هذه الورقة جزء من سلسلة: الإسلام السياسي تحت المجهر
المقدمة
تميز النصف الأخير من القرن العشرين، بحضور أيديولوجية حركات الإسلام السياسي وارتفاع مدِّها في الوطن العربي في تنافس حاد مع أيديولوجية الاتجاهات اليسارية والقومية؛ فالإسلام السياسي الذي قدم خطابه في صورة الدفاع عن الحرية وضمان حقوق المجتمع، لم يتوقف عند ذلك الحد؛ بقدر ما كان يرى بأن الحل يكمن في الإسلام وفي تطبيق الشريعة؛ وهي مقولة كان الإسلاميون حينها يستسهلونها كثيراً من مُنطلق أن الإسلام في نظرهم؛ يجب أن يُغطي كل مناحي الحياة. لكن تطبيق الإسلام على المؤسسات والقضايا، ينبغي أن يتكيف مع تصوراتهم الدينية، التي وجدت أرضيتها في أفكار سيد قطب، ومن قبله أبو الأعلى المودودي.
وبناء على ذلك، تعالت أصوات جماعات الإسلام السياسي، في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي، لتمكين المجتمع، فقد تراوح الصراع بين ما هو حق –متوافق معهم-، وبين ما هو باطل -مُخالف لاعتقادهم-، وهذا الأخير يُمثله المُجتمع الذي لا يُطبق كتاب الله، وهو المجتمع "الجاهلي" عند سيد قطب، إلى جانب الدول التي تتنصل وفقاً لهم من تطبيق الشريعة. وفي هذه الحالة مثلت جماعة الإسلام السياسي نفسها بدور المحرر للشعوب من جاهليتها.
ونجد هذا الخطاب متجسداً في ما كتبه شيخ جماعة العدل والإسلام في المغرب؛ عبد السلام ياسين؛ بعنوان "الإسلام أو الطوفان" وهي رسالة وجهها في العام 1974، لتبيان نهج الإسلام السياسي تجاه الدول كافة؛ فإما أن يطبقوا شريعة الإسلام، كما يتصورها الإسلاميون، أو عليهم مواجهة طوفان من الجماهير التي تؤمن بشرع الله؛ حيث يقول ياسين: "الإسلام أو الطوفان هو دعوة إلى كل حاكمٍ وإلى كل ذي سلطةٍ"، والطوفان حتمية تاريخية في اعتقاده فيضيف أن: "الطوفان حتمية تاريخية، الطوفان سنةُ الله تجرف الاستكبارَ عندما يعتدي الاستكبار ويتعدّى وتأخذه العزة بالإثم". وقد أخذ الخطاب يتصاعد بقوة، بعد نجاح "الثورة الإيرانية" في العام 1979، واستيلاء الإسلاميين على السلطة في السودان في العام 1989.
ونجد ذات الخطاب عند يوسف القرضاوي، الذي يمثّل مرجعية مهمة وكبيرة لدى جماعة الإخوان المسلمين؛ إذ يعتبر أيضاً أن الحل الإسلامي حتمية تاريخية؛ وقد أصدر في العام 1971 كتاب "حتمية الحل الإسلامي"، وتبعه في العام 1974 كتاب "الحل الإسلامي فريضة وضرورة"، وفي العام 2000 أصدر كتاب: "أعداء الحل الإسلامي"، والحل عنده جاهز ومكتمل، فليست هناك أية مشكلة في الذات المسلمة وفي العالم الإسلامي؛ فكل مشاكلنا تعود لأعداء الحل الإسلامي وهم الاستعمار، والصهيونية والشيوعية.
"الحل الإسلامي" بين التطبيق والتصدي
من بين مميزات النصف الأخير من القرن الماضي؛ أنّ الإسلاميين بمختلف أطيافهم؛ أصبحوا جزءً من مكونات اللعبة السياسية في الكثير من أقطار العالم العربي، سواءً بمشاركتهم السياسية، أو بدورهم المعارض، أو تنظيماتهم السرية ذات التوجهات السياسية، وقد تباينت طبيعة التعاطي معهم ومع طروحاتهم تبعاً لطبيعة مشاركتهم في كل بلد؛ ففي مصر وخلال فترة حكم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، شارك الإسلاميون في العملية السياسية بشكل واضح، وتراوحت مشاركتهم تلك بين سعي الدولة لاستيعاب الإخوان خلال ثمانينات القرن الماضي، أو بالصدام والمواجهة معها من خلال تضييق نشاطها، أو بتحجيم دور الجماعة خلال الفترة الممتدة منذ الألفية الجديدة وحتى العام 2011.
وفي سوريا بعد شد وجذب، ولجوء الإخوان المسلمين إلى التنظيمات السرية المُسلحة والعنيفة، واتباع الاغتيال والهجمات والعمليات الإرهابية كوسيلة لتحقيق غايتها السياسية، فقد عكفت السلطات السورية، إلى الرد باستخدام القوة للتعامل مع الجماعة بعد سقوط الآلاف من الجنود والمدنيين الأبرياء، وشكلت أحداث مدينة حماة في العام 1982، المُنعطف الذي حد من سيطرة الإخوان على المدينة، وعلى المنوال ذاته كانت التجربة الجزائرية مع الإخوان، بعد أن انخرطت الجبهة الإسلامية للإنقاذ، في مواجهة مُسلحة مع قوات الأمن والجيش، دامت أكثر من عشر سنوات.
بينما في تونس انتهج الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، سياسة تجفيف المنابع بحق الإسلاميين طيلة فترة حكمه، وفي المغرب سُمح للإسلاميين بدخول البرلمان تحت مظلة حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية الذي غير اسمه الى حزب العدالة والتنمية في العام 1997.
تبعاً لما سبق، تراجع الإسلاميون خطوة إلى الوراء، سواءً كانوا في أوطانهم أو في الخارج؛ وعقولهم وأعينهم على الحكم؛ وازدادت قناعتهم رسوخاً بأنً مشكلة العالم الاسلامي كلها تنحصر في أنظمة الحكم؛ التي يرونها علمانية تابعة للغرب لا تولي اهتماماً لتطبيق شرع الله، وبهذا استمد الإسلاميون نوعاً من الشرعية الشعبية/الدينية برفع شعارات تمثيل طموح الأمة في تطبيق الإسلام وإقامة الخلافة من جديد.
في المحصلة استمد الإسلاميون نوعاً من شرعيتهم من خلال التسويق لأنفسهم بأنهم الضحية، وقد كان لذلك أثراً بليغاً في خلق تصورات ذهنية مفادها أنّ زمن ما بعد الأنظمة الحاكمة سيكون زمناً يتصف بالتآخي والعدل، رغم أنّ الإسلاميين لم يبذلوا جهداً كافياً في الإعداد لهذه "اللحظة التاريخية" المنتظرة، خاصة على المستوى النظري والفكري، إذ كانوا ينظرون للمثقفين والنخب المجتمعية التي لا توافقهم في الأيديولوجية بعين من الريبة والشك.
التاريخ لا يتحرك بالأمنيات
مع مطلع الألفية الثالثة وبفعل تأثيرات العولمة والثورة الرقمية والمعلوماتية والإنترنت؛ عرف العالم نوعاً من التحول خاصة فيما اتصل بالوصول إلى المعلومة في مختلف المجالات، فالإنترنت شكل فضاءً واسعاً للحرية والتعبير وبناء المواقف بشكل يصعب مراقبته والتحكم فيه، كما أنه كشف عن طبيعة التقادم والهشاشة الأيدولوجية عند الإسلاميين وغيرهم من قوى المعارضة، مما ساهم في التخفيف من حدّة التأثيرات الأيديولوجية في المجتمعات، وجعلها تتجاوز في تطلعاتها المعارضة، خاصة الإسلامية منها، على حد سواء؛ وقد شكلت أحداث ما يُعرف بـ"الربيع العربي" عام 2011، مفاجأة لتطلعات المجمتعات العربية، التي لم ترفع شعارات الإسلاميين، بالرغم من سعيهم الحثيث لنشرها وتسويقها طيلة عقود مضت.
ونعود هنا، إلى عبد السلام ياسين ويوسف القرضاوي، كنموذجين بارزين يتيحان تقديم النقد لخطاب حركات الإسلام السياسي؛ فالغريب هو أنّ التجارب الكثيرة والأحداث المفصلية والثورات المعرفية لم تغير شيئاً من خطابهما ما بين سبعينيات القرن الماضي ومطلع القرن الواحد والعشرين؛ فقد بقي عبد السلام ياسين متمسكاً بكل تفاصيل خطابه، حيث ادّعى، على سبيل المثال، بناءً على رؤية له في المنام بأنّ سنة 2006 ستكون سنة "الخلافة على منهاج النبوة" التي ستقودها جماعته، وقد خلق ادعاؤه هذا حينها حالة كبيرة من الجدل في الأوساط الإعلامية؛ وحتى بعد وفاته في العام 2012 إلا أنّ جماعته لا زالت تعيش على تراثه حتى هذه اللحظة.
أما يوسف القرضاوي الذي بقي متمسكاً بكل تصوراته؛ فقد انخرط في العام 2011 في تحريض الشعوب العربية على الاحتجاج في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، من خلال ظهوره الإعلامي المُتواصل آنذاك؛ وقد تورط في فتوى إهدار دم الرئيس الليبي السابق، معمر القذافي، وفي التحريض على مقتل الشيخ سعيد رمضان البوطي؛ والمشكلة هنا لا تتعلق بالفتوى بقدر ما تتعلق بتبعاتها؛ والبيّن أنّ القرضاوي بصفته فقيهاً ورئيساً للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، لم يولي اهتماماً لفكرة الإصلاح بالخير والحسنى ما بين الفرقاء السياسيين في الوطن الواحد، بهدف بناء الأوطان ورسم خرائط للخروج من الأزمة بوصفها أزمة الجميع.
وهنا من المهم التأكيد على أنّ دور العالم والفقيه في الأمة يتجلى في تعزيز الخير في المجتمع، وفي النظر لكل المواطنين بعين تستحضر مصلحة الجميع؛ من أجل الجميع، وليس بالتحيّز الحزبي لطرف على حساب آخر؛ خاصة في اللحظات الحرجة التي تمر بها المنطقة، لكن القرضاوي وكل من سار على دربه؛ لم يستخلصوا العبر من أحداث دامية سابقة مثلما حدث في سوريا في ثمانينيات القرن الماضي ثم في الجزائر بعدها؛ حيث حاولوا تكرار ذلك فيما بعد في ليبيا وسوريا بعد العام 2011، رغم وضوح الأجندات الإقليمية والمصالح الدولية.
وبينما عجّلت أحداث ما يُعرف بـ "الربيع العربي"، من وصول الإسلاميين إلى السلطة في مجموعة من البلدان؛ مثل المغرب، تونس ومصر، فقد استنفذ الإسلاميون كل طاقتهم سواء على مستوى الخطاب أو الممارسة؛ حيث اتضح للجميع بأن تجربتهم في السلطة تحتكر الطابع الطائفي الحزبي، فضلاً عن أنهم، لا يملكون حلولاً عملية للمعضلات الحقيقية التي تعاني منها المجتمعات العربية كالفقر والبطالة والسكن والتعليم وغيرها، وهو ما تصدُق عليه الآن مقولة "فاقد الشيء لا يعطيه"، فبالرغم من قدرة الإسلاميين على توسيع تنظيماتهم الحزبية، فهي تبقى هياكل فارغة من الداخل غير قادرة على بسط رؤى وتصورات للمستقبل، وغير قادرة على فتح آفاق واسعة لموضوعات الدين والدولة والمجتمع، وليس لها القدرة في نقد ومراجعة مقولات الحداثة.
على سبيل المثال، دفع ما يُعرف بـ"الربيع العربي" الإسلاميين في مصر، إلى رئاسة الدولة المصرية، ولكن طريقة تدبيرهم لمنصب الرئاسة دفع في النهاية الشارع المصري للوقوف في مواجهتهم، أما موضوع تطبيق الشريعة، فقد مثلت "داعش" أسوأ نسخة منه على أرض العراق في الفترة 2014/2017، أما النسخ الأخرى من تجارب الإسلاميين في كل من السودان وإيران، لم تنطوي على بديل حضاري إسلامي يناسب حداثة القرن الحادي والعشرين.
وخلاصة القول لما سبق؛ الإسلاميون اليوم بمختلف تشكلاتهم لا يملكون رؤية وخطاباً للمستقبل، ولم يعد بين أيديهم شيئاً يجمعون الناس حوله، فكرسي السلطة الذي عقدوا عليه كل آمالهم لتغيير واقع الأمة والرقي بحالتها الاجتماعية والاقتصادية مروا منه بدون جدوى، لأنهم تعاملوا مع موضوع السلطة والحكم بمنطق التنظيم الحزبي وتصوراته الضيقة، بدل الانفتاح على المجتمع وخياراته، وهذا لا يعني أنّ الإسلاميين سيختفون من الواقع بل على العكس من ذلك، فبقاؤهم سيكون إلى جانب التجمعات والتنظيمات التي استنفذت كل قواها القادرة على التغيير، والتاريخ لا يتحرك بالأمنيات بل له منطقه وسننه، فلا معنى لمقولة حتمية الحل الإسلامي، وقد نبه القرآن الكريم لهذه القاعدة المتصلة بسنن التاريخ ونواميسه في قوله تعالى: " لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) "(النساء).
*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: