مقدمة
تم الحديث في الجزء الأول من الورقة عن تجربة الإخوان المسلمين في الأردن منذ تأسيس الجماعة عام 1945، ومن خلال رؤية وصفية وتحليلية تم التركيز فيها على الخلط الهجين في ممارسات الجماعة بين الأبعاد الدينية الخيرية، والاعتبارات السياسية، وما رافق ذلك من تغيرات وتحولات في خطابها من الوعظي إلى الاحتجاجي.
وتناول الجزء الثاني دور الأيديولوجيا العابرة للحدود في الممارسات الحزبية والسياسية للجماعة في الأردن، وانعكاسات ذلك على دورها الإقليمي، والتركيز على إطار سردي ووصفي لتبيان تأثيرها الخارجي العابر للحدود.
وعليه؛ يستكمل في الجزء الثالث من الورقة الحديث عن سياسات الأردن الرسمية ومقارباتها تجاه الجماعة منذ نشأتها وصولاً إلى فترة ما يعرف بـ "الربيع العربي".
مقاربة الأردن الرسمية تجاه الجماعة
تحدثنا في الأجزاء السابقة بالتفصيل حول المسار الهجين والمتعرج الذي سلكته الجماعة في الأردن من جماعة دعوية تحظى بدعم النظام الكامل، إلى جماعة سياسية تستخدم الدين لكسب التأييد ولخدمة مشروع تنظيم الإخوان المسلمين العالمي.
ومن هنا بدأت المشاركة في الحياة السياسية بكل أشكالها، كالمشاركة في الانتخابات البرلمانية وانتخابات البلديات، والعمل بشكل منظم ومنهجي للنفاذ إلى مؤسسات المجتمع المدني، بداية من النقابات المهنية إلى النشاط الطلابي في الجامعات ثم نقابة المعلمين.
ويلاحظ هنا الارتباط بين انخراط الجماعة في الشؤون السياسة، وزيادة سلبية الجماعة نحو سياسات الدولة ومؤسساتها، فكلما انخرطت الجماعة في مفاصل الدولة والمجتمع (البرلمان، والنقابات، ومؤسسات المجتمع المدني، والجامعات، ودور العبادة) كلما زاد مستوى هجومها على هذه المؤسسات، وقد راكم هذا السلوك السياسي غير الواقعي إحساساً من عدم الثقة بالجماعة، والذي ظل يتنامى بسرعة لدى الدولة بموازاة سرعة ميل الجماعة لخدمة أجندة غير وطنية.
ويمكن القول بأن ذلك السلوك هو الذي مهد الطريق لتغير المقاربة السياسية الأردنية بشكلٍ عام تجاه الجماعة، حيث يمكن ملاحظة أن الحكومات المُتعاقبة ظلت تتعامل مع الجماعة ضمن ما يمكن أن نطلق عليه سياسة "الاحتواء الناعم" حتى عام 2010 وظهور إرهاصات ما يُعرف بـ"الربيع العربي"، وهذه السياسة تعتمد على إدراك الدولة -بحكم خبرة أجهزتها الطويلة في التعاطي مع الجماعة- أنها مدفوعة برؤية أيديولوجية ترسم أهدافها، وتتحرك بشكلٍ تدريجي ومتعرج وبكثير من التقية السياسية للسيطرة على مصادر صنع القرار في البلاد.
لكن بداية التصعيد ما بين الجماعة والدولة سبق أحداث ما يُعرف بـ"الربيع العربي"، ومر بعدة محطات أبرزها موقف الجماعة الرافض لقرار فك الارتباط القانوني والإداري بين الضفتين في العام 1988، وانسحاب نواب الإخوان البالغ عددهم 17 نائباً من جلسة التصويت على معاهدة "وادي عربة" للسلام مع إسرائيل في العام 1994، وقرار مقاطعة الانتخابات النيابية في العام 1997، ثم في العام 1999 بعد قرار إبعاد قادة حركة حماس عن الأراضي الأردنية وإغلاق مكاتب الحركة في العاصمة عمان، وفي تلك الفترة كانت الأزمة تتجه نحو التصعيد، حتى أخذت في العام 2006 بعداً إقليمياً مع اصطفاف الإخوان مع ما يسمى "محور الممانعة".
من المشاركة إلى القطيعة
عبر المُقدمة السابقة، يُمكن القول إن الفجوة المُتسعة بين الدولة والإخوان كانت مُتوقعة، نظراً لعدم تعديل الجماعة لسلوكها، وعدم تقويم مسارها بما يخدم مصالح البلاد الوطنية، وانحيازها لخدمة مصالحها الحزبية والفئوية.
وقد شهدت العلاقة بين الطرفين محطة فارقة في العام 2010 حين أعلنت جماعة الإخوان مقاطعة الانتخابات النيابية، في نفس الوقت الذي كان فيه الأردن يسعى بكل طاقته لتجنب امتداد الفوضى في المنطقة، وفي ذلك العام سعت الجماعة لنقل مطالبها وشعاراتها إلى الشارع، وعكفت على تحريض الرأي العام ضد الهيئات الحكومية والبرلمانية، مستفيدة من الاحتجاجات الآخذ بالتصاعد في المنطقة حينذاك، وقد شكلت مُقاطعة الجماعة للانتخابات في ظل مناخ إقليمي مضطرب مرحلة جديدة من علاقتها مع الدولة.
وفي الواقع، لم تستفد الجماعة من درس المُقاطعة في العام 1997 حيث غدت تلك المقاطعة عبئاً ثقيلاً عليها بسبب غيابها عن مجلس النواب، وافتقادها أدوات التأثير القانونية، لكنها كررت الأمر ذاته في العام 2010؛ بالرغم من الجهود الحثيثة التي بذلتها الحكومة لثني الجماعة عن قرارها، وباءت كل الجهود التي بذلت للوساطة، من قبل سياسيين ورسميين، بالفشل، وقد كان الهدف الرئيس للجماعة من هذا السلوك السلبي يتمثل في تصعيد الأزمة السياسية مع الحكومة، خاصة أن الأردن شهد خلال العامين 2011–2012 بعض الاحتجاجات والمسيرات.
ويظهر أن الأزمة كانت تسير في سياق من التصعيد، قبل أن تصل ذروة أزمتها في العام 2011، حيث تبين للدولة نوايا الإخوان الحقيقية والخفية، ومدى ارتباطها في جماعات الإخوان المسلمين الفرعية المنتشرة في المنطقة، فلم تستطع الجماعة في الأردن من كبح رغباتها في تكرار الأحداث المُتعاقبة في مصر وتونس وغيرها، عندما خططت الجماعة للوصول إلى السلطة، وتناسب خطاب الجماعة في الأردن مع ذلك.
ففي الفترة ذاتها رفضت الجماعة دعوات الحكومة وحسن نيتها بإعطاءها دوراً سياسياً بالتنسيق مع وزارة الداخلية لضبط الشارع الأردني خلال أحداث ما يعرف بــ"الربيع العربي"، كما رفضت الحوار أو المشاركة بستة وزراء في حكومة معروف البخيت؛ قائلة على لسان القيادي المعروف في الجماعة همام سعيد بأنّ "الدولة أصبحت خلف المشهد".
ورغم ادعاء مصادر قيادية في جماعة الإخوان المسلمين الأردنية أن مجلس شورى الجماعة فضل في اجتماعه بتاريخ 25 نوفمبر 2012 استخدام شعار "الإصلاح"، إلا أنه من المعروف للمهتمين بشؤون جماعات الإسلام السياسي بأن مناورة الشعارات المطالبة بها الجماعة، من السياسات المتبعة لديها لتحقيق أهداف وأجندات أوسع، ومما يؤكد ذلك قيام الأجهزة الأمنية الأردنية برصد شبان جماعة الإخوان المسلمين وهم يشاركون في ترديد شعارات مناوئة للدولة، إلى جانب المئات من الشبان في العاصمة عمان ومدن أخرى بعد قرار رفع أسعار المحروقات يوم 13 نوفمبر 2012، واستمر ترديد الشعار حتى الـ17 من الشهر نفسه، وما سبق ذلك من صدور فتوى عن لجنة علماء الشريعة في حزب جبهة العمل الإسلامي -الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين الأردنية- بتاريخ 20 فبراير 2011 " أن التظاهر ضد الظلم واجب شرعاً".
ولم تكتف جماعة الإخوان المسلمين في الأردن بتلك الأدوار السلبية تجاه الدولة، بل قامت بزيادة وتيرة التصعيد والمشاركة بقوة في توجيه "الحراك الشعبي الأردني" وغيره من الحراكات، وارتفعت نبرة التحريض في خطابات الجماعة في مختلف المنابر، حتى بدأت بالتأثير على العلاقات الأردنية الخارجية، وحينها ردت الدولة باعتقال نائب المراقب العام للجماعة زكي بني ارشيد في العام 2014 بسبب الإساءة لدولة الإمارات العربية المتحدة عبر منشوراته في مواقع التواصل الاجتماعي.
وفي هذا الإطار من المهم الإشارة إلى موقف القيادي السابق في جماعة الإخوان المسلمين في الأردن الدكتور بسام العموش، والذي حمّل قيادة الإخوان مسؤولية تردي العلاقات مع الدولة نتيجة لافتقاد تلك القيادة للرؤية السياسية، ومحاولتها لنقل تجربة الإخوان المسلمين في مصر بعد العام 2011 إلى الأردن.
وهكذا؛ وصلت القطيعة بين الدولة وجماعة الإخوان ذروتها في 16 يوليو 2020 عندما أصدرت محكمة التمييز، أعلى هيئة قضائية في الأردن، حكما بحلّ جماعة "الإخوان المسلمون" وذلك "لعدم قيامها بتصويب أوضاعها القانونية"، وهو ما يمكن اعتباره إعلاناً رسمياً للقطيعة السياسية ما بين الدولة والإخوان.
الخاتمة
تعيش جماعة الإخوان المسلمين في الأردن اليوم أصعب حالاتها منذ تأسيسها عام 1946 بفعل سياساتها المتسرعة وغير المتوازنة وانشقاقاتها الداخلية، ويأتي هذا التدهور بالتوازي مع ما تمر به "جماعة الإخوان المسلمين" الأم من خلال ما يعرف بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين بسبب سقوط فروع الجماعة عبر الصندوق أو بمطالبة الجماهير كما حدث في مصر والمغرب وتونس.
في الحالة الأردنية، وبالرغم من انتهاج الحكومة مقاربة مختلفة عن تلك التي اتبعتها الكثير من الحكومات العربية الأخرى مع جماعة الإخوان المسلمين، فإنّ الجماعة تواجه نقطة تحول كبيرة في مسارها، ومفصل مفتوح على كل الاحتمالات، خاصة بعد توسع الخلافات الداخلية وانشقاقات عدداً من رموزها وهو ما أضعف من قوة الجماعة ومستوى تأثيرها.
*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: