ليس ثَمَّ شكٌّ أننا نعيشُ اليومَ في ظلال تيارٍ قَويٍّ من الدعوات إلى تجديد الخطاب الديني، وهذه الدعواتُ تصدُرُ من جهاتٍ دوليةٍ ومحلية. إن الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني هي دعوةُ حقٍّ، وهي تعبيرٌ قويٌّ عن الشُّعور بالحاجة إلى المراجعة والنقد الذاتيّ. كما أنَّ الشبابَ العربيَّ اليوم في ظلِّ هذا التقدُّم الهائل لوسائل التواصل والاتصال الحديثة بحاجةٍ ملحَّةٍ إلى عرضٍ جديدٍ بشكلٍ جديدٍ للمعتقدات والمفاهيم الدينية والأخلاقية؛ لينطلقوا نحو التغيير والإبداع، متسلحين بسلاح قويٍّ من المعرفة والعلم في ظلِّ هذه المتغيِّرات العالمية. ولا يخفى أنَّ انغلاقَ كثيرٍ من الدَّعَوات المعتمدة على الأساليب التقليدية كانت سبباً في إعراضهم عن الخطاب الديني، بل وعاملاً في طريقهم إلى الإلحاد.
وغالبا ما ينظر للمهتمين بتجديد الخطاب الديني على انهم فئة وَقَعْت في فخِّ أعداء الدِّين، حيث وجهت لهم عدة اتهامات، منها العمل على تقدِّيم خدمةً للغرب على حساب ديننا ومصالح الأمة.
صحيح أن الدعوات للإصلاح جاءت في بعض الحالات من الغرب، فالغربُ بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر طالَبَ كثيرٌ من ساستِهِ ومفكريه بهذا التجديد؛ لأنه يساعد على تجفيف منابع العنف والإرهاب من وجهةِ نظرهم، ووجدوا في أحداث الحادي عشر من سبتمبر ما يكفي من الذرائع للمطالبة بتغيير مناهج التعليم، ومنها معاهدُ التعليم الشرعي.
ونرى كذلك بعض الحكومات العربية والإسلامية طالبت بتجديد الخطاب الديني بسبب أعمال العنف التي واجهتها في بلادها، وهناك تياراتٌ أخرى غيرُ دينية من مفكرين وإعلاميين طالبَتْ كذلك بإدخال العديد من التطويرات في بِنْيَة الخطاب الديني.
وهناك أعدادٌ لا يستهانُ بها كذلك من أهل الشريعة المتنورين تطالبُ هي الأخرى بتجديد الخطاب الديني على نحوٍ ينسجمُ مع المفاهيم والأوضاع الجديدة التي أوجدتها العولمة، وأعظمُ أدواتها في العصر الحاضر شبكة (الأنترنت). ويرى هؤلاء العلماء أن الإصلاحات المصممة لمسايرة التطورات الهائلة التي تحدث من حيث كمية وتنوع المعلومات المتاحة ضرورية، وأن هذه الإصلاحات، خاصة في المجال الثقافي، تجعل الوقت مناسبًا للإصلاح. من الحكمة الانتباه إلى هذه الأصوات، خاصة مع وتيرة الحياة الحديثة التي تغير بسرعة احتياجات وتوقعات الجمهور المتدين.
صياغة منهج ملموس للإصلاح
أولاً: لا يصحُّ عقلاً ولا شرعاً أن نترك تطوير أساليبنا ومفاهيمنا لأنَّ الغرب يرغب بذلك، فما يقولُهُ الآخرون فينا أو ينتقدوننا به قد يكونُ بعضُهُ صواباً، ومن واجبنا أن نستمعَ ونُحَاكِمَ ونتأمَّل، وبعد الاستماع والمحاكمة والتأمُّل إمَّا أن نقبل أو نرفض، أو نصحِّح البعض ونترك بعضاً آخر، أمَّا أنْ نُعْرِضَ عن فكرة التجديد والتطوير للخطاب الديني جملةً واحدةً لمجرَّد أنَّ مَنْ يخالفُنا يريدُ ذلك فليس هذا وارداً في العقل ولا في الدِّين.
ويرى بعض العلماء أنَّ ما يصلُحُ في القرن الثاني الهجري ربَّما لا يصلُحُ في القرن الخامسَ عشرَ الهجريّ، والأسلوبُ الذي كُتِبَ به الخطابُ الدينيّ في عصرٍ ما ليس صالحاً بالضرورة لكلِّ عصر، وخاصَّةً العصرُ الحديث.
ويصبح الإصلاح ضرورة حين يُدْرِكُ العقلُ البشريُّ حقائقَ الوجود والأشياء، ومقوِّماتِ النهضة والتغيير والتطوُّر على سبيل التدُّرج. ومن ثم، فبدون تجديد الخطاب الديني لا يمكن أن تنهض الأمة العربية والاسلامية، ولا يتسنَّى للشباب أن يجدوا ضالَّتَهم المنشودةَ في الارتقاء في العلم والمعرفة وصولاً إلى الإبداع والتغيير.
يحمل الوضع القائم عدة عواقب وخيمة على مجتمعنا، فقد رأينا كيف أنتج الخطاب المتشدد منظمات إرهابية مثل: “القاعدة” و “داعش”، كما رأينا كيف يتاجر النظام الإيراني بالقضايا الدينية ليحكم شعبه من خلال مخاطبة العاطفة والغرائز بما لا يتوافق ومقاصد الدين كلياً. ونرى كيف أن دولاً كبرى مثل: باكستان وأفغانستان وإيران والعراق يملؤها الإحباط بسبب عقلية التدين السائدة هناك.
ثورةُ الاتصالات والتواصل الحديثة جعلت العالم اليوم قريةً صغيرةً، وصار للناس تطلُّعات ومفاهيم جديدة، الأمرُ الذي فَرَضَ عليهم سُلَّم أولويات جديداً في القِيَمِ والسُّلُوك، فإذا لم يغيّر الخطابُ الدينيُّ اليوم طروحاته ليواكب ذلك سيكونُ في وادٍ آخر غير الوادي الذي تستمعُ له الناسُ أو تراه أو تُمارسُهُ، وحينئذٍ يفقد أهميته وتأثيره. فالأسلوبُ العاطفيُّ ودغدغةُ المشاعر لم يَعُدْ كافياً اليوم، ولا بُدَّ أن يسيرَ في خطٍّ موازٍ مع الفكر والعقل، وأن يُطَعَّم مع التقدُّم العلمي المعاصر حتى ينسجم ويتناغَمَ معه.
ليس كلُّ خطابٍ ديني على مستوى واحد من الانضباط بالأصول المنهجية وعلى مستوى واحد من الكفاءة والجَوْدة. فهناك مَنْ اتَّسَمَ خطابُهم بالخرافة، والأحاديث الموضوعة، والقصص الغريبة العجيبة، يريدون بذلك استثارة حماس الناس وإعجابهم بهم والصعود على أكتاف عواطفهم. وهناك من يغلب على خطابهم الاهتمام بالجزئيات الصغيرة، ويطرحون المسائل الهامشية، ما دعا كثيراً من الناس إلى اتهام الخطاب الديني بأنه لا يحقِّق طموحاتهم، ولا يستجيب لمطالب العصر.
كلُّ ذلك مِنْ شأنه أن يحمِلَ أرباب الخطاب الدينيّ على بذل مزيدٍ من الجهد لمحاولة التطوير المستمرة لخطابهم، بحيث يكون على المستوى المطلوب الذي يلامس تطلُّعات الشباب والأجيال القادمة.
إن جميعَ أهلِ الأديان قد وظَّفوا الدِّين لأغراض سياسية؛ لأجل السُّلْطة والمكاسب الدنيوية، ممَّا نَتَجَ عنه حدوثُ صراعات دامية بين أتباعها، لذلك يصبح تجديد الخطاب الديني عند كلِّ الأديان وليس الخطاب الإسلامي فقط، ضرورةً ملحَّة؛ لتقضي على كلِّ أشكال التعصب الديني وكراهية الآخَرِ المختلف دينياً ومذهبياً وعِرْقياً. ويتطلب ذلك منا القيام بدورنا على أكمل وجهه لتعزيز هذه الإصلاحات.
وفى حال فشل المجتمعات الإسلامية والمتمات الدينية الأخرى في تنفيذ تلك الإصلاحات فإنَّ البشرية ستخسر معركتَها لصالح دَعَوات وشعارات التطرُّف والتزمُّت التي تسودُ فَضَاء وخطاباتِ أهل التديُّن. كما أن زمن ما بعد "كورونا" سيكونُ فاصلاً هاماً في حياة الشعوب من الناحية الدينيَّة، سوف يبدؤون بالبحث عما يملأُ عليهم الفراغ الروحيَّ بعد أن فَقَدوا الكثير من أحبائهم بجائحة "كورونا"، سيبحثون عن مصدر إلهامٍ يُعيد إليهم الأمل، ويُحفِّزهم على العودة إلى عَجَلة العمل الوظيفي بعد هذا الرُّكُود. لقد حان الوقت للمصلحين لتقديم رسالة جديدة لأولئك الذين يبحثون عن الإصلاح - وإلا فإنهم يخاطرون بتحول الشعوب إلى الوضع القائم.
نشرت في موقع منتدى فكرة - معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: