بعد مواجهات أسفرت عن عشرات القتلى، يتصاعد التوتر الصيني الهندي إلى مستويات غير مسبوقة منذ عقود، إذ اعتُبِرت مواجهات وادي غالوان التي وقعت في 15 يونيو 2020 الحادثة الأولى التي خلّفت قتلى بين الطرفين منذ عام 1975. ووادي غالوان: هو جزء من منطقة لاداك المتنازع عليها على طول حدود جبال الهيمالايا، ويُعتبر موقعاً استراتيجياً يفصل إقليم أكساي تشين الصيني عن منطقة لاداك الهندية.
فقد أسفرت هذه المواجهات عن مقتل 20 جندياً وإصابة نحو 76 من الجانب الهندي، وفيما لم تقدم الصين أية معلومات بشأن حصيلتها من القتلى والإصابات، صرّحت وزارة الشؤون الخارجية الهندية عن أن هناك عدداً من القتلى والإصابات من كلا الجانبين؛ بعد هذا الاشتباك.
في غضون ذلك، تُلقي كلٌّ من الدولتين باللوم على الأخرى، حيث تُصّر الصين على اعتبار وادي غالوان منطقةً خاضعة لسيادتها، كما أفاد المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، تشاو ليجيان، أن: "وادي غالوان يقع على الجانب الصيني من خط السيطرة الفعلية، في القطاع الغربي من الحدود الصينية الهندية"، مشيراً إلى أن الخروقات الهندية للمنطقة - بعد أن عبرها جنود من الجانب الهندي - هي السبب في التصعيد الأخير، وهو الأمر الذي تنفيه الهند؛ وفقاً لما ذكره المتحدث باسم وزارة الخارجية الهندية، أنوراج سريفاستافا، بأن مزاعم الجانب الصيني "غير مقبولة"، مضيفاً أن الاشتباك كان نتيجة "محاولة الجانب الصيني تغيير الوضع القائم في المنطقة الحدودية؛ من جانب واحد".
لماذا تجدد التوتر بين الجانبين؟
لا يُعد التوتر الهندي الصيني الأول من نوعه على طول حدودهما المشتركة، إذ يسبقه تاريخ طويل من الأحداث والمناوشات والاشتباكات التي تخللتها حربٌ خاطفة عام 1962، بعد سيطرة الصين على أجزاء من ولاية أروناتشال براديش الهندية، وتبع تلك الحرب اشتباكات أوقعت قتلى من كلا الجانبين؛ كان آخرها في عام 1975.
وفي عام 2017، خضع وقف إطلاق النار في المنطقة الحدودية للاختبار، بعد أن تصاعدت التوترات إثر محاولة الصين بناء طريق جديد يمر عبر الأراضي المتنازع عليها، وأدت إلى مواجهات واشتباكات دون استخدام القوة النارية، ودامت مدة 73 يوماً حول هضبة دوكلام؛ وهي هضبة متنازع عليها، وتقع في نقطة تلاقي كل من: بوتان والصين والهند. وفي 5 و 9 مايو 2020، أفادت تقارير عن اشتباك جنود الدولتين في موقعين: الأول في بحيرة بانجونج تسو في منطقة لاداك الهندية، والثاني في منطقة ناكولا الموجودة في ولاية سيكيم الهندية.
ويُعزى السبب الرئيسي لموجات "المد والجزر" على الحدود الهندية الصينية إلى عدم التوصل لحل من شأنه أن يُنهي مشاكل الحدود المشتركة بين الدولتين؛ التي تُعد أطول حدود دولية "غير مرسَّمة" في العالم حيث يبلغ طولها 3500 كم، ومع استمرارية مسببات النزاع التاريخي حول أحقية السيادة على مناطق عدة من هذه الحدود؛ مثل: هضبة أروناتشال براديش (وهي منطقة حدودية، تقع على مفترق طرق بين كل من: الصين ومملكة بوتان وولاية سيكيم شمال شرق الهند)، وأكساي تشين (وهي منطقة متنازع عليها بين الطرفين، تقع غرب جبال الهيمالايا، وتخضع لإدارة الصين)، تطالب الصين بحوالي 90 ألف كم مربع من الأراضي الموجودة في شمال شرق الهند بما في ذلك أجزاء من هضبة أروناتشال براديش، بينما تعتبر الهند سيطرة الصين على 38 ألف كم مربع من أراضي أكساي تشين وجزء من منطقة لاداك احتلالاً، لذا فإن توقف الاشتباكات المحدودة بشكل نهائي بين الدولتين يعد أمراً مستبعداً.
وما يزيد القضية تعقيداً؛ هو أن الخط الحدودي الذي يفصل الصين عن الهند هو ذو ترسيم فضفاض و "غير نهائي"، ويُطلق عليه اسم "خط السيطرة الفعلي" (LAC – Line of Actual Control)، واعتُرف به في اتفاقية "حفظ السلام والهدوء" التي وُقعت بين الدولتين عام 1993.
ويواجه "خط السيطرة الفعلي" بين الدولتين إشكاليتين، إذ لم تحسم الاتفاقية النزاع، واحتفظت كل دولة بمطالبها الحدودية، إضافة إلى عدم اتفاق الدولتين على تعريف واضح لهذا الخط.
وفي كثير من الأحيان، لا تُترجم الاتفاقية إلى واقع فعلي على الأرض بسبب عدم وضوح الخط في مناطق عدة، ومن هنا تدور معظم المناوشات والمواجهات بسبب التقييمات المختلفة لموقع خط السيطرة الفعلي، وهو ما يلاحظه الجنرال الهندي المتقاعد، سينغ برار، في تعليقه لشبكة (سي أن أن) الإخبارية في تاريخ 18 يونيو 2020 من أنه: "على المستويين الاستراتيجي والعملياتي، مارس الجيشان ضبط النفس"، ومع ذلك يضيف: "على المستوى التكتيكي، تحدث المواجهات بسبب اختلاف التصورات لمكان الحدود الفعلية".
وتزيد الطبيعة المتغيرة للحدود من صعوبة تحديد خط السيطرة الفعلي، فوجود الأنهار والثلوج المتساقطة والانهيارات الصخرية التي تحدث في كثير من الأحيان، تجعل من المستحيل تحديد موقع الخط بشكل دقيق، وبالتالي تعتقد الدوريات الحدودية للبلدين أنهما على الجانب الخاص بأراضي كل منهما.
ما الذي يجعل الأمر أكثر سوءاً؟
على الرغم من أن هناك مفاوضات جارية لتهدئة التوتر، تُبقي الدولتان على مستوى عالٍ من الخطاب القومي والوطني الذي يحمل في طياته عدوانية تجاه الآخر، إذ قال رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، في 21 يونيو 2020: "أوكد للأمة أن تضحية أبناء شعبنا لن تذهب سدى"، ويأتي ذلك في وقت لا تعد فيه المواجهات الأخيرة أكبر المشاكل التي يواجهها ناريندرا مودي، إذ تواجه حكومته التداعيات المترتبة على تفشي وباء "كورونا"، خاصة بعد أن بلغ عدد الحالات المؤكدة في الهند حوالي 456 ألف حالة مصابة ونحو 14 ألف وفاة حتى تاريخ 25 يونيو 2020؛ وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، وهو ما أدى إلى تمديد حالة الإغلاق التام في الهند؛ ليتدهور بذلك الاقتصاد الهندي بشكل أكبر، ناهيك عن شعور الهند بأنها محاصرة في محيطها الحيوي بسبب الكثير من المشاكل الحدودية مع ثلاثة من جيرانها؛ وهي: الصين، وباكستان، ونيبال.
وبالرغم من كل ذلك؛ إلا أن هناك جانباً إيجابياً، ففي حين تُعد كل من الهند والصين قوتين نوويتين؛ إلا أنه لم يتم استخدام القوة النارية في المناوشات بينهما منذ عام 1975 وحتى حادثة يونيو 2020، والتزم الجانبان بقواعد الاشتباك المحددة في المادة رقم 6 من اتفاقية "تدابير بناء الثقة" التي وُقعت عام 1996 بين الدولتين، والتي تنص على أنه "لا يجوز لأي من الجانبين إطلاق النار، أو التسبب بأضرار بيولوجية، أو استخدام المواد الكيميائية الخطرة، أو القيام بعمليات التفجير، أو الصيد بالبنادق على بعد كيلومترين من خط السيطرة الفعلي".
ومن ناحية أخرى؛ فإن هناك مؤشرات تدعو إلى القلق؛ حيث تتم عسكرة المنطقة الحدودية بشكل متزايد، بعد أن شيدت كلا الدولتين بنية تحتية لخدمة الأغراض العسكرية في المنطقة وذلك بعد أحداث دوكلام 2017، فعلى سبيل المثال أنشأت الهند على الحدود شبكات طرق، وأنظمة سكك حديدية، إضافة إلى مهابط الطائرات العامودية. وفي سبيل دعم حركة التعزيزات في حال وقوع مواجهات طارئة؛ أقدمت الهند على تشييد طريق يمتد لآلاف الكيلو مترات، وتم ربطه بقاعدة جوية تم تفعيلها عام 2008، لترد الصين على ذلك بنشر مكثف للآلاف من جنودها، وحفر الخنادق، ونقل معدات ثقيلة على بعد عدة كيلو مترات داخل ما اعتبرته الهند أراضٍ خاضعة لسيادتها؛ وذلك وفقاً لتقرير أعدته "بي بي سي" ونُشر في 30 مايو 2020.
كما تشهد المنطقة الحدودية عمليات انتشار عسكري متزايد، ومنذ أبريل 2020 نشرت الدولتان أسلحة ثقيلة بما في ذلك الدبابات والمدفعيات، إضافة إلى القوات العسكرية، حيث ذكر مصدر عسكري لصحيفة "غلوبال تايمز" الصينية أن الجيش الصيني اتخذ الإجراءات اللازمة، وعزز من قواته للحفاظ على سيادة الصين وأمن المناطق الحدودية، وهو ما اعتبره نائب مدير برنامج آسيا في مركز ويلسون البحثي، مايكل كوغلمان، بمثابة "استعراض للقوة". وفي 5 يونيو 2020، أجرى جيش التحرير الشعبي الصيني مناورات وتدريبات عسكرية استُخدمت فيها القوات الجوية والمشاة والدبابات؛ لرفع جاهزية الجيش للتصدي لأي تصعيد على الحدود مع الهند؛ وفقاً لصحيفة "غلوبال تايمز".
وعلى الجانب الآخر، فقد أرسلت القوات المسلحة الهندية تعزيزات كبيرة إلى خط السيطرة الفعلي في مايو 2020؛ لكن الأمر الأكثر خطورة هو ما تداولته تقارير صحفية حول مراجعة الجيش الهندي لقواعد الاشتباك المتفق عليها مع الصين، إذ خَوَّل الجيش الهندي قادته الميدانيين باستخدام الأسلحة النارية في الظروف "الاستثنائية"، على خلفية المواجهات الحدودية في منطقة لاداك، وقد ذكر وزير الدولة للشؤون الداخلية، جي كيشان ريدي؛ في 21 يونيو 2020 أن: "الجيش مُنح الحرية الكاملة في التعامل مع الصين وحماية أراضي الهند ورجالها"، ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى سباق تسلح يمكن أن يحول المواجهات المتكررة بين القوتين النوويتين إلى أحداث أكثر فتكاً؛ بحسب ما قاله محللون عسكريون من صحيفة "نيويورك تايمز" في 18 يونيو 2020.
ما هو المتوقع حدوثه؟
تتفق الدولتان على أنهما لا تريدان الحرب، حيث تبقى المحادثات هي السبيل الوحيد لتخفيف حدة التوترات، خاصة وأن أي صراع عسكري سيُخلّف عواقب وخيمة، في وقت تسعى فيه الدولتان إلى التعافي الاقتصادي من تبعات وباء "كورونا".
وفي السياق ذاته، تعي الهند قدرات جارتها الصينية التي تنامت بشكل كبير في العقود الأخيرة، باعتبارها ثاني أكبر قوة عسكرية واقتصادية في العالم، وحتى مع كون الهند قوة عالمية صاعدة إلا أن قدراتها تتضاءل مقارنة بالصين، فمن الناحية العسكرية؛ بلغ إنفاق الهند نحو 66.5 مليار دولار عام 2018، ويعد ضئيلاً نسبياً مقارنة بالإنفاق العسكري الصيني البالغ نحو 250 مليار دولار للعام نفسه؛ وفقاً لبيانات البنك الدولي. ومن الناحية الاقتصادية؛ بلغ الناتج المحلي الإجمالي في الهند حوالي 2.7 تريليون دولار، بينما بلغ الناتج المحلي الإجمالي للصين حوالي 13.6 تريليون دولار أمريكي؛ وفقاً لبيانات البنك الدولي لعام 2018.
ولذا؛ لا تُسعف ظروف الهند أو مُقدراتها لاتخاذ خطوات مشابهة لتلك التي تواجه من خلالها باكستان، فعندما قتلت جماعة جيش المهدي التي تتخذ من باكستان مقراً لها؛ 46 جندياً هندياً في تفجير في الشطر الهندي من كشمير في 14 فبراير 2019؛ قامت الهند بالرد بغارات في الشطر الباكستاني من كشمير.
من هنا؛ تستخدم الهند مع الصين أسلوب الرد الاقتصادي عوضاً عن التصعيد العسكري، ومن المرجح أن يكون للمواجهات الأخيرة تأثيراً اقتصادياً على الصين، فقد اتخذت السلطات الهندية جملة من القرارات الاقتصادية لمعاقبة الصين، ومنها دعوة وزير في الحكومة الهندية في 19 يونيو 2020 إلى إغلاق المطاعم الصينية، كما علّقت حكومة ولاية ماهاراشترا (وهي ثالث أكبر ولاية في الهند) ثلاث اتفاقيات رئيسية تم توقيعها مع الشركات الصينية. ووفقاً لصحيفة "إنديان إكسبرس" الهندية، فإنه من المقرر إلغاء عقد هام لشركة إنشاءات صينية مع شركة السكك الحديدية الهندية، كما طالبت وزارة الاتصالات من شركة "BSNL" (Bharat Sanchar Nigam Ltd)، وهي شركة اتصالات هندية كبيرة مملوكة للدولة، بعدم استخدام المعدات الصينية في أية عمليات تحديث لمعدات الشركة. ووفقاً للمرجع ذاته، ستخضع جميع الشبكات، التي يتم استخدام المعدات الصينية فيها، للتدقيق؛ وذلك بهدف ضمان أمنها وسلامتها.
وإضافة إلى الخطوات والنوايا الحكومية والرسمية، تعالت في الهند دعوات شعبية لمقاطعة المنتجات والبضائع الصينية بعد المواجهات الأخيرة، ومثل هذه الدعوات سيكون لها تأثير كبير على الاقتصاد الصيني، الذي بلغت صادرته للهند عام 2018 ما يقارب من الـ 76 مليار دولار؛ وفقاً لبيانات البنك الدولي.
وأخيراً؛ ففي الوقت الذي يُستبعد فيه التصعيد العسكري بين الدولتين، فإن السعي إلى تهدئة التوترات؛ سيكون هو الحل الأكثر رواجاً، وقد أكد على ذلك المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، تشاو ليجيان، في مؤتمر صحفي عُقد في 22 يونيو 2020، حين قال أن: "الصين والهند على اتصال مع بعضهما البعض لحل الوضع الراهن من خلال القنوات الدبلوماسية والعسكرية".
وفي الواقع، تتمتع الدولتان بسجل من الالتزام بعدم استخدام القوة النارية في المناوشات والمواجهات على طول الخط الحدودي بينهما، وبالرغم من تكرار المواجهات؛ إلا أن كلتا الدولتين أظهرتا قدرتهما على تحقيق السلام والاستقرار الجزئي في المناطق المتنازع عليها؛ تطبيقاً لاتفاقية "حفظ السلام والهدوء" التي وقعت عام 1993، والتي تدعو إلى اتباع قنوات الحوار والمشاورات السلمية الودية.
بالرغم من ذلك، ستبقى طبيعة العلاقات الحدودية بينهما تتراوح بين "المد والجزر"، ومن المرجح أن تشهد الأيام والأسابيع والسنوات القادمة مناوشات ومواجهات عدة، ويعود ذلك إلى الصعوبة البالغة التي تواجه الطرفين في التوصل إلى ترسيم نهائي للحدود، حيث يشمل الخلاف أقاليم عدة على طول الحدود، وجميعها مناطق تُعتبر استراتيجية للجانبين، ناهيك عن تعدد الدول المعنية بمسألة النزاع الحدودي؛ وهي: الصين، والهند، ونيبال، وبوتان، وباكستان.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: