغة العربية حول العالم.
باختصار؛ تبين أنه جرى استيعاب أغلب المتغيرات التي طرأت على الساحتين العالمية والإقليمية سواء أكانت مترافقة مع كورونا أو بشكل منفرد، إلى جانب عدم قيام فريق تحليل السياسات في STRATEGIECS بقطع الصلة بالمستجدات التي أضيفت إلى مواضيع تم البحث فيها وإعدادها سابقاً، حيث نُشرت العديد من المواد التي ناقشت تنامي النفوذ الصيني في العالم، وأزمة حوض المتوسط بسبب التنافس على منابع الطاقة بين مجموعة من الدول هناك، وتحوُّل أشكال الإرهاب وتغلغله في مناطق جديدة من العالم وآثار ذلك على الأمن العالمي، والأزمة السياسية المتصاعدة في الداخل الإسرائيلي، وتقارير أخرى تابعت تطور الأحداث في ميادين التكنولوجيا والطاقة والعسكرة والاقتصاد.
كما ولم يتوقف المركز خلال عام 2020 عن إصدار أوراق تقدير الموقف التي تتعامل مع الأحداث المتفاعلة بسرعة في المنطقة والعالم من منظور لا يخلو من التحليل الاستشرافي لما يمكن أن تؤول إليه الأمور في الموضوع المعني، إلى جانب العديد من الفيديوهات والمنشورات التعريفية بمواضيع مختلفة تحظى باهتمام واطلاع مجموعة متنوعة من القرّاء.
وفريق STRATEGIECS اليوم ليس بصدد الحكم على تجربته خلال عام 2020 بالسلب أو الإيجاب من أجل تعميمها كحقيقة في الفضاء العام، فهذا يعود في نهاية المطاف إلى القارئ، لكن وفي نفس الوقت يمكن القول بأن هذا العام الاستثنائي أدّى وسيؤدي إلى فرز آليات التحليل المستخدمة من قبل المؤسسات البحثية؛ إلى: آني واستشرافي، وتقليدي وديناميكي، ومتأني ومستعجل، والأهم من ذلك إلى موضوعي ومتحيز؛ خاصة في ظل هذا العالم الذي تتصاعد فيه حدة الاستقطاب بمختلف أنواعه.
وفي الختام، نأمل أن نكون قد قدّمنا محتوى فريداً ومناسباً إلى أكبر قدر من القرّاء والمهتمين، وأن نستمر دائماً في سعينا إلى أن نكون الأقرب للحقيقة.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.