شهدت ميادين التسلح تطوراً متراكماً من ناحية الكم والنوع، مدفوعةً بالتطور التكنولوجي، وما يسببه من تغير في آليات ووسائل الاشتباك الميداني في مسارح العمليات العسكرية. وثمة اعتقاد لدى معظم الخبراء الاستراتيجيين أن التقنية هي العامل الأبرز في تصنيف قوة الجيش ومدى قدرته على إحداث النصر العسكري، وبالتالي حسم الموقف سياسياً، وإن اختلفت طبيعة الاشتباك ووسائل التعبير عن تناقض المصالح.
وقد أحدثت هذه التغييرات الجذرية منذ منتصف القرن الماضي، ثورةً في مفاهيم علم "الاستراتيجية العسكرية" فاقت ما تراكم منذ بدء تشكل ملامح هذا العلم. فمفاهيم مثل "الردع النووي" و"سباق التسلح" و"التفوق الجوي" و"الحرب الخاطفة" و"الحرب بالوكالة"، لم تظهر إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
يناقش هذا التقرير الانعكاسات الاستراتيجية للتقدم التقني العسكري ودوره في حسم الحرب، ويحاول الإجابة على الأسئلة التالية:
1. كيف تتأثر النزاعات الشرق أوسطية بالتطور التكنولوجي العسكري؟
2. لماذا قد يكون التطور التكنولوجي العسكري قد جعل إصدار منظومة راشدة لقرار شن الحرب، أمراً مستبعداً؟
3. ما هي مخاطر الإفراط في الاعتماد على التكنولوجيا العسكرية "الذكية"؟
الطبيعة المميزة لحروب الشرق الأوسط الجديدة
يعد مصطلح "الحرب" من المصطلحات المعقدة والمركبة التي يصعب وجود إجماع حول تعريفها وتحديد ماهيتها. ورغم تغير الأساليب والوسائل التي تُشن وتدار بها الحروب، إلا أنها بقيت راسخة من حيث الجوهر والغاية. فإلى قرن التكنولوجيا الفائقة "Hi-Tech" وعصر اختراعات النانو، لا يزال ما طرحه الاستراتيجي البارز "Carl Von Clausewitz" (1780-1831) حول الصراع والحرب، منطقياً تماماً. فهو يرى أن الحرب ما هي إلا "امتداد للسياسة ولكن بوسائل أخرى أكثر عنفاً ودمويةً"، وأن التنفيذ الفعلي للحرب ما هو إلا صراع إرادات يُراد به كسر إرادة العدو وإخضاعه لتحقيق الهدف الاستراتيجي الأسمى للدولة. وتتداخل حسب "Clausewitz" مجموعة من الأبعاد والأسباب لاندلاع الحرب.
فحسب المنهج الراشد لاتخاذ القرارات السياسية "Rational Approach"، يتعيّن على أي قرار سياسي مُتخذ مراعاة المكاسب المتوقعة والتكاليف المحتملة تبعاً لمعادلة (المحصلة النهائية= الربح – التكاليف). وبسبب الدمار المتبادل واسع النطاق الناتج عن أي مواجهة عسكرية لطرفي الصراع، أصبح التعبير عن تناقض الإرادات بين الدول يبتعد كثيراً عن "الحرب المباشرة" مع تركيز الدول على ضرورة تحسين قدراتها الدفاعية والهجومية، لردع الخصم وللاستعداد لكل السيناريوهات التي تفرضها متطلبات البقاء والتمكين للدولة.
ولذلك تتعرض الدول الشرق أوسطية لأساليب ضاغطة –كإيران-، في حين تتعرض دول أخرى لحوادث استهداف متكررة لمنشآت حيوية على أراضيها – كالسعودية – ولكن دون الانزلاق نحو هاوية الاشتباك المباشر بين أي جيشين شرق أوسطيين. وهذا النمط من "الحرب المختلطة" الذي تتنوع فيه أدوات الاشتباك، يتطلب توظيف مستوى متقدم من التكنولوجيا، لخدمة المصالح الحيوية للدولة.
ويرى خبراء أن المنطقة دخلت مرحلة جديدة، بعد استخدام الجماعات المسلحة غير الرسمية للطائرات المسيرة التي يتم توجيهها عبر نظام "GPS" في تحولٍ لافت للقدرات التي تستطيع قوى غير رسمية حيازتها والتحكم فيها، بمعزل عن الكيان الرسمي لأي دولة.
فإلى جانب استهداف منشآت تتبع لشركة أرامكو، تمكنت طائرات مسيرة من تنفيذ عدة ضربات على قاعدة "حميميم" الروسية في سوريا، متجاوزةً تحصينها وتأمينها بأحدث الوسائل التقنية التي يمتلكها الجيش الروسي. ومن المعتاد لمراقبي التطورات الميدانية العسكرية، قراءة خبر بصورة شبه أسبوعية يتعلق بإحداث خرق ميداني أو أمني – كتنفيذ اغتيال مثلاً- لعبت فيه الطائرات المسيّرة الدور الرئيسي.
كل هذا يشير إلى أثر التكنولوجيا العسكرية على مسار الصراعات في المنطقة، لا سيما تلك المتصلة بالتأثير على ميزان القوة. ولأن معظم هذه الصراعات تدور عبر محور الحروب بالوكالة بين دول بعينها، يبدو أن تطوير مثل هكذا تقنيات، لا يتم دون دعم وإشراف دول أو شركات مساندة.
وهذه الطفرة في التقنية تنبع بصورة أساسية من توفيرها لوسائل حاسمة وفاعلة في أيدي مجموعات شبه رسمية. فهي – أي الطفرة – ليست في درجة التقدم الخاص بـ"ميكانيزم" الاشتباك، بقدر ما هي انتقال الأدوات العسكرية الضاربة إلى جماعات خارج إطار الدولة، وفي كسرها احتكار كيان الدولة كطرف وحيد قادر على تنفيذ المهمات العسكرية الكبرى.
حيث يتوجس مختصون في وزارة الدفاع الروسية، من زيادة تعقيد وخطورة الهجمات المستقبلية، لا سيما وأن الهجمات التي تعرضت لها "حميميم" تنم عن تخطيط وتنفيذ عملياتي دقيق لا يمكن معه أن تتم دون إسناد "جهة ما" لهذه العمليات. فقد كشف الناطق الرسمي باسم وزارة الدفاع الروسية، اللواء إيغور كوناشينكوف، في سبتمبر 2019، أنّ الإرهابيين "يحسنون باستمرار" في تكتيكاتهم الهجومية باستخدام أنظمة التوجيه والملاحة والتصويب، مع وجود ما يمكن وصفه بـ"قيادة وتحكم جوي" وتبادل للمعلومات بين الطائرات المستخدمة في الهجوم، معتبراً أن "من المثير للقلق أن من يمتلك هذه التقنيات زود الإرهابيين بها".
وهذا الانتقال الأفقي للقوة "أي انتشار نمط معين من الأسلحة إلى أطراف جدد" قد يُضلل من معرفة هوية الآمر الفعلي لتنفيذ العملية، ويعقّد من مهمة تتبع الفاعل ومعاقبته، في ظل تقيّد الدولة باعتبارات القانون الدولي، في الوقت الذي تتحرّر فيه الجماعات المسلحة من التقيد بالمعاهدات المُلزمة المتعلقة بشن الحرب وبالجوانب الأخلاقية والإنسانية الواجب اتباعها عسكرياً.
ويدفع هذا الانتقال للقوة إلى ضرورة إعادة صياغة الرابطة بين القوة والسياسة، بعد أن تمكّنت مجموعات مسلحة من التأثير على ميزان القوة حتى مع دولة تفوقها لوجيستياً. ويشير كثير من المختصين إلى أن قوات أنصار الله "الحوثيون"، بهجماتهم المسيّرة تجاه العمق السعودي، تمكنوا من إحداث تغير استراتيجي مهم، بالانتقال من الاستراتيجية الدفاعية إلى الهجومية. ودون تقنيات الطائرات المسيرة أو ما يماثلها، سيكون من الصعب جداً على "الحوثيون" وحلفائهم إحراز مثل هكذا انقلاب في معادلات الاشتباك.
أسراب الطائرات المصغرة "Micro-drone Swarm": الجيل القادم من الطائرات المسيرة
في يناير 2017، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية نجاح أول تجربة لمنظومة جديدة طورها مكتب القدرات الاستراتيجية التابع لها، تتمثل في إطلاق سرب "ذكي" من الطائرات المسيرة المصغرة من على متن 3 طائرات "F/A-18 Super Hornets". تعد هذه التجربة واحدة من أولى التجارب التي يجريها البنتاغون لاستخدام أنظمة من فرق صغيرة، منخفضة التكلفة، ومستقلة، لتنفيذ مهمات كانت تؤديها وحدات أضخم وأكثر كلفة وبتوجيه بشري مباشر.
استُخدم في التجربة 103 طائرات مصغرة أُطلق عليها "Perdix" - وهي كلمة لاتينية تشير إلى طائر صغير الحجم- تحركت في سلوك مشابه للأسراب الحية في الطبيعة. حيث تتواصل هذه الوحدات معاً ضمن "عقل مركزي" لصناعة قرار جماعي، بعد أن تقوم المجسّات الخاصة بجمع المعلومات الميدانية المتاحة. ولأن التدخل البشري في هذه العملية كان في الحدود الدنيا، اعتبر البيان أن هذا الابتكار سيحافظ على ريادة الولايات المتحدة في وجه خصومها، وسيعزز من تطور أنظمتها ذاتية التحكم.
بالطبع لم يتضمن البيان أية تفاصيل مهمة عن المشروع، إلا أن تقارير مختصة ترجح أنّ الـ"Micro-drone" هي جزء من مشروع أوسع تطوره وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة التابعة للبنتاغون "DARPA" ويطلق عليه اسم "Gremlins" الذي يعود أصل تسميته إلى العفاريت الوهمية الخبيثة التي كانت تميمة حظ للعديد من الطيارين البريطانيين خلال الحرب العالمية الثانية.
وبصورة عامة، تكمن ميزة الطائرات المسيرة باختلاف أنواعها، في قدراتها الاستطلاعية التي توفر المعلومات الضرورية عن بنية الخصم عسكرياً وأمنياً. فبسبب صغر حجمها وقدرتها على الإفلات من أنظمة الرصد الرادارية، تستطيع هذه المسيّرة اقتحام الخطوط الخلفية. وفي بعض السيناريوهات، قد تتمكن من اختراق موجات الاتصالات للقوات المعادية. ولربما اقتربت التكنولوجيا العسكرية من اليوم الذي تقوم به طائرة مسيرة بمهام "الإنذار المبكر والسيطرة والتحكم" بصورة تشابه ما تقوم به طائرة أواكس المأهولة. ولربما أيضاً اقتربت التكنولوجيا العسكرية من اليوم الذي تقوم به طائرة مصغرة بعمليات تشتيت للاتصالات وتحكم في الموجات العسكرية.
قدرات "سوداء"
حذر مركز "الأمن الأمريكي الجديد" في دراسةٍ نشرها في يونيو 2019، من تنامي القدرات العسكرية الصينية التي كانت طوال العقدين الماضيين "تطارد" تلك التي يمتلكها الجيش الأمريكي. ويرى التقرير أن الجيش الصيني يقترب من الوصول إلى حالة "تكافؤ تكنولوجي" مع الأنظمة التشغيلية الأمريكية، ويخطط لتحقيق "تفوق تكنولوجي" على حساب أمريكا. ويدعم الجيش الصيني في ذلك، قوة اقتصادية تشير إلى تسيّد الصين دول العالم على صعيد الناتج الإجمالي المحلي بحلول 2030.
ويلفت التقرير النظر إلى امتلاك الجيش الصيني "لقدرات سوداء" غير مرصودة ستتكشف عند اندلاع أي حرب، مما يمكّنه من مفاجئة العدو بهجمات غير متوقعة. حيث تستمر الصين في تسخير مزيد من الموارد الاقتصادية لخدمة برامج طموحة مثل صولجان الاغتيال "Assassin’s Mace"، المستوحى من سلاح فلكلوري يُطلق عليه في الصينية "Shashoujian" والهادف إلى تدمير الوسائل التكنولوجية للعدو، وفقاً لتقييمات عسكرية مختصة.
وإن كان أحد تعريفات "الاستراتيجية الوطنية للدولة" بمعناها الواسع هو تسخير كل موارد الدولة، السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية وغيرها، لتحقيق المصالح الحيوية للدولة، فإن الاقتصاد يضرب بعمق عند أي دراسة لمجمل أوضاع السياسات العسكرية في الدولة. فكثير من المشاريع العسكرية لم تُنفذ أو أنها عُلقت بسبب نقص التمويل.
وتدرك الولايات المتحدة ضرورة تأقلمها مع التغيرات الجيوستراتيجية المتمثلة ببروز قوى وتحديات جديدة على الساحة الدولية. فقد نشرت مجلة "Foreign Affairs" تقريراً في مايو 2019، أوصت فيه بضرورة تغيير الأسلوب الذي يؤدي فيه الجيش الأمريكي وظائفه الحالية، عبر اعتماد سلاسل قتل جديدة لا تقوم على تحديث الترسانة العسكرية الحالية، وإنما على كيفية تحقيق الهدف بطرق جديدة ترتكز على "ترشيق" الأنظمة الضخمة والمكلفة في إدارة ساحة المعركة. ويقصد بسلاسل القتل مجموع قنوات الاشتباك المتداخلة التي تتعامل مع التهديدات الميدانية، وبما يحقق هدف استخدام القوة بأسرع وقت ممكن.
ولأن البقاء للأكثر قدرةً على التأقلم مع المستجدات وليس فقط للأقوى، تحاول الولايات المتحدة اكتساب السبق في مجالات عسكرية جديدة، مثل الطائرات الميكروية المصغرة المشار إليها سابقاً، أو في ساحات عذراء غير مستكشفة، مثل الفضاء الخارجي.
ففي احتفالٍ أقيم بهذه المناسبة في البيت الأبيض في أغسطس 2019، أعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، تأسيسَ "القيادة الفضائية الأمريكية" كفرع مستقل عن القيادة الجوية، لتصبح هذه القيادة المستحدثة سادس فروع القوات المسلحة الأمريكية. ووفقاً لما قاله ترامب في الاحتفال؛ إن التأسيس لهذه القيادة يهدف للحفاظ على "هيمنة" الولايات المتحدة في الفضاء، وللتفوق على منافسي أمريكا، في إشارة إلى الصين وروسيا التي حذرت من "عسكرة الفضاء الخارجي" ومن اضطرارها للرد بالمثل بإجراءات وتدابير متطابقة.
وفي دلالةٍ واضحة تؤكد ولوج التنافس العسكري العالمي مرحلةً فضائيةً جديدة؛ كشف رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، الجنرال جوزيف دونفورد، أنّ الوصول المؤكد إلى الفضاء، من خلال مجموعة كاملة من العمليات العسكرية هو أمر حيوي ، معتبراً أن هذه الخطوة تضع الولايات المتحدة على مسار الحفاظ على ميزة تنافسية في هذه الحرب الحاسمة لمختلف نطاقات القتال.
وبالإطلاع على وظيفة "حرب النجوم الجديدة" وما تحمله من تأثيرات مباشرة على التحركات الميدانية الأرضية، يتبين مدى جوهرية السيطرة على النطاق الفضائي لأي دولة تسعى إلى تحقيق مكاسب استراتيجية عظمى. فتحييد الأقمار الصناعية العسكرية الخاصة بدولة ما، يفقدها تماماً القدرة على التحكم بكل العمليات المتصلة بهذا القمر على اليابسة والبحر والجو. ويؤدي اختراق الموجات التي يعمل بها قمر ما، إلى كشف الأوامر والعمليات التي يديرها، أو إلى التشويش الإلكتروني على هذه العمليات. وفي مرحلة ما قد يكون ممكناً السيطرة والتحكم على قمر صناعي معادي وتوظيفه للقيام بمهام "تدمير ذاتي".
بالإضافة إلى الأخطار الصادرة من الفضاء الخارجي، تبرز ضرورة مواجهة التحديات الصادرة من الفضاء السيبراني، والتي لا تُقتصر فقط على الجوانب العسكرية وإنما تمتد أيضاً للجوانب الشخصية (خصوصية المستخدم) والجوانب الاقتصادية. فقد قدرت شركة أمن الإنترنت "McAfee" في تقريرٍ نشرته في فبراير 2018، أن الكلفة السنوية للجرائم الإلكترونية على الاقتصاد العالمي، تبلغ 400 مليار دولار، وهو ما يُقارب الانفاق الدفاعي لدول الاتحاد الأوروبي مجتمعةً.
وتذهب بعض العقائد العسكرية إلى تقييم عمليات الاعتداء السيبراني المُنظمة الصادرة من حكومات، على أنها عمل عدواني يستدعي رداً عسكرياً، استناداً إلى حق الدفاع عن النفس الذي أقرته المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة؛ حيث يشير إلى أنه: "ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة ...... ".
ولا يزال المشرعون القانونيون يحاولون وضع مواد قانونية محكّمة تكيّف الوضع القانوني للتعامل مع الهجمات السيبرانية الرسمية أو شبه الرسمية. وفي سبتمبر 2019 خطت وزارة الدفاع الفرنسية خطوةً غير مسبوقة بإعلانها تطبيق القانون الدولي في الفضاء السيبراني؛ حيث تعتبر فرنسا أن أي عمل سيبراني عدائي، هو بمثابة اعتداء على سيادتها يستوجب رداً وفقاً للقوانين والأعراف الدولية، خاصة إذا كان هذا العمل صادرا من أي حكومة – سواء بصورة مباشرة أو بتواطؤ غير مباشر منها – ضد البنية التحتية الرقمية الفرنسية، أو نتج عنه دمار اقتصادي أو مادي أو تأثير على قطاع حيوي، أو نتج عنه خسائر في الأرواح.
إلا أن ما يصعب تحديده وتختلف عليه دول عديدة، هو "العتبة" التي بتجاوزها يكون استخدام القوة الإلكترونية، هجوماً مسلحاً "يشرعن" للدولة المُهاجَمة حق الدفاع عن النفس. فحتى يكون إعلان أي دولة عن شن عمل عسكري هو قرار "عادل"، يجب أن يكون ضمن ما اصطُلح على توصيفه قانونياً بظروف "Jus ad bellum".
وتبعاً لقرارات تاريخية صادرة عن محكمة العدل الدولية، تعتبر الهجمات المسلحة أخطر أشكال استخدام القوة. وهو ما يضع قيودا صارمة أمام أي دولة ترى أن لها الحق بالرد عسكرياً على هجمات سيبرانية. وباتجاهٍ معاكس، قد تستخدم دولة ما الهجمات السيبرانية للرد على هجوم عسكري تقليدي. فبعد إسقاط المضادات الإيرانية للطائرة الأمريكية المسيرة "RQ-4A Global Hawk" في يونيو 2019، تناقلت وسائل إعلام أمريكية تنفيذ القيادة السيبرانية الأمريكية "USCYBERCOM" هجمات إلكترونية واسعة ضد شبكات اتصال عسكرية تستخدم لإطلاق الصواريخ، بالإضافة إلى تنفيذ هجوم إلكتروني متزامن ضد شبكة تجسس واستطلاع إيرانية مكلفة بمراقبة الملاحة في مضيق هرمز، ويُعتقد أن لها دوراً في الهجمات التي استهدفت ناقلات النفط في خليج عُمان في منتصف يونيو 2019.
وهذا يعني أن الرد على اعتداء ملموس، قد يتم في العالم السيبراني الذي لم يعد محسوساً فقط، وإنما يقع في العمق من البنى التحتية الرقمية-المادية. وبذوبان الحواجز بين ما هو رقمي وما هو مادي، وبين ما هو اصطناعي وما هو عضوي، يجادل مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي، Klaus Schwab، أن الثورة الصناعية الرابعة تتشكل واعدةً بدرجة تغيير أكبر من تلك التي أحدثتها الآلة البخارية، والكهرباء، والأنظمة الحاسوبية.
إلا أن ما يجب التحذير منه، هو الطفرة التي تحدثها "الثورة الصناعية الرابعة" في مجال الذكاء الاصطناعي العسكري الذي يقترب شيئاً فشيئاً من تمكين الدولة المتفوقة تقنياً لحسم المعركة قبل أن تبدأ ميدانياً، في تنفيذٍ ساحر لنصيحة أحد رواد الاستراتيجيات العسكرية ومؤلف كتاب فن الحرب، صن تزو (551-496 قبل الميلاد) الداعي إلى "الفوز دون نزال". فمعارك الفضائَين، الخارجي والسيبراني، ترسم ملامح الاشتباك الفعلي القادم الذي بدأت ملامحه تبرز للعيان.
وجهان لعملة واحدة
من منظورٍ تفاؤلي، يمكن النظر إلى التكنولوجيا العسكرية على أنها هذّبت من سلوك الدولة العسكري. فأولاً، تساهم غزارة التصنيع الحربي لأسلحة تقليدية أو نووية مدفوعةً بالتقدم التقني، في بناء نظام ردع فعال؛ من خلال جعل عواقب شن أي حرب وخيمةً بحيث لا تستطيع الدولة تحمّل كلفتها. وثانياً، يُعد اتخاذ قرار الحرب الشاملة عملاً غير عقلاني، لتوافر بدائل تكنولوجية – مباشرة وغير مباشرة – تقلّل من ردة فعل الدولة المستهدَفة، بما يحول دون إعطائها المبررات القانونية لأي انتقام عسكري.
على النقيض من ذلك، تحمل التكنولوجيا العسكرية في طياتها تداعيات خطيرة على الأمن والسلم الدوليين، أبرزها:
1. تقليص القدرة على التنبؤ
تسعى نظرية توازن القدرات الهجومية-الدفاعية "Offense-Defense Balance (ODB)" إلى محاولة تحديد الاستراتيجية الرئيسية التي تسلكها القوات المسلحة في دولة ما. فالدولة المتقدمة على صعيد القدرات التكنولوجية الدفاعية، تميل إلى تبني استراتيجية أكثر دفاعيةً، في حين تميل الدولة المتقدمة على صعيد القدرات الهجومية إلى تبني استراتيجية أكثر هجوميةً.
وتبعاً للتغير في "ODB" قد تتغير عقيدة الجيش واستراتيجيته من هجومية إلى دفاعية أو بالعكس. ويرتهن هذا المقياس بصورة أساسية بالتقييم النسبي للقدرات العسكرية للدولة مقابل خصومها ومنافسيها، بالإضافة إلى تقييم القدرات الدفاعية والهجومية داخل الدولة الواحدة.
وقد يدفع تصوّر دولة ما أنها أحدثت تحوّلاً في ميزان قدراتها، على القيام بأعمال عسكرية تعوّض فيها خسائرها وتخلّفها عن خصومها ومنافسيها. فمثلاً بعد أن ضخّم الحزب النازي في ألمانيا إنتاجه العسكري كماً ونوعاً، اتخذ هتلر قرار غزو بولندا في سبتمبر 1939، وهو ما يعتبره المؤرخون البداية الفعلية للحرب العالمية الثانية.
ودون أن يكون الجيش الألماني قد قلّص الفجوة من ناحية القدرات بينه وبين الحلفاء، سيكون مستبعداً إصدار ألمانياً أمراً باجتياح بولندا. وهذا التقليص ما كان له ليتم لولا إحراز تقدم صناعي وُظفت فيه موارد مثل الفحم والحديد لخدمة العمل الحربي.
2. تفوق شركات مدنية عاملة في المجال التكنولوجي على جيوش رسمية
في نوفمبر 2014، أعلن وزير الدفاع الأمريكي، تشاك هيغل، استراتيجية التعويض الثالثة، التي تهدف إلى تعاون وزارة الدفاع الأمريكية مع شركات تجارية من القطاع الخاص، للحفاظ على التفوق التقني للجيش الأمريكي أمام نظرائه – لا سيما روسيا والصين – ولمواجهة مختلف التحديات العالمية، كالإرهاب العابر للحدود. وهذا يتطلب وجود هيئة تضم مدنيين وعسكريين، لتشجيع المبادرات التكنولوجية، وللولوج إلى الشركات التجارية العالمية لتطوير قدراتها على الابتكار ولإدارتها .
وفي مؤتمرٍ عقده مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية "CSIS" في أكتوبر 2016، بعنوان "تقييم استراتيجية التعويض الثالثة"، كشف وزير الدفاع الأمريكي، أشتون كارتر، أن وزارة الدفاع بحاجة لبناء جسر مع الشركات التجارية، وبدونه لن تتمكن من حيازة ورصد ما يُستجد من تكنولوجيا. وأضاف كارتر أن البنتاغون بحاجة لتطوير مفاهيم تشغيلية جديدة للتأقلم مع الواقع الحالي، وللاستفادة من ما تقدمه هذه الشركات لمواجهة التحديات الصاعدة في وجه التفوق التكنولوجي العسكري الأمريكي.
ويمكن النظر إلى هذه الاستراتيجية بمثابة انقلاب في القدرة الريادية للقوات الرسمية في المجال التكنولوجي. فاختراعات مثل الإنترنت وموجات الراديو والمايكرويف، نتجت عن تطوير عسكري ثم انتقلت إلى المجال المدني. وعليه تعد الاستراتيجية الجديدة اعترافاً بتفوق شركات تجارية تكنولوجية على قدرات الدول في بعض الحالات، مع كل ما يعنيه ذلك من مخاطر تسرب هذه التقنية إلى "الأيادي الخطأ" – كالجماعات الإرهابية والعصابات المنظمة - نظراً للقوانين والتعليمات الناظمة لسرّية العمل في شركات القطاع الخاص.
وفي دلالةٍ على المستوى التقني المتقدم الذي وصلت إليه تطبيقات التواصل الاجتماعي، تواجه بعض السلطات القضائية والأمنية صعوبات في الاطلاع على محادثات لمشتبه بهم في قضايا أمن قومي أو في تحقيقات خطيرة. فقد طالب وزراء العدل والداخلية في كلٍ من أمريكا وبريطانيا وأستراليا في رسالةٍ موجهة إلى إدارة "Facebook" أن تتخلى الشركة عن خطط تشفير منصاتها كافة دون توفير الضمانات اللازمة للسلطات المختصة للوصول إلى بيانات تتعلق بقضايا قيد التحقيق أو قيد المراقبة.
ادّعت الرسالة التي وُجهت في أكتوبر 2019، أن دولهم الثلاث قدّمت، في عام 2018، 16.8 مليون بلاغ عن سلوكات محتملة لتحرش جنسي بأطفال. وفي حال نفذت الشركة خططها؛ سيتعذّر التحقيق في 70% من هذه البلاغات.
3. تحفيز العمليات المموهة تكنولوجياً
قد تغري وسائل مثل الطائرات المسيرة، حكومات أو جماعات، على تنفيذ استهدافات عسكرية، لما تتصوّره هذه الجهات من انخفاض في كلفة تنفيذ هذه العمليات، ومن إمكانية الإفلات من العواقب القانونية المترتبة على تنفيذها، بسبب عدم ترك الوسائل التكنولوجية المتقدمة لأي أثر واضح يمكن الاستدلال من خلاله على هوية الجهة المُنفذة.
4. "لامركزية القوة"
بتطوّر وسائل الإنتاج، وبتعدد المطورين، سيصبح الوصول إلى التكنولوجيا القاتلة أكثر سلاسةً، مما يتيح لكثير من العصابات المنظمة والمجموعات المسلحة، امتلاك وسائل ضاربة متقدمة. وتشتت القوة عن مراكزها المعتادة، يُصعّب من عملية تتبع مصادر الخطر. وإذا ما تعمّقت "لامركزية القوة"، ستتفاقم الأعباء اللوجيستية والمادية لمواجهة التحديات الأمنية الناشئة عن التكنولوجيا.
5. الاعتماد الكلي على الآلة في الاستجابة الميدانية دون إشراف بشري
على هامش المؤتمر الدولي المشترك حول الذكاء الاصطناعي المنعقد في يوليو 2015 في مدينة "بيونس آيرس" الأرجنتينية، أُصدرت رسالة مفتوحة تحذر من الأسلحة المستقلة القادرة على الاشتباك مع أهداف دون تدخل بشري. حضّت الرسالة الحكومات على الحظر الفوري لأوجه الذكاء الاصطناعي العسكرية تجنباً لـ"سباق تسلح حتمي" تتحول فيه الأنظمة التسليحية ذاتية التحكم إلى "كلاشينكوف الغد".
وقد زاد عدد الموقعين على الرسالة حتى مطلع أكتوبر 2019 عن 30 ألف عالم، من بينهم 4500 مختص في تقنيات الذكاء الاصطناعي. إلا أن هذه التحذيرات لم تجد لغاية الآن صدىً في المجتمع العسكري الدولي، حيث لا تزال سرية هذا المجال عائقاً أمام تنظيم دولي ملزم لآليات وأسس الاستخدام العسكري لمنتجات الذكاء الاصطناعي.
ومتى ما خرجت هذه "المنتجات" عن السيطرة، سيكون من غير الممكن التحكم بسلوكها وأفعالها، أي أن قرار "إطلاق النار من عدمه" ستكون مرجعيته ذاتية من هذه الأسلحة العاقلة. والأخطر من ذلك هو عندما تستطيع الروبوتات التواصل الواعي مع مثيلاتها. وبالفعل تمكّن أحد الروبوتات من إدراك ذاته، أي أنه استطاع التعرف على هويته، وبالتالي قد يتفاقم هذا التطور ليصل إلى إدراك متبادل في عالم الروبوتات على غرار ما تناولته بعض أفلام الخيال العلمي، كفيلم "I, Robot".
وهنالك مخاوف عالية من زيادة الذكاء الاصطناعي لمخاطر التقدير الخاطىء في الحسـابات Miss Calculation بسبب حدوث خلل تقني أو وقوع خرق سيبراني متعمد، وهو ما يُمكن احتوائه بوجود إشراف بشري.
ونقلت إحدى المدونات الخاصة حادثة لم يتسنى التأكد من صحة وقوعها، حول رصد قاعدة سوفيتية في سيبيريا، لصاروخ باليستي نووي متجه نحو الإقليم السوفيتي. بقي الصاروخ على شاشة الرصد لبضع دقائق، ووفقاً لبروتوكولات التعامل مع هذه الحالة، يتعيّن على مسؤول القاعدة إطلاق صاروخ نووي هجومي دون انتظار أوامر القيادة السياسية والعسكرية.
لحسن حظ البشرية، خالف المسؤول القاعدة ولم يُطلق صاروخاً، فقد تبين لاحقاً أن ما أظهرته الآلة كان مجرد خلل تقني. ولذلك يجب أن يبقى الزر بيد "إنسان" يشعر ويفكر، وليس تحت تصرف آلة تستجيب تلقائياً لمجسّاتها الخاصة.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: