احتضنت العاصمة الفيتنامية هانوي في 15 نوفمبر 2020 قمة افتراضية لتوقيع 15 دولة من منطقة آسيا والمحيط الهادئ اتفاقَ الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة التي تضم دول منظمة آسيان؛ وهي: (إندونيسيا وماليزيا وفيتنام ولاوس وبورما وكمبوديا والفلبين وسنغافورة وتايلاند وبروناي) بالإضافة إلى اليابان ونيوزيلندا وأستراليا وكوريا الجنوبية والصين، ويُعتبر هذا الحدث أكبر اتفاق للتجارة الحرة في التاريخ نظراً لأن الدول المنخرطة فيه تشكل ثلث الناتج الإجمالي العالمي وما يقارب ثلث سكان الكوكب، كما أنه يشكل انعطافة في المنطقة لصالح الصين على حساب الولايات المتحدة التي بدأت مؤخراً بالخروج من الأجواء المضطربة التي أحاطت بالانتخابات الرئاسية، إلا أنها ما زالت تعاني من الأزمة الصحية الناجمة عن تفشي فيروس "كوفيد-19" وما يرتبط به من أزمة اقتصادية ممتدة على الصعيد العالمي.
في المقابل، يبدو الاقتصاد الصيني أنه الاقتصاد الأول الذي بدأ بالتعافي من آثار الجائحة، حيث إنه شهد نمواً بلغ 4.6% في الربع الثالث من العام الجاري 2020، كما تعافت أرقام النشاط التجاري الصيني في سبتمبر 2020 لتنمو الصادرات إلى 9.9% والواردات إلى 13.2% مقارنة مع نفس الفترة من العام الماضي 2019، ذلك مردُّه - بحسب مراقبين - إلى تحسن مؤشرات الإنتاج الصناعي والتدخل المبكر لجهاز الدولة في مواجهة فيروس "كورونا". وبعبارة أخرى؛ يشهد الاقتصاد الصيني سيراً إيجابياً إذا ما قمنا بمقارنته مع نظرائه في العالم بشكل عام.
ظروف سبقت التوقيت
في اليوم الأول من تسلم الرئيس، دونالد ترامب، لسلطاته الدستورية في 20 يناير 2017، أقدم على تنفيذ إحدى وعوده الانتخابية، وهي الانسحاب من اتفاقية الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية عبر المحيط الهادئ، التي ساهمت في تأسيسها إدارة خلفه، بارك أوباما، في عام 2015. وكانت هذه الخطوة بمثابة إنذار للعالم أجمع وللدول المنخرطة في الاتفاقية بشكل مباشر، بأن عصر الحمائية قد بدأ وأن التجارة الحرة - إن وُجدت - فستكون تحت خدمة المصالح الأمريكية في المقام الأول.
ومن ثم جاء وباء "كورونا" كأزمة صحية ضربت الاقتصاد العالمي الذي كان يعاني بالأصل من اختلالات بنيوية ليست سهلة من قبيل المديونية العالية، وبطء العملية التنموية، وازدياد نسب البطالة، وتقلب أسعار الطاقة، وغيرها.
ساعد هذان العاملان - كل حسب سياقه - بكين على السير بشكل أفضل في المحادثات التي سبقت توقيع الاتفاقية، والتي تضمنت مفاوضات واجتماعات وزارية على مدار الثماني سنوات السابقة، ومحاولات المسؤولين الصينيين فكفكةَ التحالفات التي تجمع أغلب دول المنطقة مع واشنطن، إلا أن هذا فعله ترامب - من غير قصد - عندما انسحب من اتفاقية الشراكة عبر الهادئ ليُزعزع بذلك الثقة بالولايات المتحدة كشريك اقتصادي، وهذا أثبته انضمام ثماني دول كانت عضوة في الاتفاقية الأخيرة إلى اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة مع الصين، كما أن انضمام بعض "حلفاء" الولايات المتحدة إلى هذه الاتفاقية بعد صدور النتائج الأولية للانتخابات الرئاسية، يدلل بشكل واضح على أن هناك رغبة في خلق خيار للشراكة الاقتصادية غير الأمريكية وليس بالضرورة بديلاً عنها - بغض النظر عمَّن سيسكن البيت الأبيض.
أما على الصعيد الاقتصادي وتأثره بـ "كورونا"، فبحسب بيانات بنك التنمية الآسيوي الصادرة في منتصف سبتمبر الماضي 2019 ضمن تحديث تقرير "آفاق التنمية في آسيا" الذي يشمل 45 دولة، فإن دول المنطقة جميعها ستشهد انكماشاً لاقتصادياتها بواقع 0.7% مع نهاية العام الحالي 2020، هذا الوضع ساهم في تسريع العملية التفاوضية التي سبقت الاتفاقية التي بدت - في الفترة الأخيرة - جذابة لوجود الاقتصاد الصيني فيها.
وربما من المستغرب أن العديد من الدول في منطقة جنوب شرق آسيا ممّن يوجد بينها وبين الصين خلافات قد تكون حادة في بعض الأحيان فيما يخص التطلعات الجيواستراتيجية للأخيرة في بحر الصين الجنوبي، حيث لم تكن لديها مشكلة في الانضمام إلى الاتفاقية التي سيكون لبكين فيها اليد الاقتصادية العليا كما يتوقع مراقبون، وهنا يجب الإشارة إلى أن الصين هي الشريك التجاري الأكبر لمجموعة دول آسيان، كما أنها - على سبيل المثال - المورد الأكبر لتايوان؛ تلك الجزيرة الصغيرة الواقعة إلى الجنوب الشرقي من الصين والتي يدعو المسؤولون في بكين إلى ضمّها وتوحيدها مع الوطن الأم.
إن الخلاف السياسي بين الصين ودول آسيان لم يمنع هذه الأخيرة من الدخول في شراكة اقتصادية طويلة الأمد مع الصين، وهذا لأنه لا يوجد بديل اقتصادي يمكن الاستناد عليه لإخراج المنطقة من المشكلات الاقتصادية التي أصابتها. وفي نفس السياق، هناك خلاف كبير بين أستراليا والصين لم يتم التفاهم على حلّه حتى بعد توقيع الاتفاقية، وتتعلق جذور هذا الخلاف بمطالبة أستراليا بفتح تحقيق حول جذور فيروس "كورونا" في إشارة إلى الزعم بعدم تعامل السلطات الصينية بشكل مناسب للحد من انتشاره على الصعيد العالمي، وسبق ذلك منع شركة "هواوي" من المشاركة في تطوير البنية التحتية لشبكة الاتصالات على خلفية الحجج الأمنية ذاتها التي رددتها بريطانيا والولايات المتحدة.
من الملفت للنظر أن أستراليا انخرطت في الاتفاقية الجديدة على الرغم من تصاعد الخلاف التجاري مع الصين التي بادرت إلى فرض تعرفات جمركية إضافية على السلع الأسترالية مثل الشعير واللحوم والنبيذ وغيرها من السلع الواردة إلى البر الصيني، لكن من المرجح أن تكون خطوة انضمام أستراليا إلى الاتفاقية دلالة على رغبة كانبرا على حل الخلاف بطريقة غير مباشرة مع أكبر شريك تجاري بالنسبة لها وهو الصين.
بعض التفاصيل حول الاتفاقية
جاءت الاتفاقية في أكثر من 500 صفحة، إلى جانب آلاف الصفحات الإضافية على شكل ملاحق تركز على تفصيلات الإجراءات الجمركية، وتتضمن الاتفاقية إلغاء للتعرفات الجمركية بين الدول بواقع 90% على مدار 20 عاماً، كما أنها تُشرّع في الفصل 16 المشتريات الحكومية على أن تكون واضحة ومحددة لتعزيز التكامل الاقتصادي، وهذه جزئية ملائمة لطبيعة الاقتصاد الصيني التي تتسم بالدور الكبير الذي تمارسه مختلف المؤسسات الرسمية.
ويركز الفصل 15 على التعاون التكنولوجي وتسريع دمجه في العلاقات الاقتصادية، مع الأخذ بعين الاعتبار تضييق الفجوات التقنية الموجودة بين أطراف الاتفاقية، وسبق ذلك الحديث عن إعطاء دور أكبر للتجارة الإلكترونية في الفصل 12 بهدف تقوية الروابط الاقتصادية وتسهيلها بشكل عام، هذا إلى جانب فصول بنود حول آلية فض النزاعات ولجان المتابعة وغيرها من الجوانب الفنية والإجرائية.
جاءت اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة كإطار يجمع ويُطور جميع الاتفاقيات والتفاهمات التجارية التي كانت سائدة بين دول المنطقة، وليتم إنشاء اتفاقيات أخرى جديدة بين الصين واليابان على سبيل المثال، والتي تجمعهما علاقات دبلوماسية شائكة.
ويرى مراقبون أن الهند ما تزال تُشكل عقبة أمام الصدارة الاقتصادية "القانونية" للصين في آسيا، حيث قامت نيودلهي بالانسحاب من المفاوضات السابقة للاتفاقية في عام 2019 بسبب تخوفها من ضرب الصناعة المحلية عبر دخول السلع الصينية الرخيصة، إلا أنه وعلى الرغم من ذلك أشار الفصل 20 والأخير من الاتفاقية إلى أنه بمقدور الهند الانضمام بأي وقت إليها باعتبارها طرفاً شهد المفاوضات منذ بدايتها، وليست بحاجة لانتظار مدة 18 شهراً بعد دخول الاتفاقية حيز التنفيذ والتي تعتبر الفترة اللازمة لانضمام دول أخرى إن رغبت بذلك.
الانعكاس العالمي
الحقيقة الموضوعية هي أن جائحة "كورونا" ساهمت في الإسراع من تبدُّل بنية النظام العالمي التي تحوي العديد من العناصر والأطراف المتناقضة، وبالتالي لا يمكن استيعاب ودراسة أبعاد الاتفاقية المذكورة إلا من خلال اتصالها بالمتغيرات الدولية من النوع السياسي والاقتصادي وحتى الصحي والأمني.
لم يعلق الرئيس الأمريكي المنتخب، جوزيف بايدن، خلال حملته الانتخابية على ما سيكون عليه طبيعة الدور الاقتصادي لبلاده في منطقة جنوب شرق آسيا والمحيط الهادئ، وما إذا كانت بلاده ستعود إلى تفعيل اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ أم لا، بالأخص بعد ما أثبتت التحركات العسكرية للبحرية الأمريكية التي قامت بها في بحر الصين الجنوبي خلال فترات من عهد ترامب، عدم فاعليتها في احتواء النفوذ الصيني، وبعبارة أدق؛ لم يؤدِ الخيار الأمني إلى شيء إذا لم يكن مصحوباً ومستنداً على بديل اقتصادي منطقي بالنسبة لدول المنطقة.
قد يقوم بايدن بتفكيك أطراف الاتفاقية من خلال العمل على تهويل الخطر الجيواستراتيجي الصيني، وتقوية التحالف مع الشريك الهندي لبحث سبل احتواء آثار هذه الاتفاقية التي لا يمكن وصفها - أي الاتفاقية - بأنها على درجة كبيرة من الاتساق والمتانة عندما يأتي الأمر للعلاقات السياسية والدبلوماسية بين أطرافها، وهذا ما قد يكون محط تعويل من قبل الإدارة الأمريكية القادمة.
لكن يبقى الجانب الذي لا يمكن إغفاله وهو أن الصين كقوة اقتصادية متسارعة الصعود ومتنامية النفوذ، ستبقى حلقة مهمة في سلسة التوريد الدولي بفضل براعتها في انتهاج سياسة النفس الطويل في إدارة مصالحها في الأقاليم المختلفة واقتناصها وتوظيفها للفرص والأزمات التي تصيب خصومها، وعليه فمن الصعب إزالتها بسهولة من معادلة الاعتمادية متعددة الأطراف في المجال الاقتصادي.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: