مقالات رأي

الملل يفتح الباب للعزلة والكآبة.. والإرهاب

تستعرض هذه المادة الأسباب التي تجعل الشباب بشكل عام والشباب العربي على وجه التحديد ينضمون إلى الجماعات المتطرفة ويتجهون نحو الإرهاب، والدور الذي من الممكن أن تقوم به الحكومات العربية للحد من هذه الظاهرة.

الكاتب: حسن إسميك
تاريخ النشر: 23/01/2021
الناشر - STRATEGIECS

حين تتحدث الحكومات عن كيفية الحد من مخاطر الإرهاب، فإنما تحكي عن سياسات يرتكز معظمها على الأمن: الكشف عن الخلايا المتطرفة وقمعها واستهداف الدعاية  التي يبثها المتطرفون عبر الإنترنت.

لكن في الواقع، إن الطريقة الأكثر فعالية لحماية المجتمعات من هجمات جماعات إجرامية  تسعى إلى تحقيق مآرب سياسية من خلال العنف والرعب، تتمثل ببساطة في جعل الحياة العادية أكثر إثارة للاهتمام.

إن "الأيدي العاطلة هي ورشة الشيطان"، كما جاء في الكتاب المقدس، وهذا صحيح  فالأشخاص اللذين يعملون ويتمتعون بحياة مُرضية عاطفيًا وفكريًا، هم أقل عرضة للتجنيد من قبل الجماعات الإرهابية الغاضبة، مقارنة بالشباب القلقين الذين لا يفعلون شيئًا.

وعليه، نعم، ربما يكون السبيل الأفضل للحد من الإرهاب في العالم الحديث يتجلى في جعل حياتنا اليومية أكثر حيوية وأقل إحباطاً.

ويدعم العلم، قديمه وحديث، الاستراتيجيات الرامية الى تنشيط الحياة ومعالجة القنوط الذي يتخللها. فقد أظهرت التجارب التي أجراها علماء فيزيولوجيا في خمسينيات القرن الماضي، برئاسة مرشح جائزة نوبل الكندي السير دونالد أو. هب، على الأشخاص الأصحاء نفسيا وعقليا، كيف أن الحرمان الحسي - الملل الشديد في نهاية المطاف - يمكن أن يتسبب في فقدان الأشخاص للقدرة على معاينة الأشياء وإدراكها.  وتشتت تفكير المشاركين في التجارب وباتوا أكثر تشوشاً وأقل منطقية، كما دلّ تعبيرهم عن مزيد من الايمان بالمتخيل والخارق للعادة.

وبعد أكثر من نصف قرن على محاولات العالم هب الأولى، أُجريت العام 2016، بحوث حول موضوع الملل وتداعياته، وذلك في كلية كينغز كوليج لندن وجامعة ليمريك في ايرلندا، وخلصت إلى أنه  أدى إلى تطوير مواقف سياسية أكثر تطرفاً.

عمل الباحثون على قياس المواقف السياسية لمجموعة من الأشخاص - بتصنيفهم وفق تدريجات  من أقصى اليسار (والليبرالي) إلى المعتدل فاليمين المتطرف (والمحافظ).

وطُلب من بعض المشاركين نسخ كتاب عن خلط الخرسانة (وهذا بالتأكيد عمل ممل لأي شخص لا علاقة له بإدارة البناء). وبعد ذلك، وجد الباحثون أن لدى خبراء الخرسانة الجدد هؤلاء آراء سياسية أكثر تطرفًا قابلة للقياس إحصائيًا من مجموعة التحكم بالتجارب التي ظلت محفزة عقليًا.

وجاء في الاستنتاجات التي اشتمل عليها التقرير أن "الملل التجريبي يؤدي إلى توجهات سياسية أكثر تطرفًا"، وأن "الأشخاص الذين يشعرون بالملل بسهولة من بيئتهم يلتزمون بنهايات أكثر تطرفًا في الطيف السياسي مقارنة بنظرائهم الأقل مللًا." وأخيرًا، وبعد مقابلات إضافية، انتهى الباحثون إلى أن "التوجهات السياسية المتطرفة نسبيًا بين أولئك الذين يشعرون بالملل بسهولة يمكن أن تُنسب إلى بحثهم المعزز عن المعنى".

في سياق متصل، من الملاحظ ان الحياة قد تكون مشوبة بالملل بالنسبة لمن لايملكون الطاقة اللازمة أو المبادرة لجعل أيامهم أكثر تنوعاً في المجتمعات المتقدمة نسبيًا، التي تضمن المأوى والتغذية لمعظم أفرادها، ولا تشهد حالات من هذا النوع من الحرمان الحسي الشديد. وفي مجتمعات من هذا القبيل، هناك ما يكفي من وسائل الترفيه عبر الإنترنت لإبقاء الشباب غير الناضجين عاطفياً من الداخل، بعيدًا عن التفاعل مع الأخرين وجهاً لوجه، بحيث يتقدمون في السن ببطء، ويعيشون غالبًا في المنزل مع والديهم.  

غير أن  أنواع التسليات هذه التي تشغل صاحب العلاقة، لن تعالج الملل أبدًا بطريقة مستدامة - تمامًا كما قد يعيش الجد المسن حياة مليئة بالخمول في منزل لرعاية الكبار في السن يحدق في التلفزيون.

وعلى الرغم من عدم وجود خيارات أخرى أمام الرجل الضعيف في السن، خاصة إذا كان يعاني من الخرف أو أنه عاجز عن الحركة، فإن الشاب أو الشابة المحبطين ممن يشعرون بالملل قد يختارون بالتأكيد قلب حياتهم رأسًا على عقب والانضمام إلى مجموعة متطرفة. يحدث هذا بشكل خاص إذا كانوا ممن يتلقون إمدادات  من الرسائل المشوهة عبر الإنترنت، من دون أن تكون لديهم تجارب حقيقية من شأنها أن تحقق نوعاً من التوازن مع ما يردهم عن طريق الشبكة العنكبوتية.

ولعل هؤلاء الأشخاص الذين تكون حياتهم فارغة هم بمثابة  أوعية مثالية للشخصيات السياسية التي تتلاعب بالآخرين وتتطلع إلى ملء العقول بالكراهية والغضب، مع القليل جدًا من الخبرة الحياتية، ما يجعل كلا من المتلقين لقمة سائغة للرسائل التي تعتبر أن الأعداء المتخيلون هم دون البشر ويستحقون الموت.

يعرف ذلك أولئك الذين يجندون الناس لخدمة أهداف معينة. ويتواصلون مع الشباب الضعفاء عاطفياً  ويغذونهم بأوهام حول المؤامرات ما يجعل المستهدفين يشعرون بمزيد من العزلة والغربة والغضب.

ثم يعرّفونهم عبر الإنترنت على شباب آخرين ممن تنتابهم المشاعر نفسها. وعندها يبدأ الأقران بالضغط على بعضهم بعضاً، ويصبح الشعار "نحن ضد العالم" سيد الموقف. وهكذا تبدأ محاولات إقامة روابط بين الشباب مشتتي الذهن ممن يشعرون بالملل، وتجري دعوتهم بعد ذلك للمشاركة في وحدة ناشطة ضمن مجموعة راديكالية، وقد تكون من النوع الذي يمارس العنف.

وقد استُخدمت  هذه الأساليب الملتوية مرارًا وتكرارًا، بنجاح في جميع أنحاء العالم، ومن قبل داعش، على سبيل المثال.

على الرغم من أن التذمر والقنوط حاضران في العالم كله، إلا أنهما أشد خطورة في بعض المناطق منهما في مناطق أخرى. وللأسف، فإن العالم العربي معرض بشكل خاص لهذه المشكلة، خصوصاً وأنه يعاني من  الأفكار المحافظة والعدوانية الذكورية، بينما تفشل المجتمعات العربية في توفير وظائف ديناميكية وفرص اجتماعية وثقافية يمكن أن توجه طاقات أبنائها وتستخدمها بشكل فعال.

واللافت أن أعمار حوالي 63٪ من سكان الشرق الأوسط تقل عن 30 عامًا، في حين أن معدلات البطالة في المنطقة تقترب من ضعف المتوسط ​​العالمي. ونظراً إلى أن بعض المجتمعات العربية سلطوية  لا تتمتع بالديمقراطية الكاملة، غالباً ما يشعر الشباب فيها أنهم مهمشون ومستبعدون من السلطة وعملية اتخاذ القرار حتى على المستوى المحلي. ويحس هؤلاء الشباب بأنهم غير قادرين على اتخاذ إجراءات عملية للتعامل مع التحديات التي يواجهونها.

وقد تفاقمت هذه الإحباطات لتطفو على السطح خلال ما يسمى بـ" الربيع العربي". ولكن مع فشل هذه الاحتجاجات في تحقيق الوعود التي حملتها أو تخليها عنها  - حسبما تبين المظاهرات الأخيرة في تونس بسبب الاقتصاد الضعيف في ذلك البلد - فإن خطر انتشار التطرف واضح تمامًا.

من الواضح أن لدى هؤلاء الشباب إرادة حرة ويتحملون مسؤولية كبيرة لانتشال أنفسهم من فخ الملل كي يعيشوا حياة ممتعة ومثيرة بشكل مستدام.

 بيد أن الحكومات تستطيع أن تفعل الكثير. وعليها أن تتبنى سياسات وخطط شاملة لمواجهة خطر الإحباط لدى الشباب العربي. ويجب أن تبذل المزيد من الجهود للقضاء على البطالة.

  كما ينبغي بالحكومات العربية أن تعمل بجدية أكبر لتعزيز مشهد اجتماعي وثقافي مليء بالحيوية يحفز الشباب، ويولد حياة  ثقافية متطورة تدعو إلى الطموح والرغبة في تحقيق الإنجازات. ببساطة، يجب أن تخصص الحكومات ميزانيات لدعم الابتكار وتمكين جيل الشباب.

بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يلعب مجتمع الأعمال دورًا أكبر في خلق فرص التدريب وريادة الأعمال بدلاً من الاعتماد على الشبكات والنماذج التجارية القائمة. الشباب العربي غني بالإمكانيات، والمواهب، والتصميم - وتحتاج الشركات والأعمال إلى الاستفادة من هذه الطاقة المزدهرة.

لذلك، يتعين على الحكومات العربية أن تتخذ الإجراءات الفعلية اللازمة  وألا تضيع ثروتها من الشباب في وقت تتقدم فيه مجتمعات كثيرة في السن. ومن خلال تعزيز مجتمع واقتصاد ديناميكيين وقادرين على احتضان الجميع، ستخلق هذه الحكومات فرصًا للشباب من شأنها أن تسمح لهم باستغلال امكانيتهم بطرق مناسبة ومفيدة.

والواقع أن البديل كالح لا يدعو الى التفاؤل، إذ أن عدداً متزايداً من الشباب الساخطين يعيشون في منأى عن بعضهم بعضاً، وهم معرضين للملل وخطر أن يسبب ذلك لهم العزلة والانزواء، مما قد يجعلهم فريسة سهلة للفاعلين الخبثاء عبر الإنترنت الذين يبحثون عن جنود متطوعين لتحقيق أهدافهم المتطرفة.

 

YOUR_SUBSCRIBTION_COULDNOT_BE_SAVED
Your subscription has been successful. YOUR_SUBSCRIBTION_HAS_BEEN_SUCCESSFUL

حسن إسميك
الكاتب: حسن إسميك رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS