ورقة ضمن سلسلة: الإسلام السياسي تحت المجهر
(1) الجرح التاريخي
ليس الهدف من هذه الفقرة أن نتطرق إلى الجانب التاريخي؛ للإسلام السياسي ولكن الهدف ينحصر؛ في العودة إلى طبيعة السياق الذي بُسط فيه البساط الأول لخطاب الإسلام السياسي.
فالعالم الإسلامي يعاني من تبعات الجرح الذي خلفه الاستعمار؛ والذي حدث تباعا لجل مناطق العالم الإسلامي؛ في مطلع القرن العشرين؛ إذ عاشت معظم دول العالم الإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين حالة الاحتلال والاستعمار من لدن مختلف الدول المركزية الغربية، وقد صاحب حالة الاحتلال؛ حالة من الكفاح والتضحية والنضال السياسي ضد المستعمر، وحالة من التحرر والبحث في الأسباب التي كانت من وراء الاستعمار.
وفي هذا السياق السياسي والاجتماعي والثقافي ظهرت في مصر الجماعة الأم للإسلام السياسي؛ جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 بزعامة حسن البنا، وسبق ذلك أن وجدت مختلف الأيديولوجيات باسم الماركسية والليبرالية والقومية وغيرها، التي نشأت وتشكلت في سياق المركزية الغربية في القرن التاسع عشر الميلادي، وما قبله طريقها داخل السياق الثقافي الإسلامي بشكل عام والعربي بشكل خاص.
وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945؛ جسد النصف الأخير من القرن العشرين، حالة التحرر والاستقلال عن الحكم الأجنبي لمختلف الدول المستعمرة، وإن شئنا أن نصف العقود الأولى للنصف الأخير من القرن العشرين في العالم الإسلامي فإن ما يصدق عليها الوصف بكونها عقود التضخم الأيديولوجي بامتياز، ففي الوقت الذي ترى فيه الأيدولوجية العربية بأنها قادرة على تحقيق فعل النهضة والتقدم على أرض الواقع وفي سياق الدول القطرية التي تحلم بالوحدة والاندماج لتحقيق وطن عربي موحد؛[1] بذلت التيارات الماركسية أقصى جهدها من أجل بلوغ هدف في فرض سلطة البروليتاريا؛ وبعد أن فشلت في تحقيق ذلك رفع الإسلاميين شعار "الإسلام هو الحل".
فالكل وظف جرح الاستعمار بطريقته الخاصة؛ فالتيارات الماركسية كان عدوها الأول هو الإمبريالية الغربية، فحل مشاكل العالم العربي تكمن في تبني الاشتراكية العلمية، والصراع لديهم مع الغرب ينحصر بين القوى الامبريالية الغربية ومن يمثلها، أما الاشتراكية ففيها يكمن الحل.
بينما التيار القومي العروبي ترك نفس المسافة بين الليبرالية والاشتراكية وهو مزيج بين كل الاتجاهات؛ وقد شكلت القومية أيديولوجيه الحكم في عدة أقطار؛ مع الاختلاف في تطبيقاتها.
أما الإسلاميين فقد أعرضوا عن كل ما هو غربي؛ فالأخير بالنسبة لهم ومن يمثله من التيارات الليبرالية والعلمانية والشيوعية موضوع صراع، وتعد القضية الفلسطينية وما صاحبها من أحداث ووقائع، من القضايا الأساسية التي رسخت مبدأ وفكرة الصراع والتحيز لفكرة الموت بدل الحياة وساهمت في تسويقها، وقد تم استرجاع ما في التاريخ من ملاحم إسلامية مع الإمبراطوريات والحضارات المختلفة.
إلا أن الإسلاميين لم يملكون آنذاك سندا تنظيري لتأطير طرحهم وأيديولوجيتهم، بالرغم من القدرات التنظيمية لحسن البنا؛ وهو الأمر الذي تحقق مع سيد قطب الذي يُعد من أبرز منظري الإسلام السياسي إلى جانب أبو الأعلى المودودي، فبعد سيد قطب؛ اتسعت أيديولوجيا الإسلام السياسي في كل أرجاء العالم الإسلامي بمسمياتها المختلفة.
لقد ذهب سيد قطب لأمر منهجي خطير؛ وذلك بكونه عمل جاهدا على وضع الآخر والمخالف للإسلام في سياق تصور ثنائي يفترض ويجعل من الآخر موضوعا للصراع؛ إلى درجة أنه جعل من الحرب والصراع قانونا يتحكم ويسري في التاريخ بين المسلمين وغيرهم؛ وذلك باختزال التاريخ بمجمله في قالب الصراع بين المسلم وغيره.
يؤكد سيد قطب ما ذهب إليه بقول:
"كانت التجربة تلو التجربة قد كشفت عن القانون الحتمي الذي يحكم العلاقات بين المجتمع المسلم الذي يفرد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والقوامة والحاكمية والتشريع، والمجتمعات الجاهلية التي تجعل هذا كله لغير الله، أو تجعل فيه شركاء لله... هذا القانون الحتمي هو قانون الصراع الذي يعبر عنه قول الله سبحانه: " وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا "(الحج 40)، والذي يقول عنه سبحانه كذلك : "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ"(البقرة 251) [...] وهذه الظاهرة الأخيرة والقاعدة الأصيلة التي تقوم عليها هي التي يقررها الله سبحانه في قوله عن المشركين : " وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا "(البقرة 217) والتي يقول فيها عن أهل الكتاب: " وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ "(البقرة 109)، ويقول فيها كذلك :" وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ "(البقرة 120) فيعلن - سبحانه - بهذه النصوص القطعية عن وحدة الهدف بين جميع معسكرات الجاهلية تجاه الإسلام والمسلمين، وعن قوة الإصرار على هذا الهدف وامتدادها عبر الزمان، وعدم توقيتها بظرف أو زمان ! وبدون إدراك ذلك القانون الحتمي في طبيعة العلاقات بين التجمع الإسلامي والتجمعات الجاهلية، وتفسير الظواهر التي تنشأ عنه -على مدار التاريخ -بالرجوع إليه، لا يمكن فهم طبيعة الجهاد في الإسلام، ولا طبيعة تلك الصراعات الطويلة بين المعسكرات الجاهلية والمعسكر الإسلامي. ولا يمكن فهم بواعث المجاهدين الأوائل، ولا أسرار الفتوحات الإسلامية، ولا أسرار الحروب الوثنية والصليبية التي لم تفتر قط طوال أربعة عشر قرنا"[2].
بهذا الفهم الذي قدم العواطف على العقل؛ واستحضر محن وآلام جرح لم يندمل بعد، وصلت أيدولوجية الإسلاميين إلى فئات واسعة وعريضة من الناس، لأنها خاطبت فيهم الجرح الذي خلفه الاستعمار لديهم.
ومن رحم القطبية خرجت من جماعات أكثر تطرفا، مثل؛ جماعة التكفير والهجرة. كما امتدت القطبية التي امتزجت "بالسلفية الجهادية" لاحقاً إلى القاعدة وداعش، وغيرهما من الجماعات المتطرفة.
لقد تم اختزال كل ما كتبه سيد قطب في مضمون هذه الفقرات ومثيلاتها، وأصبحت هي المهيمنة في فهم مجمل ما سبق له كتابته، حيث تم تغييب أي وجود للجوانب النقدية والأدبية في فكر سيد قطب مثل ذلك الموجد في كتابه: "التصوير الفني في القرآن"، وقد يكون ذلك نتيجة ظروف وفاته (بالإعدام) والتي جعلت من إختزال أفكاره أكثر سهولة ومن فكرة الصراع أكثر جاذبية من حيث التسويق ودفعت للاعتقاد أن جميع أفكاره على حق.
وفي الحقيقة شكلت وفاته؛ ولادة جديدة لأطروحاته وتصوراته، ساهمت في سرعة وصول خطاب الإسلام السياسي إلى كل الفئات المجتمعية في العالم الإسلامي. فلو قدر لسيد قطب أن يموت على فراشه لكان خطاب الإسلاميين شيئا آخر؛ بدل الذي هو عليه، فبقي بين يدي الإسلاميين الحبل الذي أعدم به صاحبهم – سيد قطب- يوظفونها في دعوتهم كل وقت وحين.
في هذه الأجواء التي لا تخلو من فكرة تسويق الصراع بمختلف أشكاله: الصراع الطبقي، الصراع بين العلم والدين، الصراع على السلطة، الصراع بين الإيمان والكفر، الصراع بين الغرب والإسلام؛ تشكل خطاب الإسلاميين.
وفي الوقت الذي استثمروا فيه المساجد وغيرها للدعوة استثمر آخرون المقرات النقابية وغيرها، وقد جسد الفضاء الجامعي في مختلف الجامعات في الوطن العربي مسرحا للتنافس الأيدلوجي، التي تتحول بين الحين والآخر إلى مواجهات وخاصة بين اليساريين والإسلاميين.
وبشكل مقتضب نكون قد اقتربنا من طبيعة السياق العام الذي شكل خطاب الإسلام السياسي، فالإسلاميين بدل أن يتجاوزوا جرح الاستعمار، بتبني ما هو علمي ومعرفي وكوني بطبعه لدى الغرب، فضلوا أن يجعلوا من جرح الاستعمار جرحا يكرس القطيعة مع ثقافة العصر؛ وجُرحاً يتم توظيفه في عملية الاستقطاب الشعبوي لفائدة مختلف التنظيمات الإسلامية.
ومن بين ما يؤكد ما ذهبنا إليه؛ هو أن تنظيمات الإسلام السياسي تعاملت بمنطق الرفض أو الشك، أو عدم الاهتمام، مع الكتابات والمشاريع الفكرية والفلسفية في العالم الإسلامي؛ والأمثلة كثيرة ومتنوعة في هذا السياق من بينها مثلا؛ أن الإسلاميين لم يتقبلوا خطاب عالم الاجتماع الجزائري مالك بن نبي، في تفرقته ما بين الاستعمار والقابلية للاستعمار. فالأول هو نتيجة لأسباب ودواعي سابقة عنه، قد تكون مُذللة وميسره لشروط النهضة، ذلك أن مالك بن نبي لم ينظر للغرب من زاوية العداء، بل نظر إليه من زاوية المعرفة والحضارة. وهي النظرة المغيبة في خطاب الإسلاميين.
وحقيقة الأمر أن الإسلاميين ظهروا في الساحة كرد فعل نفسي ذو هم سياسي، يعبر عن القلق الكبير بعد سقوط الدولة العثمانية عام 1924، فسقوطها كأنه سقوط للإسلام؛ في الإيحاءات النفسية عند البعض حينها، وبالتالي فهمهم كان هما سياسيا استقطابيا منذ البداية، فقد أيدوا ثورة الضباط الأحرار في مصر عام 1952، قبل أن يخرجوا عليها فيما بعد، نظراً لهاجس السلطة الذي يشغلهم ويشغل كل التنظيمات التي تفرعت عنهم عبر العالم، وظهرت تطبيقات ذلك عند استيلائهم على السلطة في السودان بعد انقلاب عسكري عام 1989، ومحاولاتهم اللاحقة في الجزائر وسوريا ومصر في منتصف وحتى أواخر القرن العشرين، دون توفر أي هم معرفي أو فلسفي يعبر عن الروح الحضارية للإسلام.
وفي نهاية القرن المُنصرم، وبالتحديد مع تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991، دخل القوميون في حوار مع الإسلاميين بالرغم من الاختلافات بين الطرفين[3]، ذلك أن نهاية السوفييت كانت سبباً في انكماش الأيديولوجية الماركسية بمختلف ألوانها على ذاتها، وخلت الساحة للإسلاميين، وساد التنافس بين تياراتهم حيث دخل "المجاهدون الأفغان" في حرب طاحنة فيما بينهم، وسقط عنهم قناع القداسة والأسطورة الذي البسوهم إياه الإسلاميون، إلى درجة قولهم بأن رائحة الطيب تفوح من دماء "المجاهدين" الأفغان.
لكن شهدت تلك الفترة انشغال الإسلاميين بقضية أخرى؛ مرتبطة بمسلمي البوسنة والهرسك؛ وفي الوقت ذاته سيطرت طالبان على السلطة في أفغانستان، وتمكن "العرب الأفغان" من الاصطفاف في تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن؛ ليفاجئ العالم بأحداث هجمات 11 سبتمبر عام 2001 ضد أهداف في الولايات المتحدة، والتي على إثرها أعلنت الولايات المتحدة الحرب على طالبان بكونها توفر ملاذاً آمنياً للقاعدة، لكن هذه المرة لزمت بقية تيارات الإسلام السياسي مثل الإخوان المسلمين نوع من الحياد بشكل رسمي.
بالرغم مما سبق، ونحن نُظهر الطبيعة انتهازية خطاب الإسلاميين في تعاطيهم مع قضايا عالمية، لا ننكر طبيعة التفاوت الحاصل ما بين دول الشمال ودول الجنوب، ولا ننكر أن السلوكيات المركزية الغربية تولد عنها انعكاسات سلبية في المنطقة؛ وكانت سببا للعديد من الآفات التي أضرت بالإنسانية جمعاء. فالغرب والحداثة الغربية ليست مقدسة، فهي في حاجة للترشيد والتقويم، وهذا الأمر لن يتحقق إلا بالوعي ونقد وتحليل الحداثة من خلال الحداثة ذاتها.
والسؤال الذي ينبغي التقرير فيه اليوم؛ هل تمكن الإسلاميون بعد أحداث ما يُعرف بـ"الربيع العربي"، خاصة الذين خاضوا التجربة السياسية منهم؛ من تجاوز ما كان عليه أسلافهم من مواقف الصراع مع الآخر؛ وذلك بتبني رؤية وفلسفة جديدة في فهم الذات والآخر المختلف؟ مما يفسح لهم آفاقاً جديدة للخطاب؛ أم أنهم لازالوا في فلك الخطابات القديمة ولكن بلغة ولون مغاير؟ وهو سؤال رهين بالزمن والواقع من جهة؛ ومن جهة أخرى رهين بتشكيلات معرفية مغايرة في فهم الماضي والحاضر؛ وهذا أمر لحد الساعة مستبعد وليس له بوادر من داخل منظومات الإسلاميين الحزبية وغير الحزبية.
(2) الربط بين الدعوة والإسلام
أحدث الإسلاميون مفهوم "الدعوة" بهدف التواصل مع عموم الناس وتجميعهم حول خطابهم؛ الدعوة إلى ماذا؟ طبعا الدعوة إلى الإسلام وتعاليمه؛ كأن الإسلام ظهر لأول مرة في القرن العشرين، أو كأن مسلمي القرن العشرين على ملة أخرى دون الإسلام؛ فمفهوم "الدعوة" كما يُقدمه أتباع الإسلام السياسي مفهوم عام، يتضمن معاني ملتبسة.
صحيح أن القرآن الكريم يضم مفردة الدعوة كما ورد في قوله تعالى: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (النحل 125)، إلا أن موضوع الدعوة هنا دعوة إلى سبيل الله، وليست كما هي عند الإسلام السياسي دعوة إلى جماعة أو تنظيم باسم الله وباسم سبيله.
حيث أن سبيل الله أوسع وأرحب مما نتصور، ولا يسعه بأي وجه من الوجوه تنظيم أو جماعة، فرسالة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ليست دعوة إلى جماعة أو طائفة، والذين آمنوا معه في فجر الإسلام ليسوا سواء في الصورة والنمط أو في المواقف والتصورات والفهم.
وذلك يختلف جذرياً عن نهج المنخرطين في مختلف الأيديولوجيات اليوم، والذين يصفون كل من خالفهم بـ"الضلالة" في نظرهم؛ مع العلم أن الله وحده من يعلم "من ضل عن سبيله"، وهذه وصية الله لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم؛ جاءته وهو في سياق الدعوة والبلاغ، نجدها حاضرة في قوله تعالى: "إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (القلم 7)، وقوله تعالى "إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (الأنعام 117).
إذن؛ من حق الناس في جميع المجتمعات أن تتجمع في تنظيمات معينة؛ وهي مسألة يفرضها الاجتماع؛ ولكن ينبغي ألا يكون ذلك باسم الإسلام. ففي التاريخ الإسلامي كانت مختلف الآراء في فهم الإسلام لدى أتباع الطرق والمذاهب والزوايا، تنسب بدرجة أولى لأصحابها، فلا مانع من الأخذ بهذا الرأي أو ذاك فالمسألة مسألة دليل وبرهان، أما الإسلام فهو السياق العام الذي يشترك فيه الجميع.
ومن البدء ليس هناك فصل منهجي واضح في خطاب الإسلاميين، بين ما يدعون إليه وبين الإسلام [4]، وليس هناك وعي كامل بأن ما يدعون إليه هو تصور وفهم سياسي للإسلام وليس هو الإسلام ذاته. والذي يؤكد ما ذهبنا إليه؛ هو أن الجماعات الإسلامية دخلت في مزايدات فيما بينها عن طبيعة التصور الصحيح الذي يمثل الإسلام، فكل جماعة ترى في نفسها بأنها تملك الفهم الصحيح للإسلام وبأنها أقرب إلى التصور الذي كان عليه الرسول (عليه الصلاة والسلام) والصحابة (رضي الله عنهم)، رغم وعيهم – أي جماعات الإسلام السياسي - بأن ما يجمعهم أكثر مما يفرقهم.
عدم الفصل هذا؛ جعلهم داخل المجتمع إلى جانب الأيدلوجيات والتيارات الأخرى يظهرون بأنهم يمثلون الإسلام ما داموا يتحدثون بصوته ويرددون نصوصه، فعموم الناس بوعي أو بدونه تميل إلى فكرة صوت الإسلام، لأن ذلك جزء لا يتجزأ من عاطفة ووجدان وإحساس الإنسان المسلم، فمجمل آراء الإسلاميين يربطونها بأنها تعبير عن رأي الإسلام، والحقيقة أن الإسلاميين ليس لهم أي تمييز منهجي بين التاريخ الإسلامي وما تشكل من داخله من منظومات ومدارس فقهية ومذهبية، وبين تصورات القرآن وفلسفته ورؤيته للإنسان والعالم والحضارة؛ فالإسلام واحد من جهة الدين والقرآن، ولكن متعدد من جهة التاريخ وتديُن الناس؛ فالصورة المنتقاة عن الإسلام التي يتبناه أي تنظيم من تنظيمات الإسلاميين؛ بالنسبة لهم هي الإسلام ذاته.
ولذلك دخل خطاب الإسلاميين في كل ما يخص حياة الناس باسم الإسلام، ولم يَترك شاردةً أو واردةَ إلاّ و حاول أن يغلفها بالدين، حيث دخل في الشكل، اللباس، الأذواق، المسرح، السينما، الموسيقى، الرسم، كرة القدم، طريقة النوم وغير ذلك"[5]، ودخوله هذا ليس من ورائه أي قيمة نقدية أو عقلية في نظرته للحياة، كل ما في الأمر هو أن يضمن التفاف الناس حوله باسم الإسلام.
وكانت النتيجة ظهور فئات من الشباب مُقولبة على قالب واحد؛ ترى في نفسها بأنها ملتزمة بالإسلام، وهنا يحق لنا أن نقارن بين محلات الموضة العالمية التي تختزل الأذواق في قالب و ذوق واحد، يرتبط بمنتوجها في اللباس أو غيره، لأهداف تجارية؛ والإسلاميين في اختزالهم كل الآراء ووجهات النظر حول قضايا الدين والدولة في رأي وتصور واحد يقول به هذا التنظيم أو ذاك، بهدف انتشار الدعوة، فعندما تحاور إسلامي واحد فكأنك حاورت جميع الإسلاميين، وهذه من آفة الخطابات الأيدلوجية كيفما كانت.
(3) رمزية الخطاب والعقل الجمعي المأزم
الإسلاميون يعشقون اختلاق أشكال متعددة في الفضاء العام تميزهم عن غيرهم وترمز إليهم، ونجد ذلك حاضراً في خصوصيتهم ورمزيتهم بالزي والمظهر، والتي استثمرها الإسلاميون في الفضاء العام بشكل لا يتصور، وأصبحت دلالة على ما يُمثلهم وما يُمثل غيرهم، وينطبق ذلك أيضاً على مفردات التواصل بين الناس فيما بينهم؛ وعلى أشياء وقضايا كثيرة في حياة الناس.
والحقيقة أن الرمزية التي كرسها الإسلاميين في الفضاء العام، امتدت لكثير من عموم الناس دون أن تكون لهم أية علاقة بالإسلاميين، فصار الكثير منهم لا يفرق بن العادات والتقاليد التي ينتهجها الإسلاميون وبين الأحكام الفقهية للإسلام المحققة لقصديته وغائيته.
ومن جهة أخرى؛ تتجاوز الإشكالية الحضارية للعالم الإسلامي خطاب الإسلام السياسي، فلا يعني زوال الإسلاميين لسبب من الأسباب أن العالم الإسلامي سيصبح على أحسن حال. فأزمته أزمة عقل؛ وبدرجة أولى في علاقة ذلك العقل بالواقع بما فيه الكون والعلم والمعرفة والمستقبل؛ وقد استفاض الكتاب في محاولة شرح وسرد تلك الإشكالية في العديد من المؤلفات من قبيل كتب محمد عابد الجابري حول "نقد العقل العربي"، ومحمد أركون في: "من الإجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي"، وعبد الله العروي في: "مفهوم العقل"، وغيرها من الكتابات التي ناقشت سياق الأزمة بشكل متعدد ومتنوع.
ولا يعني ذلك أن العقل الغربي على أحسن حال؛ فالأزمة المعرفية تختلف بين سياق وآخر، ولكن قد تكون لها نفس العواقب أحيانا، ففي الوقت الذي أعرض فيه العقل المسلم عن قراءة آيات الله في الآفاق والأنفس، افتقد نصف الهِداية الكامنة في كتاب الوجود؛ فبالعلم نهتدي في مختلف التخصصات العلمية قال تعالى: "سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" (فصلت 53)، وعندما ظن العقل الغربي بأن المادة يكمن فيها كل شيء ولا عالم قبلها ولا بعدها؛ افتقد نصف الهداية المترتبة عن عالم الغيب قال تعالى: "هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ" (الحشر 22)، قال تعالى: " وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (الحشر 19).
وبالتالي الأزمة اليوم مركبة ولا ينفع معها الفهم المجزأ، بقدر ما هي في حاجة لمناهج وأطر معرفية تستحضر شتات مختلف العلوم نحو فهم مركب للإنسان؛ وفهم مركب للوجود والعالم وهو يجمع بين المرئي وغير مرئي وفي الأخير نردد مع القرآن قوله: " قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ" (الزمر 46).
[1] يعتبر كتاب؛ عبد الله العروي؛ الأيديولوجيا العربية المعاصرة؛ من أهم الكتب في هذا السياق؛ فقد صدرت طبعته الفرنسية الأولى عام 1967م
[2] سيد قطب؛ تفسير في ظلال القرآن؛ دار الشروق؛ مصر؛ ط. 32؛ 2003م. ج. 3؛ ص. 1593
[3] مؤتمر: "الحوار القوْمي الإسلامي" مركز دراسات الوحدة العربية. القاهرة عام 1989م
[4] تطرق؛ عبد الإله بلقزيز؛ لهذه القضية في دراسة مطولة؛ بعنوان: "الدَّعوة والدّعاة: مقدّمات نقديَّة" أنظر: https://www.mominoun.com/articles/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B9%D9%88%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B9%D8%A7%D8%A9-%D9%85%D9%82%D8%AF%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D9%86%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%A9-5416
[5] عبد الرزاق الجبران؛ الحل الوجودي للدين انقلاب المعبد؛ دار الانتشار العربي، الطبعة الأولى 2007م؛ ص.53
*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: