هذه المادة الثانية من سلسلة المواد التي يجري نشرها تباعاً ضمن ملف "أوراق على طاولة الـ G7"
تشهد الدول الصناعية الكبرى المكونة لمجموعة السبع تناقضات حادّة، والتي من الممكن أن تؤدي إلى انخفاض مطّرد في التنسيق بين هذه الدول؛ وما خلق هذه الحالة هي المواقف المتعارضة - ليس داخل المجموعة فقط، وإنما في العالم أجمع - حول سياسة الإدارة الأمريكية تحت رئاسة، دونالد ترامب، تجاه أغلب القضايا المتداولة على الساحة العالمية (مثل: المناخ، والتجارة، والتسلح، إلخ..)، وليس بخفي على أحد أن منطقة الشرق الأوسط تحمل أهمية قصوى لدى دول المجموعة وغيرها من الدول الكبرى.
ومن لديه اطّلاع بسيط على التاريخ السياسي والدبلوماسي للمنطقة يدرك - بهذا القدر أو ذاك - سبب الاهتمام بها؛ فموقعها الاستراتيجي ومواردها وحتى رأس المال البشري فيها، جميعها عوامل تدفع الأطراف الدولية للتنافس على تحقيق أكبر قدر من المصالح فيها، وهذا ما يعني بالضرورة تضارب هذه المصالح لأنها لا تحتكم في بعض الأحيان إلى المعاهدات والاتفاقيات الناظمة للعلاقات الدولية، وبالتالي لا يتم نسج علاقات طبيعية متكافئة قائمة على مبدأ احترام السيادة وتعزيز العمل الدبلوماسي؛ الذي يحصّن العلاقات في ميدان السياسة الخارجية من الانجرار إلى الفوضى عند مواجهة تنافر مصلحي في إحدى مجالات العلاقة البينية بين دولتين أو أكثر.
لكل إقليم ومنطقة في العالم خصوصية من نوع معين، تتغير طريقة التعامل معها بحسب المنظور البراغماتي الذي تتبناه الدولة المعنية الساعية إلى تعزيز نفوذها في هذه المنطقة أو تلك، ولكن هذا لا يعني أن جميع المناطق والأقاليم تكتسب نفس الدرجة من الأهمية لدى جميع الدول؛ وذلك يعود إلى المميزات العامة التي تتمتع بها المنطقة المعنية.
إن الشرق الأوسط - كما أشرنا سابقاً - هي منطقة تتمتع بمميزات مادية، وبالإضافة إلى ذلك فإن هناك جانباً يجب أن يتم أخذه كمحدد رئيسي عند دراسة حالة الاستقطاب والتجاذبات السياسية القائمة، ألا وهو وجود دول من الإقليم نفسه تسعى إلى تحصيل أكبر قدر من المكاسب من خلال بسط نفوذها العسكري أو السياسي أو كليهما معاً على الدول المجاورة لها.
وبناء على ذلك، يتوجب على مجموعة السبع أن تتعامل مع الدول الشرق أوسطية التي تُعَد طريقة إدارتها لسياساتها الخارجية، قضية خلافية بين دول مجموعة السبع من جهة، وبينها وبين قوى عظمى أخرى على الساحة العالمية من جهة أخرى، ومن هذه الدول هي دولة إيران.
كيف تنظر دول الـ "G7" إلى السلوك الإيراني في المنطقة؟
توافقت دول مجموعة السبع في قمتها التي انعقدت في فرنسا في أغسطس 2019 على ضرورة ضمان عدم امتلاك إيران للسلاح النووي، وأثار هذا الإعلان حفيظة طهران التي اتهمت الدول الأوروبية بأنها تتنصل من التزاماتها الواردة في الاتفاق النووي؛ الذي تم توقيعه عام 2015 استجابة لضغوطات الولايات المتحدة الأمريكية التي انسحبت من الاتفاق المذكور في مايو 2018.
يرفض الاتحاد الأوروبي - وعلى رأسه ألمانيا وفرنسا - أن تمتلك إيران السلاح النووي؛ إلا أنه وفي الوقت ذاته لا يتوافق مع واشنطن في ممارسة سياسة "الضغوط القصوى" على طهران، لأن ذلك - وبحسب رأي بعض القادة الأوروبيين - عمل وسيعمل على ارتفاع حجم التدخلات الخارجية الإيرانية في الشؤون الداخلية لدول الجوار.
هذا ولا يقتصر الاحتجاج الأوروبي تجاه التعامل الأمريكي مع إيران على الجانب الدبلوماسي فقط، بل ويشمل الجانب الاقتصادي أيضاً، حيث سعت كل من: ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا إلى حماية العلاقات التجارية مع طهران، وكان هذا هو السبب في ابتكار أداة "INSTEX" المالية من قبل: باريس، وبرلين، ولندن في يناير 2019، والتي انضمت لهم دول أوروبية أخرى في ديسمبر 2019، وهذه الأداة هي عبارة عن آلية لمقايضة المنتجات الإيرانية (ومن ضمنها النفط) مقابل نظيرتها الأوروبية بهدف الالتفاف على النظام المالي الذي تسيطر عليه واشنطن، إلا أن هذه الأداة لم تدخل حيز التنفيذ إلا عبر عمليتين تجاريتين فقط منذ تأسيسها وحتى مايو 2020؛ وهذا ما يُثبت عدم فاعليتها التطبيقية؛ بحسب تصريحات بعض المسؤولين الإيرانيين.
وقد بينت الأحداث المتتالية بعد إعادة التموضع الأمريكي في الشرق الأوسط، أنه من الصعب على العلاقات الأوروبية - الإيرانية أن تستمر على الصعيد الاقتصادي والسياسي في ظل الحظر الأمريكي المفروض على إيران، وهذا بالطبع يخلق أثراً سلبياً على موقع إيران في النظامين الدولي والإقليمي، مما دفعها إلى الإعلان أكثر من مرة عن تخفيض التزامها ببنود الاتفاق النووي الخاصة بتقييد قدرتها على تخصيب اليورانيوم، وقد كان آخر هذه الإعلانات في يناير 2020، حيث تخلت طهران بشكل كامل عن جميع التزاماتها المتعلقة بالقيود على نسب وكميات تخصيب اليورانيوم، وأعداد أجهزة الطرد المركزي المخصصة لذلك؛ لترد على هذا التصرف كل من: ألمانيا، وبريطانيا، وفرنسا، بتفعيل آلية فض النزاع التي يتضمنها الاتفاق النووي، كرادع للتجاوزات الإيرانية.
ورافق ذلك اندلاع توترات عسكرية في المنطقة، والتي أخذت منحى خطيراً في أكثر من حادثة؛ منها: الاستهدافات مجهولة الهوية لسفن في خليج عُمان في يونيو 2019، واستهداف منشآت تابعة لشركة أرامكو السعودية في سبتمبر من نفس العام، وعلى الرغم من تبني جماعة أنصار الله (الحوثيين) لهجوم أرامكو، إلا أن تقريراً سرياً للجنة العقوبات التابعة للأمم المتحدة كشفت عنه وكالة رويترز في يناير 2020، بيّن أن جماعة الحوثيين لم تستهدف منشآت أرامكو؛ ما يعزز الاتهامات الأمريكية وحتى الأوروبية لطهران بمسؤوليتها - إلى هذا الحد أو ذاك - عن الهجوم الذي استهدف نحو 5% من إنتاج النفط في العالم.
أمام الموقف الأمريكي الصارم إزاء الملف النووي، والموقف الأوروبي المتردد تجاه الإبقاء على الاتفاق الذي فقد فحواه عملياً بالنسبة للجميع، تبحث طهران عن ظهير دولي آخر يمكن الاعتماد عليه في مواجهة التحديات الخارجية والمحلية الناتجة جزئياً عن العقوبات الأمريكية، ويبدو أن نتيجة هذا البحث انعكست على شكل اتفاق لم يتم الإعلان عنه رسمياً بين طهران وبكين؛ حيث أن هناك معلومات نقلتها بعض المصادر عن استثمارات صينية ضخمة تبلغ نحو 400 مليار دولار سيتم ضخها في الاقتصاد الإيراني في مجال البنية التحتية والطاقة والتكنولوجيا على مدار ربع قرن.
وهذا من شأنه أن يُعقّد بدرجة كبيرة اتخاذ موقف موحّد من قبل دول مجموعة السبع؛ فإلى جانب موقفها غير المنسجم في التعامل مع إيران، هناك خلاف كبير بينها حول طبيعة العلاقات مع الصين، حيث تعمل الولايات المتحدة الأمريكية من جهة على فرض العقوبات الاقتصادية على الأنشطة الإنتاجية الصينية منذ مارس 2018، وهذا ما أثّر بشدة على الاقتصاديات الأوروبية لارتباطها باقتصاديات كل من: الصين والولايات المتحدة الأمريكية بشبكة معقدة من سلاسل التوريد. ومن جهة أخرى، فإن الموقف الأوروبي غير منسجم مع بعضه تجاه العلاقة مع الصين؛ فعلى مستوى الدول الأوروبية الأعضاء في مجموعة السبع، تتجه إيطاليا نحو تعزيز علاقاتها مع الصين وهذا لا يُعجب كل من: فرنسا، وألمانيا اللتين تعتقدان أنه يجب الأخذ بعين الاعتبار مصالح جميع دول الاتحاد الاوروبي عند تعامل أي دولة مع الصين، أما موقف المملكة المتحدة فهو مقارب للموقف الأمريكي الداعي إلى الحد من نفوذ الصين على جميع الأصعدة.
لا ترى الدول الأوروبية في الاتفاق النووي مسألة مصيرية بالنسبة لمصالحها القومية، وهذا ما يفسر إلى حد كبير مدى تقارب وجهات نظر الدول الأوروبية مع الموقف الأمريكي في الفترة الأخيرة تجاه هذه القضية، لكن هذا التقارب لا يعني التطابق في الموقف، بل هناك تباينات كبيرة متعلقة بآليات الضغط الأمريكية على إيران؛ بالأخص في خضّم ما تواجهه هذه الأخيرة من تبعات اقتصادية واجتماعية خلال مواجهتها لجائحة "كورونا"، أما بالنسبة لإيران فإن سريان الاتفاق على الشكل الذي أُقر عليه عام 2015، يُعتبر مسألة مصيرية بالفعل، إذ كان من شأنه أن يُمكّن النظام الإيراني من حل مشكلاته الاقتصادية والتغلب سياسياً على مناهضي الاتفاق في الشارع الإيراني.
ستكون الورقة الإيرانية حاضرة وبقوة في قمة مجموعة السبع القادمة التي من المفترض أن تنعقد في سبتمبر 2020، لأن الملف النووي ونفوذ إيران في المنطقة يقترب كل يوم من نقطة اللاعودة؛ أي الصدام العسكري المباشر مع الولايات المتحدة الأمريكية أو مع أحد من حلفائها الشرق أوسطيين، وهذا ما سيكون له آثار وخيمة على المنطقة ككل؛ نظراً لوجود تنظيمات مسلحة تدين بالولاء المادي والعقائدي لطهران، وبالتالي يمكن أن نكون أمام حالة من الفوضى العامة.
أما البديل الآخر الذي من الممكن أن تتجه إليه الدول الأوروبية الأعضاء في المجموعة، فهو خيار الذهاب إلى مفاوضات أخرى حول الملف النووي، وهذا ما لن يحدث على الأغلب في ظل الإدارة الأمريكية الحالية، نظراً لاقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والتي تتسم نتائجها بضبابية كبيرة، مع التشديد على أن الأمر لا يقتصر فقط على التغيرات التي من الممكن أن تجري في البيت الأبيض، فهناك أيضاً انتخابات رئاسية إيرانية ستُعقد عام 2021، كما أن الدعم الصيني لإيران، قد يغير قواعد اللعبة في الشرق الأوسط بشكل نوعي.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: