يبدو مشهداً ترفيهياً في الدرجة الأولى: 22 لاعباً من فريقين يتنافسان على توجيه كرة يتراوح محيطها ما بين (68-70) سم نحو "الهدف"، وهو الهدف الذي لا يقتصر على إحراز نقاط المباراة الثلاث بل يمتد ليشمل أبعاداً اقتصادية تُعنى بها مجالس إدارات الأندية التي تضع الخطط الاستراتيجية لضبط النفقات وزيادة الإيرادات، وتستقطب الكفاءات الإدارية والمهنية لتحسين مؤشرات الأداء الرياضي والمالي.
لذلك لا يمكن غض الطرف عن اقتصاد كرة القدم الذي بات يحتل المرتبة الـ17 على صعيد الاقتصادات العالمية؛ بحسب مديرة منتدى القمة العالمية لكرة القدم، ماريان أوتامندي، التي أكدت أيضاً في مقابلة صحفية مع جريدة "AS" الإسبانية في يونيو 2018 مساهمةَ كرة القدم بـ 1.4% من الناتج المحلي الإجمالي الإسباني.
ووفقاً للتقرير السنوي المالي الصادر في يونيو 2020 عن شركة "Deloitte" للاستشارات المالية؛ بلغت إيرادات أندية كرة القدم الأوروبية للموسم 2018/2019 قرابة الـ 29 مليار يورو، إذ كانت حصة الدوريات الخمسة الكبرى (الدوري الإنجليزي، والإسباني، والفرنسي، والألماني، والإيطالي) منها 17 مليار يورو.
تأتي أرباح صناعة كرة القدم من مصادر دخل رئيسية، أبرزها حقوق البث التلفزيوني، ففي الموسم 2018/2019 وزّعت رابطة الدوري الإسباني 1.4 مليار يورو من عوائد حقوق البث - بنسب متفاوتة - على أندية الدرجة الأولى؛ حيث بلغت حصة كل من: برشلونة، وريال مدريد، وأتلتيكو مدريد، (166.5، 155.3، 119.2) مليون يورو على التوالي.
وتُدر أيضاً عقود الرعاية عوائد ضخمة على الأندية. فمثلاً بلغت قيمة عقد الرعاية الموقع بين طيران الإمارات وريال مدريد - الذي يشمل وضع شعار الشركة على قميص اللاعبين - 70 مليون يورو سنوياً. كما تبلغ قيمة عقد رعاية "Adidas" الموقع حتى عام 2028 مع النادي الملكي 152 مليون يورو سنوياً بقيمة إجمالية تصل إلى 1.1 مليار يورو. في حين بلغت قيمة عقد الرعاية السنوي الموقع بين برشلونة و"Nike" قرابة الـ 85 مليون يورو؛ بحسب Goal.com.
وتتأتى نسبة مهمة من عوائد أندية الدوريات الأوروبية من أرباح يوم المباراة "Matchday Revenue" التي تشمل التذاكر ومبيعات الطعام والمشروبات في الملعب. ووفقاً للأرقام المالية للموسم 2018/2019 للدوري الإنجليزي، والإسباني، والألماني، بلغت هذه العوائد (776، 521، 520) مليون يورو على الترتيب.
ويتضح من الموجز المالي أعلاه، أن ضرورات التباعد الاجتماعي التي فرضتها جائحة "كورونا"، ستعصف بأرباح الأندية وبصناعة كرة القدم برمتها لهذا الموسم على الأقل. وما لم يتم تطوير لقاح فعال وبناء مناعة مجتمعية تسمح بتوافد عشرات الآلاف من الجماهير، فإن تغييرات هيكلية ستؤثر على شكل الممارسات الاقتصادية المرتبطة بكرة القدم.
فمثلاً، ترفد صناعة كرة القدم سوقَ العمل بعشرات الآلاف من الوظائف في الدوريات الكبرى، إذ تدعم أندية الدوري الإنجليزي قرابة الـ 100 ألف وظيفة، كما يوفر الدوري الإيطالي أكثر من 46 ألف وظيفة، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وإذا لم تعد الحياة الكروية إلى طبيعتها الاقتصادية في الموسم القادم، فإن نسبة مهمة من العاملين في هذا القطاع، سينتقلون من خانة البطالة المؤقتة إلى البطالة الدائمة.
وهذه العودة تقترن بتحسن وضع الاقتصاد العالمي، وبديناميكية العلاقات التي تربط "الكرة" مع غيرها من القطاعات. فقد تعيد بعض الشركات التفاوض على عقود الرعاية بموجب "الظروف القاهرة" التي تتضمنها معظم العقود. فالقيمة الإعلانية للأندية انخفضت بفعل تقلص عدد المباريات وعقدها دون جمهور، مما يترتب عليه انخفاض القيمة الفعلية لرعاية هذه الأندية.
وبالفعل، حدثت أولى الخلافات العلنية ولكن حول حقوق البث وليس على عقود الرعاية. فبصورة مفاجئة أعلنت شبكة "Bein Sports" في 22 يونيو 2020 عن اتخاذها قراراً بعدم بث مباريات الدوري الإيطالي، لما أرجعته الشبكة لأسباب قانونية. وقد أوضحت مواقع كروية مختصة أن سبب الخلاف يعود إلى مطالبة الشبكة رابطةَ الدوري الإيطالي بدفع تعويضات جراء عدم إجراء مباريات بفعل القيود المترتبة على مواجهة وباء "كورونا". لم يطُل الخلاف؛ فقد عادت الشبكة بعد 4 أيام وأعلنت عن عودة بث الدوري الإيطالي على قنواتها، لكن ما هو مهم ليس تسوية الخلاف بقدر ما هو تأسيس هذا الخلاف لعلاقة تصادمية في زمن "كورونا" بين "كرة القدم" وبين غيرها من القطاعات والصناعات المرتبطة.
كما سينخفض إنفاق المستهلكين على كثير من منتجات "كرة القدم" مثل القمصان، وسيعزف عدد كبير عن تجديد اشتراكه لمشاهدة المباريات، فلا يُتوقع ممن فقد عمله أو تضرر دخله أن يُخصص جزءاً من إنفاقه لغايات الترفيه الكروي. وبغض النظر عن الحماس الذي تثيره هذه المستديرة، فهي تبقى كماليات ممتعة وليست أساسيات ضرورية، ولا تندرج كأولوية للإنفاق عليها كما في تسديد إيجار المنزل والقسط المستحق للبنك والطعام وغير ذلك. وجدير بالذكر أن كثيراً من الأندية تأقلمت مع متطلبات السوق الجديدة التي فرضتها جائحة "كورونا"، من خلال عرض مستلزمات وقائية في متاجرها الإلكترونية، مثل الكمامات التي يُطبع عليها شعار النادي، وتوجه بعضها إلى تخصيص نسبة من عائدات أرباح هذه المستلزمات لمواجهة تداعيات الجائحة، سواء من الناحية الطبية أو الاجتماعية.
ومن الطبيعي أن ينعكس الوضع الاقتصادي للأندية على أسعار نجوم كرة القدم. وقدّر تقرير خاص صدر في مايو 2020 عن مجموعة "KPMG" للاستشارات انخفاض أسعار لاعبي الدوريات العشرة الكبرى في أوروبا بما مجموعه 6.6 مليار يورو مقارنةً بأسعار فبراير 2020. كما خفّضت بعض الأندية رواتب اللاعبين الشهرية بالتراضي في خضم موجة الإغلاق واسعة النطاق.
وفي هذا الصدد، كشف مؤلف كتاب عصر كرة القدم، الأكاديمي البريطاني ديفيد غولدبلات، أن إنفاق أموال طائلة للتعاقد مع لاعبين، قد يُصبح جزءاً من الماضي، داعياً في تصريحات لوكالة الأنباء العالمية، فرانس برس، في أبريل 2020 إلى استثمار أزمة "كورونا" وتحويلها إلى فرصة عبر إحداث تغيير جذري في منطق صناعة كرة القدم.
وتُظهر البيانات المالية التي تم الاطلاع عليها في التقارير الوارد ذكرها في هذا المقال، ارتفاع نسبة الرواتب - للاعبين وإداريين وفنيين - من مجموع الإيرادات. فمثلاً حققت أندية الدوري الإنجليزي في الموسم 2018/2019 عوائد بلغت 4.9 مليار يورو، خُصص منها 3 مليار يورو للإنفاق على الأجور، أي ما يعادل 61٪ من مجمل الإيرادات.
من منظور تفاؤلي؛ قد يكون هذا الخفض القسري غير المبرمج لقيمة اللاعبين السوقية، قد جنّب تحول هذه القيمة إلى فقاعة اقتصادية من الممكن أن تنفجر في أي لحظة. وهذا الخفض قد يحقق مزيداً من العدالة التنافسية بين الأندية، فكثيراً ما يعجز نادي ذو قدرة مالية متوسطة على ضم لاعبين نجوم في صفوفه بسبب "تفوق" قدرة الأندية الثرية في ضم هؤلاء اللاعبين. لذلك قد تزداد تنافسية كرة القدم إذا ما انخفض بريق اقتصادها، وركزت الأندية على صناعة مواهب فتية.
وفي السنوات الماضية، طالب ناقدون بعودة "كرة القدم" إلى طابعها الكلاسيكي الشعبي بعيداً عن ترف الاقتصاد. ومن أبرز هؤلاء الناقدين؛ الكاتب في الأدب الرياضي، إدواردو غاليانو، الذي يصف نفسه بـ "متسول من أجل كرة قدم جيدة". وفي تقرير نشرته مجلة "The Atlantic" في يونيو 2018 حول غاليانو شاعر كرة القدم، تنقل المجلة مراحلَ تفاعل الأديب مع كرة القدم وكيف أحبطه فرط الاحتراف في كرة القدم لأنه "يلغي المتعة، ويقتل الخيال، ويحظر الجرأة"؛ بحسب وصفه.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.