هذه الورقة جزء من سلسلة: الإسلام السياسي تحت المجهر
القارئ لأدبيات الإخوان المسلمين، بشكل يحضر النظر والتروي، سيبدو له جليا بأن الإخوان المسلمين اليوم لا يختلفون عن نظرائهم بالأمس، ما داموا يصرون على الشرب من نفس الكأس بنفس الطريقة، إما بشكل مباشر أو غير مباشر، وهي كأس خطب ورسائل حسن البنا (1906 - 1949)، الرجل الذي أُلصقت به صفة الإمام ويتم تقديمه بكونه من بين المجددين في تاريخ الإسلام، إلى درجة الادعاء بأن الرجل يسري عليه الأثر المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم الذي مفاده: " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها "، ومن الملاحظ أن الإخوان ينظرون إلى رجالاتهم من مختلف الأقطار، بأنهم مجددون ويُقدَمون في الفضاء العام على هذا الأساس، أمثال: الترابي في السودان وأحمد الريسوني وعبد السلام يسن في المغرب والغنونشي في تونس.
والحقيقة أن التجديد لا يصدق إلا بتجديد فلسفة الفهم والنظر، في فهم الواقع والماضي واستشراف المستقبل، فضلا على أن تجديد المناهج في نقد وبناء مختلف المعارف يعني تجاوز القديم وإبداع ما هو أفضل منه قيمة.
لكن مع الأسف باسم التجديد أخذ البنا من التراث الإسلامي أسوأ ما فيه، فمن بين ما أخذ، هو وهم التفوق والأفضليه على الغير، بل وفي أفضلية الإخوان المسملين عن غيرهم من المسلمين، وفي هذا السياق نستحضر قول حسن البنا: " إن مهمتنا سيادة الدنيا وإرشاد الإنسانية كلها إلى نظم الإسلام الصالحة وتعاليمه التي لا يمكن بغيرها أن يسعد الناس.. "[1].
حدود الفهم والنظر إلى الواقع
عندما نبحث عن معنى نظم الإسلام الصالحة وتعاليم الإسلام عند الإخوان المسلمين، بين الأمس واليوم، نجد النتيجة باستدعاء كل ما هو كامن في التاريخ من تصورات وأقوال وأراء للأقدمين، وبهذا فهُم في هجرة مستمرة إلى الماضي، وفي نشاط وحيوية دائمة من أجل إعادة بناء صورة الإسلام كما كانت من قبل، فإذا كانت المدنية والحضارة المعاصرة تتصف بالتفوق العلمي والتكنولوجي... بالرغم من منزلقات الحداثة وهذا موضوع آخر، فلسان حال الإخوان المسلمين يقول بشكل مباشر أو غير مباشر، "أفضل أن نبقى على حدود المنهاج الفكري والمعرفي التُراثي"، بدل أن نستثمر مناهج المعرفة المعاصرة في خوض غمار التجديد والإصلاح الديني.
ويعد التجديد والإصلاح الديني المطلب الهام والرئيسي في وقتنا الراهن، ولكن بدلا من توجيه طاقات الشباب اتجاه الوعي بتحديات زمانهم وتجديد خطابهم، نجد البنا يوجه الشباب بقوله: "إن العالم كله حائر يضطرب، وكل ما فيه من النظم قد عجز عن علاجه، ولا دواء له إلا الإسلام، فتقدموا باسم الله لإنقاذه، فالجميع في انتظار المنقذ، ولن يكون المنقذ إلا رسالة الإسلام التي تحملون مشعلها وتبشرون بها"[2].
وتلك العقدة لصيقة بالإخوان المسلمين حتى هذه اللحظة، ويُجسدها ادعاء إنقاذ المجتمع، بيد أن التجارب التاريخية بعد رحيل حسن البنا أثبتت بأن الشباب المحسوبين على جماعته، سواء خطب فيهم أو قرأوا له، لم ينقذوا العالم بل ساهموا في تخريب أوطانهم من الداخل، تبعا لتصوراته وتوجيهاته عن الإسلام. والتي أصبحت فيما بعد تصورات جماعته؛ الإخوان المسلمين، ذات الرواية والأطروحة التي زرعها فيها حسن البنا، والخاصة بـ"الدولة الدينية".
وهذا الطرح صاحَب الجماعة حتى وصولهم إلى السلطة بعد أحداث ما يُعرف بـ "الربيع العربي"، ففي مصر من الطبيعي أن ينجذبوا لحظة رئاسة محمد مرسي، اتجاه الدولة الدينية في إيران، بشكل معلن أو غير معلن، كنموذج في وعيهم ينبغي محاكاته وتبنيه، وهي مسألة نفسية في وعي جُل جماعات الإسلام السياسي. بالعودة إلى الخطابات المؤسسة التي مفادها أن "الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بشأنها، فالخليفة مناط بكثير من الأحكام في دين الله... و لهذا يجعل الإخوان المسلمين فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم وهم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لابد منها، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لابد وأن تسبقها خطوات"[3]، وتلك الخطوات كما يُحددها حسن البنا "تبدأ بتكوين الفرد المسلم، ثم البيت المسلم ثم الشعب المسلم فالحكومة المسلمة، ثم الخلافة الإسلامية الكبرى التي تجمع ما مزقه الاستعمار"[4].
صحيح بأن البنا ألقى خطبه وكتب رسائله، في سياق سياسي وثقافي معين، وليس هناك في كل ما كتب ما يجعله منه رجل تجديد، فزمانه كان يضم الكثير من قامات العلم والمعرفة، فضلا عن أن رجالات النهضة من قبله دشنوا أفقا مفتوحا لموضوع الإصلاح، وهو الأفق الذي قزمه – أي حسن البنا- بفكره الذي جمع الناس حوله، كما أنه ليس فيه ما يجعله إماما، ليتبعه الناس فيه، صحيح له قدرات في تجميع واستقطاب جمهور من الناس، ولكن بدون غاية ولا هدف واضح يتصل بحرية الإنسان، وهذا شأن مختلف الأيدلوجيات عبر العالم.
عقدة الأستاذية في ثقافة الإخوان المسلمين
تتجسد عقدة الأستاذية والأفضلية عند الإخوان المسلمين، في أحد وجوهها بالثقافة المنقوصة في نظرتهم للآخر، التي تقدم هدف "السيطرة" على هدف "الحوار والمعرفة"، ولذلك نجدهم يقسمون العالم إلى "دار إسلام" و "دار كفر"، فنجدها تُعرف دار الإسلام "بكونها الدار التي يغلب عليها ظهور شرائع الإسلام، ويحكم فيها المسلمون بحكم الإسلام وتعاليمه، وإن كان غالب سكان تلك البلاد غير مسلمين. ودار الكفر بكونها الدار التي لا يحكم فيها المسلمون، ولا يظهر فيها تطبيق لتعاليم الإسلام، أو أن يكون المسلمون فيها أقلية غير حاكمة".
وهذه القضية كانت محل خلاف بين الفقهاء المسلمين فيما يخص هذا التقسيم للعالم، ومع أن الغالبية قبلته كأمر واقع، فإنّ فئة منهم افترضت وجود دارٍ ثالثةٍ هي دار الصلح، أو دار العهد. وحسب هذا المذهب فالإسلام اعترف بالشعوب غير الإسلامية التي أبرمت معاهدة أو صلحا مع المسلمين على أن تدفع الجزية. لكن فقهاء آخرون لم يقبلوا بهذا، وما اعترفوا أبدا بالصلح، وحجتهم أنه متى عقد سكان الإقليم معاهدة سلام، ودفعوا الجزية، فإنهم يصبحون بذلك ضمن دار الإسلام، وعلى الإسلام أن يضمن لهم الحماية. وكانت دار الإسلام - من ناحية نظرية - في حالة نزاع مع دار الحرب، لأن الهدف الأخير للإسلام هو أن يكون العالم بأسره تحت سيطرة المسلمين"[5].
وبينما أصبحت العلاقات الراهنة بين الدول، والمجتمعات، أكثر تشابكاً وتعقيداً، لا تزال جماعة الإخوان المسلمين، تختزل العالم في نظرتهم إلى الآخر وإلى الوطن ضمن حدود ذلك الفهم لدار الإسلام ودار الكُفر، وهنا لا نتحدث عن الإسلاميين وتصوراتهم، ولا نتوقف عند الأفراد وأراءهم، بل نتحدث عن المرجعيات التي انطلقت منها جماعة الإخوان المسلمين في بناء مواقفهم السياسية والاجتماعية، إلى درجة يلاحظ معها أن مرجعيتهم هذه تحيل بينهم وبين أن يكونوا أبناء زمانهم بدل أزمنة غيرهم.
أطروحات الدولة الإسلامية
بعد تجارب مريرة، حاول الدكتور أحمد الرسوني؛ وهو من بين زعامات الإخوان المسلمين، أن يجعل من مطلب الخلافة الإسلامية أو الدولة الإسلامية، مطلبا ثانويا وليس مطلبا ضروريا، ففي تقديره أن "الخطأ الكبير والمأزق الخطير الذي وقعت فيه وتقع فيه بعض الحركات الإسلامية، هو الانشغال بالوسيلة عن الهدف، وتضييع الهدف حرصا على الوسيلة، فكثيرون أولئك الذين أفنوا أعمارهم واستهلكوا حياتهم واستنفدوا جهودهم على طريق إقامة الدولة، من غير أن يظهر لهذه الدولة أثر ولا خبر. وربما لم تزد الدولة بفضل جهودهم إلا بعدا وعسرا. وهكذا فلا الدولة قامت بهم، ولا الأمة استفادت منهم"[6].
والحقيقة أن رأي الريسوني هذا لا ينطلق من تحول معرفي أو فكري يبشر بالخروج عن أقوال حسن البنا، بقدر ما يعكس نوع من يأس الجماعة في بلوغ الدولة الإسلامية التي تطبق شرع الله، خاصة إذا استحضرنا تجربتها في حكم السودان، وكذلك بالنظر إلى ما قامت به "داعش"، وهي تعلن عن تأسيس "الخلافة" المزعومة بالعراق عام 2014.
وقد بذل راشد الغنوشي ومن معه جهدا، ليظهر حزب النهضة في تونس، بكونه تجاوز تصورات حسن البنا، مبررا أنه لم تعد اليوم حاجة ملحة للتنظيمات العابرة للدول كما هو التنظيم الدولي للإخوان المسلمين[7]، ولم يتوقف الغنوشي عند هذا الحد، بل حاول أن يقدم تصورا لموضوع العلمانية بهدف الخروج من التصور الإسلامي في فهم العلمانية كضد ونقيض للإسلام[8].
والحقيقة، تظهر الكثير من الفروقات ما بين التنظيمات القُطرية للجماعة، كما هم في تركيا وفي تونس والمغرب وبين مصر، وبالأخص من جهة الخطاب، ولكن بالرغم من كل ذلك، فما قام به الغنوشي وحزب النهضة لم يكن كافيا لتجاوز المعضلة، -معضلة الانسداد على النسخة الأولى من جماعة الاخوان المسلمين-، وهذا من بين الأسباب التي جعلت الإسلامين في مصر، يجدو أنفسهم أمام الباب المسدود، فتصورات التونسيين لموضوعات الهوية والدين والحضارة والثقافة والإسلام، تصورات تتسم بالانفتاح على روح العصر والحضارة، في الوقت الذي تبدوا فيه أقوال وكتابات الغنوشي مضطربة ومتصارعة مع ذاتها، وهي الذات التي نحتها تنظيم الإخوان المسلمين، ومفكريهم الأوائل.
المواطنة في فكر الإخوان
تعد قيمة المواطنة من بين أهم ما تتميز به الدولة الحديثة، فالمواطنة هي "العلاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة"[9] فالمواطنة بمفهومها العام، تبقى هي الإطار الذي يجمع ويربط بين كل المواطنين، على أساس المساوة في الحقوق والواجبات، بمعزل عن انتماءاتهم الدينية والثقافية والعرقية...
بينما فصل الإخوان المسلمين، مفهوم المواطنة عن علاقة الفرد بالدولة، لأن نظام الدولة في تصورهم، يرتبط بنظام دولة "الخلافة"، كما هو مع الإمبراطورية العثمانية وما قبلها، وهو نظام يمثل فيه الحاكم سيادة الإسلام والمسلمين بشكل من الاشكال، ويستمد شرعيته في الحكم من منطلق اعتقادي، ولهذا فالحاكم بدرجة أولى يكون معنيا بأمر وحال من معه في العقيدة، ولهذا فالمواطنة عند الإخوان، لا حدود لها، وقد كان حسن البنا صريحا في هذا بقوله: "أما وجه الخلاف بيننا وبينهم فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية فكل بقعة فيها مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، وطن عندنا له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم.. "[10].
المشكلة التي تفرعت عن هذا الفهم، الذي ربط الوطنية بالاعتقاد، هي مشكلة لمن يكون ولاء الفرد وانتماؤه وخضوعه، هل للوطن ولسيادة القانون ومؤسسات الدولة، واعتبار المصالح العليا للوطن فوق كلّ اعتبار! أم للعقيدة التي يمثلها التنظيم وقراراته ومن على رأسه!هنا يكون الفرد أمام خيارين؛ إما أن يستجيب لمواقف الدولة وتصوراتها، وإما أن يكون ولاءه للتنظيم الذي ينتمي إليه، وهذه معضلة يمسك فيها الإخوان المسلمين بين طرفين الحبل فمن جهة فهم مع الولاء لأوطانهم، ومن جهة أخرى فهم مع الولاء للإسلام والمسلمين في كل مكان. وذلك بتقديم مفهوم الأمة "الأمة الإسلامية" كمفهوم قومي، وفصله عن مفهومه الحضاري والثقافي، ففي سياق مفهوم الأمة الإسلامية، تعايشت الكثير من الأقليات الدينية والمذهبية، بدءً من وثيقة المدينة التي جعلها الرسول أساسا للمواطنة بعد هجرته إلى المدينة.
فالمتتبع لطبيعة تجربة الإخوان المسلمين للحكم في مصر كمثال، سيدرك طبيعة التخبط والارتباك، لديهم ما بين الولاء لمؤسسات الدولة، والولاء لقرارات وتصورات الجماعة. والحقيقة أن هذه المشكلة تستمد بعض من وجوهها من بعض أوجه الفهم الضيق لموضوع الولاء والبراء، وذلك بموالات المسلمين بعضهم بعضا وتبرئهم من الكافرين، وهذا فهم لا يستقيم مع فلسفة القرآن وهدايته الموجهة للفعل الإنساني.
فكرة الولاء والبراء، بمعنى موالات المسلم للمسلمين في جميع قضاياهم بنصرته لهم، وبراءته من الكافرين في كل مكان، تنسف فكرة المواطنة من الأساس، فمثلا من يؤمن بهذه الفكرة وهو يقيم في دولة من دول أوروبا كمواطن له جنسية البلد وله كامل الحقوق والواجبات في ذلك البلد، وإذا بمشكلة وقعت بين تلك الدولة التي هو فيها أي وطنه، وبين دولة يدين أهلها بالإسلام، فبموجب فكرة موالات المسلمين، سيتخلى عن وطنه، وينحاز إلى موقف تلك الدولة التي يدين أهلها بالإسلام حتى ولو كانت ظالمة، وسيتبرأ من أهل وطنه لأنهم "كفار" في وعيه وإدراكه.
[1] حسن البنا، رسالة إلى أي شيء ندعو الناس
[2] حسن البنا، رسالة إلى الشباب، مجموعة رسائل الإمام الشهيد، الإسكندرية، دار الدعوة، 1992م
[3] حسن البنا، رسالة المؤتمر الخامس (1938م)، مجموعة رسائل الإمام الشهيد، الإسكندرية، دار الدعوة، 1992م، ص144
[4] حسن البنا، (رسالة إلى الشباب) المرجع السابق، ص177
[5] انظر: دار الإسلام بحث في المفهوم، عبد الله إبراهيم، مجلة التسامح، اصدار وازرة الأوقاف والشؤون الدينية، سلطنة عمان، تصدر الآن باسم مجلة "التفاهم" العدد، 17، سنة 2007م.
[6] أنظر: الموقع الرسمي للأستاذ أحمد الريسوني/ مستقبل الإسلام بين الشعوب والحكام/ مارس 18, 2019 https://raissouni.net/900
[7] راشد الغنوشي، حاشية كتاب الحريّات العامّة في الدولة الإسلاميّة (دمشق: دار البراق، 2001)، ص 170-171.
[8] راشد الغنّوشي، مقاربات في العلمانيّة والمجتمع المدنيّ (دار المجتهد للنشر والتوزيع، تونس، 2011)، ص 196.
[9] أنظر: دائرة المعارف البريطانية
[10] مجموعة رسائل حسن البنا، م. س. ص. 21
*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: