دفعت الأحداث الأخيرة بالعديد إلى الاستنتاج بأن الشرق الأوسط لم يعد يحتل مركز الصدارة في مجموعة المصالح الأمنية الدولية الأمريكية، حيث كان قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بسحب القوات الأمريكية من سوريا العامل الأكثر بروزاً. خلص بعض المراقبين أن لحظة التغيير الجيوسياسي السريعة هذه ستشهد تحول الولايات المتحدة، ليس فقط في قواتها ولكن أيضا في مصالحها من المنطقة. إن هذا الجدل وبالنظر إلى التاريخ الحديث لمشاركة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والاضطراب المستمر في المنطقة، والمصالح السياسية والاقتصادية الدائمة ليس بالجدل المستدام.
تاريخ المشاركة الأمريكية في الشرق الأوسط
إن العام 1979 هو العام الأول للمشاركة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال العصر الحديث، وقد وقعت الأحداث الخطيرة التالية خلال ذلك العام:
1. توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في البيت الأبيض.
2. الثورة الإيرانية التي أطاحت بشاه إيران.
3. انقلاب صدام حسين واستيلائه على السلطة المطلقة في العراق.
4. هجوم المتشددين على الحرم المكي حيث ألقى الخميني باللوم على الولايات المتحدة.
5. الاستيلاء على السفارة الأمريكية في طهران.
6. حرق سفارات الولايات المتحدة في إسلام أباد وطرابلس.
7. الإحتلال السوفيتي لأفغانستان.
هذا الانفجار غير المسبوق للأنشطة المعادية لواشنطن - التي يمكن القول بأن دور الولايات المتحدة في إقناع مصر بالاعتراف بإسرائيل قد حفزها - كان سبباً في إشعال سلسلة من الهجمات على المصالح الأمريكية:
أدت الحروب التي تلت ذلك في أفغانستان والعراق إلى تورط الجيش الأمريكي في المنطقة على مدى السنوات الخمس عشرة التالية، مما أدى إلى أكبر إنفاق للدم والثروة في العصر الحديث وإلى تحول كامل في هيكل القوة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. لقد رحل حسين والقذافي ومبارك، وأصبح الهلال الشيعي الآن أكثر تشكلاً من أي وقت مضى. يمكن القول إن إيران كانت أكبر مستفيد من حرب العراق.
تعهد الرئيس دونالد ترامب، منذ حملته عام 2016 ومثل سلفه، بفصل الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط. وقام بمجرد توليه المنصب بتعديل مبادرة الانسحاب من أجل مواجهة وكسب المعركة ضد تنظيم "داعش" على الأرض في العراق وسوريا. قادت الحرب إلى أول انتشار للقوات القتالية الأمريكية في سوريا، مع نجاح كبير. والآن، في أعقاب هذا النجاح، عاد ترامب إلى مبادرته للانسحاب، وأمر بسحب جميع القوات الأمريكية من سوريا (مع انسحاب مماثل من العراق وأفغانستان في ظاهر الأمر). وقد أدى ذلك إلى مخاوف من حدوث فراغ أمني دولي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بحيث تملأه إيران، بدعم من روسيا والصين.
لربما تكون هذه المخاوف مبالغ فيها. تستمر الأحداث والتحالفات والمصالح الاقتصادية والعلاقات السياسية. فالانسحاب من سوريا هو سحب للأنشطة البرية الحركية العسكرية. وسيستمر الدعم الأمني للمنطقة، على شكل أسلحة وطرق أخرى (وربما القوة الجوية والاستخبارات بالتأكيد). وحتى تستمر المقاومة الأمريكية الاقتصادية والسياسية للهيمنة الإيرانية. يجب على القوى الإقليمية -إذا لزم الأمر- أن تتدخل لملء الفراغ العسكري النشط.
ولا يعني أن إزالة عدة آلاف من الجنود الأمريكيين التخلّي عن المصالح الاقتصادية الأمريكية أو المشاركة السياسية، إنما هو حل للأنشطة العسكرية. ما يحدث الآن ليس كما حدث في العام 2011، عندما تم سحب القوات الأمريكية من أزمة سياسية عراقية غير محسومة أحدثها الغزو الأمريكي.
سيبقى الشرق الأوسط مركزاً للصدارة. وهو العصر الحديث للمعركة، والتي تشمل الاستخبارات ومكافحة الإرهاب والاستخدام الانتقائي للقوة الجوية المستمرة. كما وأن العقوبات الاقتصادية ستبقى سلاحاً فعالاً مفضلاً. لكن المعركة التقليدية تقترب من نهايتها لا محالة. فقرار الرئيس ترامب بالإنهاء قد أجاب على سؤال متى وليس على سؤال ماذا لو. وقرر بصفته قائداً عاماً على أن متى هي الآن. وكرئيس للولايات المتحدة فإنه يفي بوعد للشعب الأمريكي (الذي لم ينتقل أبدا إلى طابور ماذا لو). الآن تتحول الموارد التي كانت مخصصة في السابق لحفظ القوات الأمريكية في المنطقة، نحو النضال المستمر ضد الجانب الإيراني ومكافحة الفساد الذي تعاني منه معظم الحكومات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ونحو دعم حلفاء واشنطن الإقليميين في معركتهم من أجل السلام والازدهار.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: