تعدّ علاقات الأردنّ مع الاتحاد الأوروبي امتداداً لمسار تطور السياسة الخارجية الأردنية القائمة على احترام المصالح والقيم المسيّرة للنظام الدولي طوال المئوية الأولى من عمر المملكة. فتاريخياً راهن الأردنّ على المحور الغربي كرصيد استراتيجي واجه به الضغوط الإقليمية والتحديات المحلية، في المقابل ثمّن هذا المحور الدور الأردني في صيانة السلم والأمن الإقليميين، وفي خفض تصعيد الأزمات المتناسلة في الشرق الأوسط.
وانطلاقاً من الرؤية المتقاربة تجاه القضايا الإقليمية والدولية، تكثر اللقاءات عالية المستوى بين الأردن والدول الأوروبية، سواءً بصورة ثنائية أو عبر الاتحاد الأوروبي، ويغلب على هذه اللقاءات أنها تتم مع الدول الأوروبية الرئيسية: بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا بصفتها مقر المؤسسات المؤثرة للاتحاد الأوروبي، وتنحصر القضايا التي يتم بحثها في الإطار السياسي والأمني والاقتصادي.
وفي الجولة الملكية أواخر أكتوبر إلى أوروبا، يمكن ملاحظة وجود عنصرين غير معتاد وجودهما في العلاقات الأردنية الأوروبية، وهذان العنصران هما:
1- امتداد العلاقات الأردنية الأوروبية نحو أوروبا الشرقية والوسطى، حيث استهل جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين جولته الأوروبية بزيارة النمسا ومن ثم بولندا.
2- توسيع المجالات التي تنخرط فيها الدبلوماسية الأردنية، والمشاركة في النقاش الدولي الهادف للسيطرة على التغير المناخي.
وفي القراءة التحليلية الموجزة التالية سيتم تسليط الضوء على هذين العنصرين.
نحو أوروبا الشرقية والوسطى
يرى بعض المراقبين أنّ من إشكاليات علاقات الأردنّ مع الدول الأوروبية الرئيسية أنها غير متكافئة، أي أنها أحادية الاتجاه، وتميل معها الكفة لصالح هذه الدول بصورة واضحة. وحالة عدم التكافؤ هذه تنبع بصورة رئيسية من قوة اقتصاد تلك الدول ومتانة هياكلها الإدارية.
إلا أنه بالانتقال إلى أوروبا الشرقية يمكن افتراض وجود تكافؤ نسبي بين الأردن وهذه الدول، حيث تقل التباينات الاقتصادية والإدارية مما يشكل عاملاً دافعاً لإحراز تقدم في العلاقات البينية التي تربطها مع عمان، فنظرياً تميل الدول إلى إيجاد مجالات للتعاون عندما تتحرر من علاقة "المركز – الأطراف" والتي تمتلك فيها دولة ما عناصر القوة أكثر من الدولة الأخرى.
كما أن دول أوروبا الشرقية والوسطى "Central and Eastern European Countries CEECs" تعد كتلة تصويتية وازنة في الاتحاد الأوروبي، إذ يبلغ عددها 12 دولة مما مجموعه 27 دولة تشكّل التكتل الإقليمي الأكبر في العالم. ولأنّ القرارات في مؤسسات الاتحاد تؤخذ بصورة توافقية فإنّ هنالك مصلحة أردنية عليا في فتح قنوات التنسيق والتفاهم مع معظم الدول الأعضاء، وعرض وجهة النظر الأردنية في القضايا قيد النقاش في الاتحاد، كالموقف من القضية الفلسطينية، وسبل تنسيق الجهود الأوروبية لمكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط، ودعم اللاجئين في الدول المستضيفة، فالأردن هو أكبر دولة تضم لاجئين نسبةً لعدد السكان في العالم، وفق تصريحات رسمية.
ومنذ انتهاء الحرب الباردة وانضمام عدد من دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي وميلها إلى تبني سياسة خارجية متقاربة مع الدول الغربية؛ أخذت العلاقات الأردنية مع هذا الدول في النمو، إلا أنها لا تزال بعيدة عن أن توصف بالشراكة الوطيدة، فهي محصورة في التبادل الاقتصادي والثقافي متوسط النطاق.
وتعد رومانيا إحدى دول أوروبا الشرقية التي تتنامى أوجه تعاونها مع الأردن، ولربما يعزى السبب إلى دراسة عدد كبير من الأردنيين في جامعات هذه الدولة، مما أوجد روابط ثقافية وأكاديمية تم تعزيزها في الجانب الرسمي.
وبلغ التبادل التجاري بين الأردن ورومانيا عام 2019 قرابة 436 مليون دولار، حيث يعتمد الأردن على الصادرات الرومانية في تلبية جزء من احتياجاته من القمح واللحوم، إذ بلغت قيمة هذه الصادرات (268، 105) مليون دولار على الترتيب.
بالطبع لا يمكن لعمان التوسع في علاقاتها الأوروبية دون مواجهة عقبات سياسية، حيث تعدّ بعض دول أوروبا الشرقية ساحة لنزاع غربي روسي، كأوكرانيا التي لا تزال أزمتها دون تسوية منذ انضمام شبه جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي في مارس 2014، كما أن بولندا ودول البلطيق (استونيا وليتوانيا ولاتفيا) تشهد أيضاً مظاهر للتنافس الدولي الدائر بين الغرب وروسيا، وتتجلى مظاهره في زيادة الانتشار العسكري الأمريكي في هذه الدول الواقعة في المجال الحيوي الروسي، وعقد الاتفاقيات الاقتصادية التي ترسخ من النفوذ الأمريكي في هذه البلدان.
بالإضافة إلى النزاع الغربي الروسي، ثمة توتر أوروبي أمريكي كامن حول بعض القضايا، كاختلاف المنظور الأمريكي والأوروبي في التعامل مع الصعود الصيني والروسي على الساحة الدولية، وانخفاض الإنفاق الأوروبي العسكري، وأزمة إيرباص–بوينغ، ورغبة دول أوروبية بفرض ضرائب محلية على عوائد شركات التقنية الأمريكية المتأتية من نشاطها في الدول الأوروبية، ومؤخراً انضم تحالف "AUKUS" الجامع بين أمريكا وبريطانيا وأستراليا إلى قائمة القضايا الخلافية عبر ضفتي الأطلسي.
وقد كانت لندن إحدى المحطات الرئيسية في الجولة الملكية، حيث التقى جلالة الملك عبد الله الثاني رئيسَ الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، ولم يحمل اللقاء ما هو جديد من حيث التصريحات والبروتوكولات، ولكنّه يأتي في وقتٍ تحاول فيه بريطانيا تعويضَ النقص الاستراتيجي جرّاء انسحابها من الاتحاد الأوروبي، وقد أقرت لندن استراتيجية "بريطانيا العالمية – Great Britain" لرسم تفاعلاتها الخارجية في مرحلة ما بعد البريكست ولتحديد الإطار العام لأهداف ووسائل هذه التفاعلات التي ستكون موجّهة إلى خارج القارة الأوروبية في الدرجة الأولى.
ويتعين على عمّان حجز موقع مهم للأردن في استراتيجية "بريطانيا العالمية"، فالعلاقات الأردنية البريطانية مدعّمة بالأسس التي يمكن البناء عليها لتنسجم مع التطلعات البريطانية في الشرق الأوسط، وبما يعود بالنفع على كلا الدولتين.
دبلوماسية المناخ الأردنية
لم تكن الزيارة الملكية الأوروبية مخصصة في الدرجة الأولى للقاء جونسون، وإنما للمشاركة في قمة المناخ العالمي "COP26" التي تعقد في مدينة غلاسكو الأسكتلندية، وقد تزامنت هذه القمة مع قمة شرق أوسطية حول المناخ انعقدت في الرياض وناب فيها ولي العهد، الأمير الحسين، عن جلالة الملك عبد الله الثاني.
وتأتي هذه الجهود الدولية لتعطي الزخم لاتفاق باريس للمناخ الذي صادق عليه في 22 أبريل 2016 أكبر عدد من الدول التي تنضم لاتفاقية في يوم واحد بتوقيع 175 قائد عالمي. ويتمثل التحدي الأبرز أمام العالم في السيطرة على معدل ارتفاع الحرارة العالمي لهذا القرن في نطاق (1.5-2) درجة مئوية مقارنةً بالمعدل الحراري ما قبل الثورة الصناعية. ولا يُمكن تحقيق مثل هكذا هدف عالمي ما لم تتضافر جهود الدول كافة - لا سيما الصناعية منها - في تطبيق ما جاء في الاتفاقيات.
ويرى خبراء المناخ أن الانبعاثات الكربونية الناجمة عن المشتقات النفطية تؤدي الدور الأكثر إخلالاً في التوازن البيئي، ولذلك تعهدت بعض الدول بالوصول إلى الحياد الكربوني (أي صفر انبعاثات كربونية) كالسعودية التي أعلنت في القمة المشار إليها أعلاه توجهها لتحقيق هذا الهدف بحلول عام 2060.
ويمكن ملاحظة نشاط دبلوماسي أردني على صعيد "الدبلوماسية البيئية" الناشئة للحد من سرعة التغير المناخي عبر خفض انبعاثات الكربون، ولذلك أُصدرت القوانين والتعليمات في الأردن لتتواءم معايير البلاد مع الالتزامات والتعهدات الدولية في هذا الصدد.
وقد يظن البعض أن "الدبلوماسية البيئية" مجرد علاقات عامة دولية منخفضة الأهمية، ولكن يعد هذا الميدان ساحة لجدال دولي يجري تنظيمه عبر الاتفاقيات الملزمة، أي أنها اتفاقيات تتعهد الدولة المنضمّة إليها بتطبيق بنودها، وفي حال تم الإخلال في هذا التطبيق يمكن مساءلة الدولة قانونياً. وحتى لو لم يتم مساءلة الدول غير الملتزمة بيئياً، فإنها ستكون فيما يمكن وصفه بـ"قائمة سوداء" بيئية، مما يقوّض سمعة الدولة ويخلخل من مكانتها كشريك يفي بواجباته الإنسانية.
ما يهم الأردن في "الدبلوماسية البيئية" هو انعكاسات التغير المناخي على منطقة بلاد الشام، وقدرته على إثبات تضرره بشدة من هذا التغير رغم أنه لا يساهم سوى بـ " 0.04٪ " من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، وفق مقال نشرته مجلة "Project Syndicate" في نوفمبر 2021 لرئيس الوزراء الأردني الأسبق، عمر الرزاز.
وبالتالي يمكن لعمّان تحسين موقعها التفاوضي فيما سيُقر من دعم دولي للدول النامية لتحقيق الأهداف البيئية العالمية. وقبيل انطلاق قمة غلاسكو، تعهد قادة مجموعة العشرين من روما بتقديم 100 مليار دولار سنوياً كمنح وقروض – عبر صندوق النقد الدولي - لتمويل مواجهة البلدان النامية للاحتباس الحراري، ابتداءً من 2023.
ووفق برنامج أولويات الحكومة الأردنية الاقتصادية (2021 – 2023) تم الإعلان عن مشاريع صديقة للبيئة، كزيادة الاعتماد على الطاقة النظيفة، والمشروع الاستراتيجي لتحلية مياه بحر العقبة الذي أصبح أولوية قصوى في ضوء تكرر المواسم شبه الجافة وزيادة الطلب على المياه بحكم الزيادة السكانية الطبيعية وغير الطبيعة الناجمة عن موجات اللجوء المتعددة التي استقبلها الأردن، وآخرها اللجوء السوري.
ولطالما تحركت الدبلوماسية الأردنية في إطار من المبادئ والقيم الإنسانية، والتي لا تعد ترفاً عاطفياً وإنما ضرورة تمليها محددات السياسة الخارجية الأردنية ولا يمكن فصلها عن المصالح الأردنية العليا في صناعة دور إقليمي ودولي يمكّنها من تلبية احتياجاتها المحلية والتزاماتها الخارجية.
وهذا الأمر يتطلب تنويع أوجه الدبلوماسية الأردنية وعدم الاكتفاء بالمجالات التقليدية القائمة على الأمن والسياسة والاقتصاد، فالتحديات المستجدة أوجبت بروز أوجه جديدة من التعاون الدولي لا يمكن إهمالها، كدبلوماسية كوفيد، ودبلوماسية البيئة.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: