منذ 18 سبتمبر 2022 تشهد عدد من المدن الإيرانية احتجاجات شعبية إثر مقتل الشابة الإيرانية مهسا أميني (22 عامًا)، بعد احتجازها على أيدي "شرطة الأخلاق" بحجة عدم التزامها بقواعد اللباس الديني فيما يتعلق بالحجاب.
وقد أدت هذه الاحتجاجات إلى مقتل وإصابة العشرات على أيدي قوات الأمن، التي تبنت سياسة متشددة في التعامل مع المتظاهرين، مما جلب لطهران انتقادات دولية سواء من قبل الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية أو من قبل المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان وبشكل خاص تلك المعنية بحقوق النساء.
إن ما تشهده إيران من احتجاجات، تطرح العديد من الأسئلة الهامة؛ منها: ما حدود تأثيرها على النظام في طهران؟ وهل ستكون مختلفة هذه المرة مقارنة بالاحتجاجات السابقة التي عرفتها البلاد؟ وما هي حدود دعم الخارج لها وكيف يؤثر ذلك الدعم على مساراتها؟
التوقيت وعوامل التأثير
تأتي الاحتجاجات في توقيت صعب بالنسبة إلى إيران، فعلى المستوى الخارجي؛ تخوض مفاوضات صعبة ومعقدة بشأن إحياء الاتفاق النووي الموقع في 2015؛ دخلت مرحلة مصيرية أو مرحلة "عض الأصابع"، ومن ثم فإن هذه الاحتجاجات تضعف من موقف النظام الإيراني خاصة إذا ما ارتفعت وتيرة الاحتجاج في الفترة المقبلة وبصورة قد تُعزز من الانقسامات الداخلية بشأنها. إضافة إلى تزامن الاحتجاجات مع المواجهة غير المباشرة بين طهران وتل أبيب، والتي وصلت أصداؤها للأراضي الإيرانية، ومن شأن استمرار الاحتجاج أن يُوفر الفرص لتل أبيب بالتدخل في الساحة الداخلية لإيران، أو قد تضعف رقابة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الإيرانية بشكل نشهد معه هجمات سرية ضد منشآت عسكرية أو نووية قد يكون مصدرها أطراف خارجية.
وداخلياً؛ تأتي الاحتجاجات في ظل تواتر التقارير حول مرض المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وتلك الاحتجاجات تؤثر بطريقة أو بأخرى على الجدل والصراع داخل أروقة النظام بشأن تسمية خليفة للمُرشد، وبذلك قد تخلف الاحتجاجات آثاراً على مستوى التماسك داخل النظام خاصة إذا ما أصبح غياب المُرشد عن الساحة السياسية ملحوظاً بشكل كبير.
وإقليمياً؛ تواجه إيران أزمة كبيرة فيما يتعلق بنفوذها في العراق ولبنان في ظل الخلافات القوية بين القوى الشيعية على الساحة العراقية، والازمة السياسية الكبيرة التي يعاني منها لبنان ويتم تحميل "حزب الله"، الحليف الرئيس لطهران في لبنان والمنطقة، المسؤولية عنها.
والأهم، أن هذه الاحتجاجات تأتي في ظل أوضاع اقتصادية ومعيشية صعبة يعاني منها الشعب الإيراني لأسباب كثيرة، ما يعني أن الساحة الإيرانية مهيأة لأي مظاهرات أو احتجاجات شعبية. وفي هذا السياق فإن معارضي النظام الإيراني في الداخل والخارج يراهنون على أن مثل هذه الاحتجاجات يمكن أن تكون الشرارة التي تفجر الوضع برمته ومن ثم تطيح بالنظام أو على الأقل تدفعه إلى تغيير توجهاته الداخلية والخارجية بشكل جوهري.
محدودية الأثر (العوامل والأبعاد)
على الرغم من الاعتبارات السابقة، فإن هناك الكثير من العوامل التي تدفع إلى القول بأن مصير هذه الاحتجاجات ربما لن يختلف عن الاحتجاجات السابقة، بمعنى إنها سوف تنتهي دون تأثير كبير على النظام الذي سيستطيع السيطرة عليها مهما كانت الخسائر، وأهم هذه العوامل:
أولاً: المُقاربة الخشنة
ثمة سوابق لمظاهرات شعبية أكثر قوة وحدة شهدتها إيران خلال السنوات الماضية لكنها لم تنجح في تغيير النظام أو تنال من طابعه المتشدد، ومنها مظاهرات عام 2009 التي اندلعت احتجاجا على فوز الرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد بولاية رئاسية ثانية؛ حيث وجهت اتهامات للنظام بالتزوير ومن ثم عمت الاحتجاجات البلاد فيما أطلق عليه اسم "الحركة الخضراء"، لكن النظام نجح في إخمادها على الرغم من تجاوزتها للكثير من الخطوط الحمراء في النقد بما في ذلك المرشد علي خامنئي.
والمصير نفسه لقيته كذلك مظاهرات 2017-2018 التي اندلعت احتجاجا على غلاء المعيشة والأوضاع الاقتصادية الصعبة في البلاد.
وهناك أيضاً احتجاجات عام 2019 التي عرفت باسم احتجاجات الوقود؛ ذلك أنها اندلعت احتجاجا على ارتفاع أسعار الوقود، وعمت كل المدن الإيرانية تقريباً واتسمت بالشدة الكبيرة والزخم الكبير، قطعت أثناءها السلطات الإنترنت، واستطاعت أن تضبطها باستخدام القوة الخشنة ضد المحتجين.
وهذا يعني أن النظام الإيراني لديه خبرة في التعامل مع مثل هذه الاحتجاجات مهما كانت شدتها، كما لديه سوابق في إخمادها، ما يجعله مستعداً للتعامل مع الاحتجاجات الحالية بالمقاربة ذاتها، خاصة أنها تبدو، حتى الآن، أقل زخماً من سابقاتها.
ثانياً: البعد الديني
ثمة بعد ديني مهم في هذه الاحتجاجات، حيث كان الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، قد وجه في يونيو 2022 بإجراء التنسيق اللازم بين الهيئات والمؤسّسات الثقافية والتنفيذية لتنفيذ قرار البرلمان وقرار المجلس الأعلى للثورة الثقافية لعام 2005 بشأن الحجاب والعفة. وهذا يضع القضية في سياق مختلف عن سياقات الاحتجاجات السابقة؛ حيث يروج النظام لفكرة أن الذين يقفوا وراء الاحتجاجات يعارضون المبادئ الأخلاقية الدينية للدولة، وأن الأمر لا يتعلق بحقوق المرأة وإنما يتم اتخاذ هذا الشعار وسيلة للإضرار بالنظام من قبل "الأعداء" وفق الخطاب الرسمي والإعلامي الإيراني. وهذا الخطاب يلقى قبولا من قبل التيارات المحافظة والدينية.
فضلاً عن ذلك فإن القوات المنوط بها مواجهة هذه الاحتجاجات سواء من "الباسيج" أو "الحرس الثوري" هي قوات مؤدلجة؛ بمعنى أنها مستعدة لعمل أي شيء دفاعاً عن النظام، لأن هذه القوات تنظر إلى أي حركة احتجاج ضد النظام على إنها "مؤامرة خارجية" من قبل أطراف معادية، وهو ما يظهر في اعتماد المقاربة الخشنة في التعامل مع الاحتجاجات الشعبية.
ورغم حديث السلطات الإيرانية عن فتح تحقيق في مقتل الشابة الإيرانية داخل الاحتجاز، فقد أبدى في الوقت نفسه تشددا في منع الاحتجاجات، حيث حذرت قيادة الشرطة الإيرانية من أن وحداتها ستواجه "بكل قوتها" المتظاهرين قائلة: "اليوم يسعى أعداء جمهورية إيران الإسلامية وبعض مثيري الشغب إلى العبث بالنظام العام وأمن الأمة باستخدام ذرائع مختلفة".
هذا الوضع يجعل تكلفة الاحتجاجات بالنسبة إلى المحتجين عالية جداً بحيث لا يمكن تحملها مع مرور الوقت، ومن ثم تتراجع تدريجياً كما حدث في الاحتجاجات السابقة.
ثالثاً: احتجاجات للنساء
مقارنة بالاحتجاجات السابقة التي عرفتها إيران، تبدو الحالية وكانها مظاهرات للنساء؛ بالنظر إلى سيطرة العنصر النسائي عليها، خاصة أن الأمر يتعلق بقضية نسائية وهي "الحجاب". وهذا بلا شك يقلل من قوة وتأثير هذه الاحتجاجات مقارنة بالاحتجاجات السابقة التي كانت تشمل معظم فئات الشعب وليس فئة بذاتها.
فضلاً عن ذلك، فإن القضية هذه المرة، لا تتعلق بمسائل معيشية تتصل بحياة الناس مثل ارتفاع الأسعار أو الوضع الاقتصادي الصعب أو الفساد أو غيرها، ولكن بقضية الحريات وخاصة حرية اللباس، وهذا يضعها في نطاق ضيق من ناحية، ويتيح للنظام أن يحاصرها ويصورها على أنها احتجاجات "ليبرالية" مدعومة من قبل الغرب وتقوم بها تيارات "ذات توجهات غربية".
رابعاً: غياب القيادة
على عكس مظاهرات "الحركة الخضراء" في 2009 التي كانت لها قيادات واضحة وظاهرة ومعروفة مثل مير حسين موسوي، ومحمد خاتمي، ومهدي كروبي، فإن الاحتجاجات على مقتل الشابة الإيرانية مهسا أميني، بدون قيادة أو بدون رأس كما يُقال في وصف الاحتجاجات من هذا النوع. وهذا يُشكل نقطة ضعف لها، لأن غياب القيادة يؤثر على تماسك المحتجين، كما يؤثر على طبيعة الدعم الدولي لها.
خامساً: غياب الدعم الخارجي
على الرغم من بيانات الدعم التي صدرت من العواصم الغربية وخاصة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، للمحتجين في إيران، فإن الدعم الخارجي لهذه الاحتجاجات خافت وغير مؤثر ولا يتجاوز البيانات اللفظية. ويبدو أن النظام الإيراني والمحتجون على حد سواء يعرفون حدود الدعم الغربي، ما يشجع السلطات على ممارسة المزيد من الشدة في مواجهة المحتجين، وفي الوقت ذاته يصيب المحتجين باليأس ما يدفعهم إلى التراجع مع مرور الوقت.
وهذا الموقف تكرر مع كل المظاهرات التي شهدتها إيران خلال السنوات الماضية؛ حيث لم يتجاوز الدعم الغربي، وخاصة الأمريكي، حدود الدعم اللفظي حتى في ظل رئاسة دونالد ترامب الذي تبنى أكثر السياسات تشدداً تجاه إيران خلال العقود الأخيرة.
وثمة اعتبار آخر يقلل من أهمية الدعم الخارجي للاحتجاجات الإيرانية وهو أن العالم وخاصة الولايات المتحدة مشغول في الأزمة الأوكرانية وتداعياتها الخطيرة على كافة المستويات. وهذا يترك للنظام الإيراني حيزاً واسعاً لاستخدام مختلف أدواته في مواجهة أي احتجاجات دون القلق من المواقف الدولية.
وفي ضوء ما سبق؛ فإن الاحتجاجات على مقتل الشابة "مهسا أميني" لن تختلف، على الأرجح، من حيث التأثير والمآل، عن سابقاتها من الاحتجاجات التي شهدتها إيران خلال السنوات الماضية، وربما لن يتجاوز ما ستحققه هذه الاحتجاجات بعض التعديلات على طريقة عمل "شرطة الأخلاق" خاصة بعد الانتقادات التي خرجت من داخل النظام نفسه لها ولأسلوب عملها، ومن ذلك ما طالبت به "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" التابعة للحكومة من "وقف اعتقال النساء اللواتي لا يرتدين الحجاب بشكل لائق أو يكشفن عن شعرهن لأن هذا قد يؤدي إلى تأجيج الأوضاع الداخلية"، والاكتفاء بإصدار "قانون يسمح بفرض غرامة مالية على هذه النساء"، كما طالب بعض النواب بمراجعة أسلوب عمل هذه الشرطة لأنها تسبب أضراراً كثيرة للبلاد.
*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: