أصبح الدور الذي تقوم المؤسسة العسكرية الإسرائيلية منذ عقود في عملية صنع القرار الإسرائيلي، عُرضة للتراجع، بعد الجدل المُرافق للخلافات بين الجيش والحكومة الإسرائيلية، وظهور تلك الخلافات للعلن في العديد من مواقف الطرفين تجاه المعطيات الداخلية والخارجية، وتحديداً منذ تشكيل حكومة الائتلاف اليميني، وتصميمها على الدفع بخطة الإصلاحات القضائية وقانون التجنيد. وهو ما يستدعي التوقف عنده بالتحليل واستقراء تأثيراته المستقبلية.
قضايا الخلاف
برزت أوجه الخلاف بين المؤسسة العسكرية والحكومة الإسرائيلية، في العديد من القضايا التي احتلت مساحة واسعة لدى الرأي العام الإسرائيلي وفي مقدمتها خطة الإصلاحات القضائية، والتي ترافقت مع تباين المقاربات بين الطرفين بشأن طبيعة الاستجابة للبيئة الأمنية المتغيرة في الضفة الغربية، فضلاً عن الخلافات داخل المؤسسة الواحدة كما في حالة وزارة الأمن القومي والخلافات التي تدور فيها بين الوزير إيتمار بن غفير، وقادة الأجهزة الأمنية.
مع ذلك؛ فإن هذه الخلافات تحمل مخاطر التصعيد بين أطرافها، إذ لم تشهد إسرائيل توتراً بهذا الحجم في العلاقات بين المؤسسة العسكرية والحكومة منذ حرب عام 1967، بشأن تفضيل الجيش حينذاك توجيه ضربة استباقية للجيشين المصري والسوري، بينما مانع المستوى السياسي ذلك.
أبرز القضايا الخلافية الراهنة:
أولاً: الخلافات المتعددة بين وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، والأجهزة الأمنية والشرطية الإسرائيلية، ومنها:
1- الخلاف حول قرار بن غفير تشكيل "الحرس القومي" التابع لوزارة الأمن القومي ومصادقة الحكومة على تشكيله، والذي أبدى بشأنه وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت معارضة شديدة، معتبراً أنه "سيخلق صعوبات كبيرة ويشتت المنظومة الأمنية بأكملها"، في نفس الوقت الذي أعرب فيه خبراء أمنيون في الأجهزة الأمنية والجيش الإسرائيلي خلال مقابلتهم للجنة الاستشارية المشكلة لذلك الغرض، أنّ قرار تشكيل ذلك الحرس هو "كارثة أمنية".
2- الخلاف فيما يتعلق بقرارات بن غفير حول تشديد الإجراءات بحق الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، والتي دعا مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، الحكومة الإسرائيلية لعدم الأخذ بها، في نفس الوقت الذي حذرت فيه الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من تداعيات تلك الإجراءات المستقبلية، في ظل رفض "مصلحة السجون" الإسرائيلية لها باعتبارها إجراءات "غير مسؤولة".
3- انعكاسات أزمة الإصلاحات القضائية على العلاقة بين بن غفير والمفتش العام للشرطة الإسرائيلية يعقوب شبتاي، والذي صرح في 16 أغسطس 2023 أنّ "الشرطة تنصاع للقانون فقط وليس لقرارات الحكومة"، وهو تصريح نقل الخلاف بين بن غفير وشبتاي إلى العلن، ويزيد من احتمالات قيام قادة الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية الإسرائيلية باتخاذ موقف مماثل لموقف الشرطة بالامتثال للقانون وليس لقرارات الحكومة.
ثانياً: الخلاف بين زير المالية والوزير في وزارة الدفاع الإسرائيلية بتسلئيل سموتريتش، والجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، فيما يتعلق بممارسات المستوطنين في الضفة الغربية، حيث اتهمت أجهزة الأمن الحكومة الإسرائيلية بمنعها من التعامل مع عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، والذي يُمارس "بتشجيع من وزراء وأعضاء كنيست من أحزاب الائتلاف" وهو الاتهام الذي رد عليه سموتريتش وبن غفير في بيان مشترك بمهاجمة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية والدفاع عن ممارسات المستوطنين في الضفة الغربية.
ثالثاً: انعكاسات أزمة الإصلاحات القضائية التي تقودها الحكومة الإسرائيلية على المؤسسة الأمنية والعسكرية، خاصة من ناحية ارتفاع أعداد الرافضين للخدمة من قوات الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، وامتداد حالة الرفض إلى طياري سلاح الجو ووحدات القوات الخاصة، وهو الأمر الذي دفع وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت إلى القول إنّ الاحتجاجات ضد الإصلاحات القضائية قد "مسّت بالمَنعة القومية، وإن من شأن ذلك أن يشكل تهديداً على الأمن القومي الإسرائيلي".
رابعاً: تأثيرات مشاريع القوانين الجديدة التي تقدمها الحكومة الإسرائيلية، استجابة لمطالب أحزاب اليمين الصهيوني في الائتلاف الحكومي، وآخرها قانون التجنيد الهادف إلى إعفاء المتدينين "الحريديم" من الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، من خلال خفض سن تجنيدهم إلى 21 عامًا، والسماح لهم بالدراسة في المعاهد التوراتية حتى سن الإعفاء من الجندية، وهو القانون الذي يُخشى أن يرفع من أعداد الرافضين للخدمة من قوات الاحتياط، وامتداد الظاهرة إلى الجنود في الجيش النظامي.
تأثيرات وتداعيات
تأثيرات الخلاف بين المؤسسة العسكرية والحكومة في إسرائيل وتداعياته ليست معزولة عن جملة التحولات التي شهدتها إسرائيل بعد انتخابات الكنيست الخامسة والعشرين، وتشكيل الائتلاف الحكومي اليميني، وصعود أحزاب "الصهيونية الدينية"، وفي هذا السياق يمكن التوقف عند بعض التأثيرات والتداعيات المتوقعة لذلك الخلاف، من حيث:
أولاً: من الناحية المعنوية (النفسية والاجتماعية) تأثرت صورة الجيش بوصفه البوتقة الجامعة لصهر كافة المكونات في المجتمع الإسرائيلي، فبعد عقود طويلة من مكانة الجيش في الوجدان الإسرائيلي، أصبح عُرضة للجدل وللتعبير عن الانقسام الداخلي، والذي يتجسد في اتساع ظاهرة رفض الخدمة في العديد من القطاعات العسكرية والأمنية الإسرائيلية كممارسة احتجاجية.
ثانياً: من الناحية الإجرائية يشكل إقرار الكنيست لقانون "المعقولية" في يوليو 2023 تهديداً لاستقلالية الجيش ومكانته المتجاوزة للخلافات السياسية والحزبية، حيث رسخ القانون هيمنة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، وقلّص صلاحيات المحكمة العليا، وأظهر تقدّم الاعتبارات الحزبية، على غيرها من الاعتبارات العامة. ونجد ذلك في تعليق ألون بن ديفيد المحلل في صحيفة "معاريف" العبرية والذي قال: "بعد 75 سنة من تأسيس الجيش الإسرائيلي أُجيز التشريع الذي سيسجل بداية لتفكيك الجيش".
ثالثاً: تراجع مكانة الجيش الإسرائيلي في المجتمع يعني تراجع الحالة العلمانية التي يمثلها الجيش لصالح الحالة الدينية المتشددة اجتماعياً، والمتطرفة سياسياً، وبالتالي التأثير على صورة إسرائيل في العالم بشكل عام، وفي الغرب بشكل خاص، وهي الصورة التي دأبت إسرائيل على رسمها والترويج لها منذ لحظات تأسيسها الأولى بوصفها "الديمقراطية" الوحيدة في الشرق الأوسط.
رابعاً: اهتزاز صورة الجيش الإسرائيلي في الإقليم سيتم توظيفه من قبل إيران وحزب الله وحركة حماس، والتي ترى فيه "تآكلاً" في قوة الردع الإسرائيلية، وبالتالي استغلال ذلك في محاولات تغيير قواعد اللعب، معنوياً وميدانياً، كما حصل في حادثة نصب حزب الله للخيم في مزارع شبعا في الجنوب اللبناني، وهو الأمر الذي حذرت منه شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي "أمان" في رسالة مباشرة لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في يوليو 2023؛ أشارت فيها أنّ أعداء إسرائيل "يدركون فرصة تاريخية لتغيير الوضع الاستراتيجي في المنطقة بعد الأزمة الهائلة في إسرائيل، والتي لم يروها من قبل".
وأخيراً؛ رغم أنّ الخلاف بين المؤسسة العسكرية والحكومة الإسرائيلية لا يرقى لدرجة التناقض الرئيسي، ولا يشكل تهديداً بالمعنى الاستراتيجي لإسرائيل، إلا أنه لا يمكن التقليل من شأنه في المرحلة الحالية، أو تداعياته المستقبلية في المدى البعيد، خاصة في حالة استمرار أزمة الانقسام العمودي في المجتمع الإسرائيلي والتي أظهرتها قضية الإصلاحات القضائية، وما قد يأتي بعدها في ظل تزايد نفوذ اليمين الصهيوني في الدولة والمجتمع الإسرائيليين. بالإضافة إلى أن إدارة الخلاف بين المؤسسة العسكرية والحكومة في العلن، تُعد سابقة في تاريخ إسرائيل، وهي دلالة على عمق الأزمة وقابليتها للاستمرار، ومن أبرز تداعياتها أن الجيش أصبح طرفاً في أزمات داخلية، وفي قضايا تشغل الرأي العام، بعد أن كان محل اتفاق الجميع ومركز إجماعهم، وهي مؤشرات تعني دخول إسرائيل (الدولة والجيش والمجتمع) في مرحلة جديدة مختلفة عن سابقاتها.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: