بدأت فكرة المقال من سؤال لطالما طرحته على نفسي وعلى فريقي وعلى شركائي: لماذا لا يوجد لدينا كيانات اقتصادية متعددة لها امتداد عالمي، تعمل في شرق العالم وغربه، وتنقل المعرفة والتكنولوجيا للعالم العربي، لتمكين الأجيال القادمة برصيد معرفي وعلمي وعملي؟ لكن سؤال "لماذا" لا يكفي وحده أبداً؛ فالمهم أن نسأل: كيف نصنع حضوراً عالمياً، ونحقق أهدافنا الاقتصادية على المستوى المحلي والإقليمي؟
ولأن تحقيق هذا الهدف ليس سهلاً، وأمامنا الكثير من المعوقات والتحديات، لا بد لنا من التأسيس لفكر استراتيجي اقتصادي يعالج نظرتنا لمفهوم صفقات الاندماج والاستحواذ؛ بحيث تكون استراتيجية وقائية واستباقية تهدف إلى إعادة توزيع الميزات التنافسية في القطاعات الاقتصادية المختلفة، وتحسين إمكانيات إيجاد فرص عمل بشكل مستمر، وتقليل عدد الشركات المتعثرة على الساحة الاقتصادية، وتحسن دورة الإنتاج، وتوفر قنوات التمويل، مما يقودنا إلى بناء قاعدة صلبة من الشركات القادرة على التنافس في المرحلة الأولى إقليمياً والتي قد تمتد لمدة عشر سنوات على الأقل، ثم يتم التفكير في استراتيجية المنافسة العالمية.
وتتنوع أهـداف صفقات الاندماج والاستحواذ بين خفض كلفة التمويل، وتوسيع قاعدة الأصول، وتعزيز المركز المالي، وزيادة الحصة السوقية للكيان الجديد، وإنقاذ شركة ما من التعثر والإفلاس. لكن توظيف استراتيجيات الاندماج والاستحواذ للتطوير والتوسع وتقوية القاعدة الاقتصادية، يكون من خلال اختيار التوقيت المناسب والمبرر الصائب لهذه العملية، الذي من شأنه أن يخلق أثراً إيجابياً على القطاع. وهنا لا بد من الإشارة إلى اندماج "بنك أبو ظبي الوطني" و"بنك الخليج الأول" في عام 2017 الذي عمل على زيادة الثقة في قطاع البنوك في دولة الإمارات العربية المتحدة؛ وجدد الثقة بالنهج الاقتصادي المعمول به في واحد من أهم القطاعات في مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وهو قطاع البنوك المرتبط بشكل وثيق بقطاع الخدمات المالية، الذي يعتبر أحد أهم القطاعات الاقتصادية الريادية.
إن عمليات الاندماج الصحية تؤثر إيجاباً على مؤشرات الأسواق المالية، وتساهم في تحسين المزاج الاقتصادي والاجتماعي العام، إضافة إلى أهميتها في بث الثقة بالقطاعات الاقتصادية فيما يتعلق برأس المال الأجنبي والاستثمار المباشر؛ لذلك على الحكومات العربية التفكير جدياً في تبني استراتيجية لتأطير عمليات الاندماج والاستحواذ، ولتكون شريكة في تقييم هذا النوع من الصفقات. ولا يتم ذلك إلا من خلال مراقبة أداء الشركات المدرجة والعائلية ـــ كبيرة الحجم ـــ في كل قطاع وتحليل نقاط القوة والضعف والفرص والمخاطر المترتبة على كل شركة، وتقديم توصيات تتعلق بعمليات الدمج أو الاستحواذ في شركات القطاع الواحد.
لذلك من المهم أن تكون الاستراتيجيات المتعلقة بهذا الشأن، استباقية قادرة على تقييم المخاطر وتحييد الآثار السلبية قبل وقوع الضرر، ولا يجب انتظار الأزمات لنقوم بما هو صحيح.
ونحن نعلم أن الإجراءات التصحيحية تأتي مكلفة دائما إذا ما نظرنا للأمر على المستوى الكلي. كما أن نمط الأزمات السابقة بداية من تداعيات مرحلة "فقاعة دوت كوم" والتي امتدت في الفترة ما بين 1995-2000، والأزمة المالية العالمية؛ رفعت من كلفة الاندماج والاستحواذ بسبب حالة عدم اليقين والضبابية التي كانت تأتي بعد كل أزمة تقريباً.
شهدت الفترة، ما بين عامي 2005-2018، صفقات اندماج واستحواذ حول العالم يقدرها موقع " Statista" للإحصاءات، بـ 47,6 تريليون دولار؛ حيث سجل العام 2007 النشاط الأكبر بين هذه الأعوام؛ إذ بلغت قيمة الصفقات الإجمالية 4.958 تريليون دولار، يليه العام 2004 بقيمة صفقات إجمالية تقدر بـ 4,776 تريليون دولار، ليأتي عام 2006 بقيمة صفقات تقدر بـ 4,061 تريليون دولار، ثم عام 2018 بقيمة صفقات إجمالية تقدر بـ 3,888 تريليون دولار، تنوعت بين قطاعات متعددة أهمها الطاقة والتكنولوجيا والرعاية الصحية. واستحوذت الشركات الأمريكية على ما يزيد على 40% من قيمة الصفقات العالمية.
أما سوق الاندماج والاستحواذ في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فما زال متواضعاً؛ إذ بلغ عدد صفقات الاندمـاج والاسـتـحـواذ في الفتـرة ما بين عامي 2005-2018 (10690) صفقة، بقيمة إجمالية تزيد بقليل عن تريليون دولار؛ بحسب معهد "IMAA" المتخصص في دراسة الاندماج والاستحواذ.
وتعكس هذه الأرقام الضعف الكبير في سوق قطاع الاندماج عربياً وإقليمياً؛ الأمر الذي يعزز من أهمية دراسة هذا الضعف، وطرق التغلب عليه؛ لكن هناك نماذج من الشركات العربية المشتركة بين الحكومة والقطاع الخاص، التي تحمل أفكاراً خلاقة وطموحات كبيرة يمكن لها أن تشق طريقها نحو العالمية في حال لم تتعرض لضغوطات البيروقراطية والحسابات الضيقة. لكن وبالرغم من ذلك شهد سوق الاندماج والاستحواذ العربي في عام 2017، صفقة ذات ارتباط عالمي، شكلت حالة من الأمل لقطاع التجزئة الإلكتروني، حيث استحوذ عملاق التجزئة الأكبر "أمازون" على شركة "سوق دوت كوم" بقيمة قدرت بـ 650 مليون دولار؛ وهنا ينبغي لنا أن نتطلع لاستحواذ شركة أو صندوق استثماري عربي على شركة بحجم "أمازون".
وشهد القطاع الاستثماري في المنطقة العربية اندماجاً نوعياً يعد الأهم؛ حيث تم الإعلان عن تأسيس شركة "مبادلة" للاستثمار، تؤول لها ملكية أسهم حكومة أبو ظبي في كل من شركة "المبادلة للتنمية" وشركة الاستثمارات البترولية الدولية "أيبيك"؛ بحيث تصبح كل من الشركتين مملوكتين بالكامل من قبل الشركة الجديدة، بهدف تحقيق الريادة في الاستثمار عالمياً، والاستفادة من الفرص التجارية المتاحة على امتداد القطاعات ذات الطابع الاستراتيجي على مستوى العالم بما يعزز جهود خطة التنويع الاقتصادي طويلة الأمد التي تتبناها إمارة أبو ظبي؛ بحسب بيان الشركة، كما أن هذا الاندماج له أثر إيجابي على خارطة الاستثمار العالمية لما لهذه الشركتين من ثقل استثماري في قطاعات مهمة عالمياً.
قد يرى البعض أن تشجيع عمليات الاندماج والاستحواذ سيؤثر كثيراً في فرص الشركات متوسطة الحجم والصغيرة، ولكن ذلك ليس حتمياً. فما الذي يمنع من أن تعيد الشركات المتوسطة تقييم حجمها وقدرتها وفرصها، وتبحث عن فرص الاندماج المتاحة لتحقيق أهدافها التوسعية، وتواكب التغيرات العالمية في قطاع الصناعة والإنتاج وقطاع التكنولوجيا والخدمات المساندة له؟
إن العالم اليوم على مشارف الثورة الصناعية الرابعة، وعلى رجال الأعمال والصناديق الاستثمارية العربية أن تفكر ملياً في البحث عالمياً عن المشاريع في القطاعات الرائدة والجديدة، والاستحواذ عليها، لعلها تكون يوماً ما شركات عالمية لديها بعد عربي، وتشكل نواة لتنمية اقتصادية تخدم المجتمعات وتقدم للشباب العربي فرصة لم تستطع معظم الدول أن تقدمها.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: