استضافت مدينة "العلمين" المصرية على البحر المتوسط في الثالث والعشرين من أغسطس الجاري 2022، لقاءً وصف بالتشاوري بين قادة الدول العربية لكل من مصر والأردن والإمارات والبحرين. وكان من المفترض مشاركة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في اللقاء، الذي حضر بالفعل إلى العلمين، قبل أن يضطر للمغادرة مُبكراً بسبب تطورات الأزمة السياسية الداخلية في العراق.
أثار اللقاء التشاوري منذ الإعلان عنه الكثير من التساؤلات، التي تتعلق بتوقيته وأهدافه وطبيعة الدول المشاركة فيه، خاصة أن ما صدر قبل وبعد انعقاده لم يُغادر دائرة الحديث عن تعزيز التضامن العربي والعمل على إرساء أسس السلام والاستقرار في المنطقة.
لماذا هذه الدول؟
ثمة اعتبارات موضوعية تقف وراء اجتماع هذه الدول تحديداً في مدينة العلمين يمكن الإشارة إلى أهمها في الآتي:
أولاً: الشراكة الصناعية التكاملية لتنمية اقتصادية مستدامة
في مايو 2022 تم إطلاق الشراكة الصناعية التكاملية لتنمية اقتصادية مستدامة بين الإمارات ومصر والأردن، وهي الشراكة التي انضمت إليها مملكة البحرين فيما بعد، وتتضمن هذه الشراكة الاستثمار في 5 قطاعات صناعية مشتركة بين هذه الدول من أجل تعزيز التنمية الاقتصادية، والتكامل الصناعي، وتكامل سلاسل القيمة فيما بينها.
وتتمثل أهدافها الاستراتيجية في: السعي لتحقيق نمو قائم على الاستدامة، وتحقیق سلاسل تورید مضمونة ومرنة، وتطوير صناعات تنافسية ذات مستوى عالمي، وتعزيز قطاعات التصنيع ذات القيمة المضافة، وتعزيز نمو وتكامل سلاسل القيمة والتجارة بين البلدان الأربعة.
ويتم التعويل على هذه الشراكة بشكل كبير لتحقيق الأهداف التنموية الداخلية خلال السنوات المقبلة، خاصة مع ما تمتلكه دول الشراكة من مقومات كبيرة سواء على المستوى البشري أو الاقتصادي أو الموقع الجغرافي الاستراتيجي.
ثانياً: " التنسيق الثلاثي" بين مصر والأردن والعراق
منذ عام 2019 انطلقت آلية التنسيق الثلاثي بين مصر والأردن والعراق، حيث عقدت الدول الثلاث العديد من اللقاءات على مستوى القمة في عمّان والقاهرة وبغداد. وأشارت التقارير إلى أبرز ملامح هذا التنسيق أو هذا المشروع الثلاثي والمتمثل في: مُساهمة الشركات الأردنية والمصرية في إعادة إعمار العراق، وتزويد الدولتين للعراق بالكهرباء، مُقابل إمداد الأخير لهما بالنفط، لتوظيف فائد القدرة المصرية في تكرير النفط، وتصديره إلى أوروبا، فيما سيوظف الأردن موقعه الجغرافي كنطقة عبور لمعضم تلك المشروعات.
وبناءً على ما سبق؛ فإن الدول الخمس منخرطة معاً في آليات ومشاريع تعاون اقتصادية بالأساس، وقطعت فيها شوطاً مهماً خلال الفترة الماضية، ويُعد هذا إطاراً يُفسر لقاء العلمين التشاوري، فمن الطبيعي أن تلجأ الدول المترابطة مصلحياً إلى تعزيز تعاونها وتكاملها وتشاورها للحفاظ على مصالحها، خاصة في ظل التطورات والمستجدات في المنطقة والعالم والتي تنطوي على مخاطر كبيرة على أمن الدول واستقرارها. ومن هنا فإن القمة لم تكن صدفة أو جاءت بدون ترتيب مسبق كما ذهبت بعض التفسيرات.
إعادة الاعتبار للاعتماد على الذات
نتيجة لأسباب كثيرة أهمها تراجع أولوية الشرق الأوسط في الحسابات الاستراتيجية الأمريكية، وانشغال العالم بتطورات الأزمة الأوكرانية التي تبدو طويلة الأمد، فضلا عن التحولات الجارية في الإقليم بشكل عام والمنطقة العربية بشكل خاص، فإن ثمة اتجاه يتبلور منذ فترة لإعادة الاعتبار إلى الاعتماد على الذات في تعزيز الأمن والمصالح الوطنية، وذلك من ثلاثة منطلقات:
المنطلق الأول: أن التحديات المطروحة في المنطقة عالية الخطورة ويتعذر لدولة بمفردها أن تواجهها، مهما كانت قدراتها وإمكاناتها، وإنما تحتاج الى تحرك أو تنسيق جماعي.
المنطلق الثاني: أن مالا يُدرك كله لا يترك كله؛ فإذا كانت هناك صعوبة في خلق تعاون عربي جماعي فاعل في إطار جامعة الدول العربية بسبب الخلافات العربية-العربية، فإنه يمكن التحرك من خلال أطر عربية أخرى ثنائية أو ثلاثية أو رباعية أو خماسية أو غيرها، تضم الدول التي تتوفر لها مقومات التعاون والتفاهم والرؤى المشتركة، خاصة إن المخاطر والتهديدات التي تستهدف المنطقة العربية لا تحتمل مزيداً من الفراغ تتحرك فيه قوى إقليمية غير عربية لتحقيق مصالحها على حساب المصالح العربية وفي مقدمتها إيران -التي تستعد لتوقيع الاتفاق النووي مع الغرب- إضافة إلى تركيا.
المنطلق الثالث: أن أحد الدروس المستفادة من الأزمة الأوكرانية والتي أدركتها جميع الدول في العالم هو ضرورة تعزيز الاعتماد على الذات فيما يتعلق بمقومات الأمن الوطني بمفهومه الشامل؛ لأن شعارات الاعتماد المتبادل وحرية التجارة في العالم لم تمنع الدول من وقف تصدير بعض سلعها الاستراتيجية مثل القمح حينما رأت أنها تحتاج إليها في الداخل، كما لم تمنع تهديد سلاسل الإمداد العالمية؛ ما عرض أمن الطاقة والغذاء في الكثير من دول العالم ومنها دول في المنطقة العربية لخطر حقيقي.
ولهذا بدأت دول كثيرة في العالم ومنها دول اللقاء التشاوري في العلمين تتحرك لتوسيع مساحة الاكتفاء الذاتي من السلع الرئيسية، وتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري في القطاعات الحيوية مع بعضها البعض.
تعزيز العمل العربي المشترك
على مدى سنوات كثيرة فقدت منظومة العمل العربي المشترك تأثيرها وفاعليتها لأسباب كثيرة لا يتسع المجال لذكرها. لكن ثمة اسباب عديدة دفعت إلى التحرك لتفعيل هذه المنظومة وضخ دماء جديدة فيها، أهمها الأزمات المتفاقمة في المنطقة منذ سنوات والتي أصبحت مصدرا لخطر حقيقي على الجميع، في الوقت الذي أثبتت فيه تجربة العقود الماضية أن الحلول الدولية أو الخارجية غير مجدية لها، كما لم تعد أزماتها تحظى باهتمام عالمي يذكر سوى عبر بعض المواقف والبيانات الروتينية.
ومن هنا، بدأ الإدراك يتسع على الساحة العربية بضرورة إيجاد حلول عربية للأزمات فيها، فنجد تحركات عربية تخالف مواقف دول كبرى تجاه بعض الأزمات ومنها الأزمة السورية، التي يتضح فيها مواقف مصر والأردن والعراق والامارات على وجه الخصوص فيما يتعلق بالانفتاح على سوريا وتأييد عودتها للجامعة العربية على الرغم من المعارضة الامريكية العلنية لذلك.
إضافة لما سبق؛ فإن أزمة أوكرانيا أعادت الاعتبار للتنظيمات الإقليمية بعد سنوات من فتورها وحديث المحللين عن تراجع تأثير التنظيم الإقليمي بشكل عام، وهذا ما يتضح من الاهتمام الكبير بتعزيز دور الناتو والاتحاد الأوربي، فضلاً عن اتجاه روسيا لتعزيز دور معاهدة الأمن الجماعي التي تضم إلى جانب روسيا، كل من بيلاروسيا وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان، وثار حديث خلال الفترة الماضية عن سعي روسيا إلى تحويلها إلى "حلف وارسو جديد" في مواجهة التوسع في حلف الناتو.
ولعل انعقاد هذا اللقاء التشاوري قبل فترة قصيرة من القمة العربية المقررة في الجزائر في نوفمبر المقبل، يضعه البعض في سياق السعي لتقوية الجبهة العربية، ومن هنا فإنه ربما لن يكون اللقاء الأخير من هذا النوع وإنما يمكن أن تشهد المنطقة لقاءات أخرى مماثلة سواء كانت ثلاثية أو رباعية أو غيرها في الفترة المقبلة.
سؤال السعودية والجزائر؟
من الأسئلة المهمة التي طرحها البعض بشأن اللقاء التشاوري في العلمين: لماذا لم تشارك المملكة العربية السعودية في اللقاء بما لها من ثقل اقتصادي وسياسي كبير وقدرة على التأثير في مسار الأحداث في المنطقة؟ وكذلك لماذا لم تشارك الجزائر كونها مستضيفة القمة العربية المقبلة في لقاء كان أحد أهدافه تعزيز منظومة العمل العربي المشترك؟
وعليه، فإن غياب السعودية والجزائر لا يتعلق بخلافات بينهما وبين الدول التي شاركت في اللقاء، وإنما الأمر يتعلق باعتبارات موضوعية؛
بالنسبة إلى السعودية؛ فإنها لا تختلف مع التوجهات التي تم الإعلان عنها في اللقاء التشاوري ولها علاقات وثيقة مع الدول التي شاركت فيه بما فيها العراق التي ترعى عاصمتها بغداد محادثات بين الرياض وطهران منذ فترة. لكن التركيز الأساسي للرياض خلال الفترة الحالية هو الملف النووي الإيراني الذي يعد أولوية قصوى بالنسبة لها، كما أن الموقف السعودي من بعض الملفات لم يتبلور بشكل كامل بعد، ومن ذلك على سبيل المثال الموقف من إسرائيل ومستقبل العلاقة مع إيران. وهذا يعني إنه ربما الأمر يحتاج إلى بعض الوقت حتى تتبلور المواقف والتوجهات بشكل نهائي ومن ثم تنخرط السعودية في هذا الحراك العربي في مرحلة لاحقة.
أما بالنسبة إلى الجزائر؛ فإن غيابها ربما يرتبط بالتباينات في المواقف مع مصر حول الملف الليبي، والتوترات بينها وبين المغرب التي تصاعدت بشكل لافت خلال الفترة الأخيرة، ومن ثم كانت دعوتها لحضور هذا اللقاء ستثير حفيظة الرباط في الوقت الذي سعى فيه الحاضرون إلى تعزيز اللحمة العربية.
أولوية الاقتصاد والتنمية
لعل أهم ما يميز الإطار التعاوني بين الدول التي شاركت في لقاء العلمين التشاوري؛ الأولوية الكبيرة التي يعطيها للتعاون في المجالات الاقتصادية والتنموية ربما أكثر من المجالات السياسية. وهذا التوجه يستفيد من عثرات تجربة العمل العربي المشترك خلال العقود الماضية التي ركزت على السياسة وأغفلت الاقتصاد؛ فلم تفلح بالنجاح، على عكس تجربة دول الاتحاد الأوروبي حينما بدأت شراكاتها بالاقتصادية ونجت في تحقيق أهدافها.
فضلاً عن ذلك فإن هذه الدول تواجه تحديات عديدة فيما يتعلق بقضايا الأمن الغذائي والطاقة وغيرها، ولديها رؤى واستراتيجيات في هذا الخصوص تعتمد على القدرات الذاتية إلى جانب التعاون وإقامة الشراكات مع دول المنطقة.
ويمكن أن تقدم مصر والأردن والإمارات والبحرين والعراق، نموذجاً للمنطقة العربية في مجال التعاون والتكامل الاقتصاديين، خاصة إنها تمتلك مقومات التكامل فيما بينها على مستوى الموارد المالية والبشرية والخبرات وخطوط التجارة وغيرها.
وكما سبقت الإشارة فقد أكدت أزمة أوكرانيا الأهمية القصوى لتعزيز التكامل والتعاون بين الدول المتجاورة لتحقيق مصالحها في ظل عالم تراجعت فيه كل شعارات الاعتماد المتبادل وحرية التجارة وغيرهما.
وختاماً؛ يمكن القول إن اللقاء التشاوري في العلمين رغم شح ما رشح عنه من معلومات، كان على درجة كبيرة من الأهمية على مستوى التوقيت والمضامين، ولذلك سوف يكون له ما بعده فيما يتعلق بمسارات العمل العربي المشترك خلال الفترة المقبلة.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: