بعد يوم واحد فقط من تنصيب جو بايدن الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة، شهدت العاصمة العراقية هجوماً انتحارياً مزدوجاً، وصفه محللون بأنه الأكثر خطورة منذ نحو ثلاث سنوات، إذ أسفر عن سقوط 32 عراقياً وإصابة 100 آخرين. وما لبث تنظيم “داعش” الإرهابي أن أعلن صباح اليوم التالي مسؤوليته عن هذا التفجير.
يدل هذا التفجير وكل تحركات “داعش” الأخيرة على أن خطر التطرف ما زال محدقاً بالعراق، وأنه أبعد ما يكون عن الاستقرار، وبالتالي يجب ألا تتغاضى الإدارة الأميركية “الديمقراطية” الجديدة عن دورها فيه لأن ذلك يؤثر على مستقبل البلد أولاً، وعلى الاستقرار في الشرق الأوسط ثانياً، وعلى مكانة الولايات المتحدة العالمية وموثوقيتها لدى حلفائها ثالثاً.
وصف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، خلال حملته الانتخابية سنة 2016، سلفه الديمقراطي باراك أوباما بأنه “مؤسس” تنظيم “داعش”، وهاجم أيضاً حينها منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، معتبراً أنها “شريكة في تأسيس” التنظيم. لقد حمّل ترامب، بالتلميح مرة وبالتصريح مراراً، أوباما مسؤولية السماح للمتشددين بالانتشار، متهماً إياه بأنه متعاطف بالفعل مع التنظيم. تعود هذه الاتهامات اليوم إلى أذهان البعض، خاصة بعد التفجير الضخم الذي شهده العراق بالتزامن مع تنصيب بايدن، حيث يتساءلون: لماذا أوشك التنظيم على الاختفاء خلال ولاية الجمهوري ترامب؟ ولماذا عاد يتحرك وينشط مع استلام الحزب الديمقراطي مقاليد السلطة في الولايات المتحدة؟ وهل سيكون حكم بايدن مجرد امتداد لولاية أوباما التي نشأ “داعش” وتوسع واستشرى خلالها؟ ثم هل سيتم تجاوز كلّ المنجزات التي تحققت في عهد ترامب لجهة ضرب الإرهاب والحركات الإسلاموية الأصولية، فتعود الإدارة الأميركية في العراق والمنطقة كلها إلى المربع الأول؟ وهل سينسحب هذا على ملفات أخرى مهمة في المنطقة كالملف السوري أو ملف السلام العربي – الإسرائيلي، فتذهب كلّ الجهود التي بُذلت أدراج الرياح؟
تقف إدارة بايدن اليوم على المحك في ما يخص ملف العراق، إذ يقع على عاتقها، شاءت ذلك أم أبت، التعامل مع إرث سنوات من التراخي الأميركي والاستراتيجيات المشوشة والضبابية غير المتسقة التي تركت العراق لقمة سائغة أمام الانقسامات الطائفية والتطرف والمطامع الإقليمية عموما، والإيرانية منها على وجه الخصوص.
والواقع أن وصول بايدن إلى سدة الرئاسة الأميركية يثير مخاوف كثيرة لدى العراقيين على المستويين الرسمي والشعبي، إذ يعدُّ بنظر الكثيرين متحمساً لمشروع تقسيم بلادهم، فزعيم البيت الأبيض الجديد ليس بالغريب عن الملف العراقي إذ كان عام 2002 رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، ولعب دوراً مهماً في منح الرئيس جورج بوش الابن الإذن ببدء الحرب على العراق.
وبعد ذلك ببضعة أعوام، وتحديدا في 1 مايو 2006، كتب السيناتور بايدن مع ليزلي غليب، مقالا بعنوان "الوحدة من خلال الحكم الذاتي في العراق" نشرته صحيفة نيويورك تايمز، اشتمل على دعوة إلى تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق على أساس مذهبي وإثني (واحدة شيعية وأخرى سنية وثالثة كردية). واعتبر الكاتبان أن ذلك هو الحل الوحيد للمشكلة العراقية.
والحق أنني أتمنى فعلاً أن يكون بايدن قد غيّر رأيه اليوم بعد مرور نحو 15 سنة وبعدما صار رئيساً للولايات المتحدة، وإلا فإن العواقب ستكون وخيمة.
لكن لنتذكر أيضاً أن مهمة الإشراف على ملف العراق في عهد الرئيس أوباما أوكلت إلى بايدن بصفته نائباً للرئيس. لذلك فهو على دراية دقيقة بتفاصيل المشهد العراقي كلها، كما أنه يدرك أهميتها وخطورتها (الجدير بالذكر هنا أن كثيراً من المتخصصين بالشأن العراقي يرجحون أن يكون بايدن مسؤولاً بشكل أو بآخر عن ازدياد نفوذ قاسم سليماني في العراق، والذي شهد المزيد من التنامي خلال الفترة الأخيرة من ولاية أوباما). وبالإضافة إلى خبرة الرئيس الجديد بالملف العراقي، يتمتع كل من وزير الدفاع والخارجية لويد أوستن وأنتوني بلينكن بمعرفة وثيقة بالأوضاع في العراق، لذلك ليس ثمة حجة أمام هذه الإدارة كي لا تورده على قائمة أولوياتها، أو تعتبره تفصيلاً “ملحقاً” بملف الاتفاق النووي الإيراني.
تسود هذه النظرة في أوساط الباحثين والمحللين، ويعود السبب في ذلك غالباً إلى أن الإدارة الديمقراطية السابقة، أي إدارة أوباما، وفي إطار سعيها إلى توقيع الاتفاق النووي مع النظام الإيراني، تجاهلت تدخل طهران المدمر في العراق، وأطلقت يدها في سوريا واليمن ولبنان أيضاً، واليوم يعود كثير من أعضاء فريق أوباما للعمل ضمن إدارة بايدن، ما يثير القلق حيال نيتهم الرجوع إلى ذلك النهج، خاصة أن العودة إلى الاتفاق النووي تتصدر جدول أعمال الرئيس الأميركي الجديد.
سينسحب التعاطي الأميركي مع ملف العراق بالضرورة على ملفات المنطقة كلها، وتوحي مهادنة إيران فيه بأن إدارة بايدن غير ملتزمة بالتصدي لمشاريع الإسلام السياسي في المنطقة، وستتركها بالتالي بين المطرقة الإيرانية وسندان الأتراك، مع العلم أن التململ من زيادة النفوذ الإيراني في العراق وسوريا على وجه الخصوص، قد بلغ حداً يمكّن الولايات المتحدة بموافقة شعبية من كسر الطوق الإيراني عن هذين البلدين، ومعهما لبنان طبعاً، وبالتالي تدمير أحلام طهران ببناء “جسر مقاوم” عبر العراق وسوريا ولبنان وصولاً إلى غزة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستعمد الولايات المتحدة إلى القيام بذلك، أم أنها تريد الحفاظ على إيران كأداة لمناكفة وإزعاج مصر وإسرائيل والتأثير على دول الخليج بطرقها الخاصة؟ وقد يرى البعض شيئاً من المبالغة في هذا الطرح، لكنني أجد السؤال مشروعاً جداً.
لا أريد أن أبدو متشائماً، أو أن أوحي للقارئ بأنني أرى كلّ أبواب الحل مسدودة؛ بل على العكس من ذلك، ورغم كل الهواجس أرى أن العراق اليوم لا يخلو من الفرص التي يمكن للإدارة الأميركية استغلالها وتوظيفها لإنقاذ البلد الذي ساهمت في وصول أوضاعه إلى ما هي عليه اليوم. تتمثل أولى الفرص طبعاً في الشباب العراقي الذي انتفض أواخر العام 2019 رفضاً للمحاصصات وللسياسات القائمة على الطائفية التي تزرع بذور الانقسام والفتن بين سنة العراق وشيعته وأكراده، وتجبر بعض مكونات المجتمع العراقي على الارتهان للخارج، والاستقواء به على شركائهم في الوطن، وتمكن دولاً مثل إيران من التغلغل والتغول في العراق وتكوين الميليشيات فيه أيضاً، وبالتالي سلب قراره والحكم عليه بمستقبل من النزاع وعدم الاستقرار.
فَقَدَ الشباب العراقي الثقة بقياداته السابقة، ولا تبدو حكومة الكاظمي أحسن حالاً من تلك التي سبقتها، فقد فشلت هي الأخرى في استقطاب هؤلاء الشباب وتلبية بعض تطلعاتهم، وما زالت هيبة الدولة منتهكة، ويبقى قرارها مصادرا فيما الميليشيات “الشيعية” الممولة من إيران تصول وتجول وتطغى على الجيش الوطني، وتستهدف شباب “الحراك التشريني” بالقتل والسجن والخطف. ورغم ذلك فالنسبة الكبرى من الشباب الثائر هم من الشيعة الذين فقدوا الثقة بنخبهم السياسية. فهي تدعي الالتزام بالدين وتوهم عامة الناس بأنها مسؤولة عن التحضير لظهور المهدي المنتظر.
ورغم قتامة هذا المشهد الحالي وسوداويته، إلا أن الجيد في الأمر رفض غالبية الشيعة ومعارضتهم لقيادات الإسلام السياسي بعدما تكشّف أنهم مجرد أدوات بيد إيران، وأنهم متعطشون للسلطة فقط، غير آبهين بالشعب العراقي ومستقبله. ولا ننسى الأداء الاقتصادي السيء، والاختراق الأمني الذي تجلى بوضوح في حملات الاغتيالات التي استهدفت أفراداً من إدارة الكاظمي نفسها. لقد حاول رئيس الوزراء اللعب على حبل التوترات المشدود بين إيران والولايات المتحدة، لكن ذلك أدى إلى تفاقم قتامة المشهد في البلاد.
أما اليوم، فالعراق يعيش مرحلة دقيقة، إذ يستعد للانتخابات الوطنية في أكتوبر ما يعني أن حكومة جديدة ستشكل. لذلك من الضروري حماية هذه الانتخابات من هجمات قد تشنها ضدها القوى السياسية الطائفية الفاسدة، أو قادة الميليشيات ووكلاء إيران في العراق أيضا سواء من الشيعة أو من أصحاب مشاريع الإسلام السياسي في نسخته السنية، والعمل على إسماع صوت العراقيين الحقيقي وإيصال ممثليهم الأكفاء إلى البرلمان. هذه فرصة مهمة لتغيير الوضع في العراق، لكن استثمارها لن يكون بالأمر السهل.
لا يمكن للولايات المتحدة لعب دور بناء في العراق إذا اعتبرته ملفاً ثانوياً، ولن تستطيع حماية الأحزاب السياسية التقدمية فيه، إذا استمرت بالسماح للعناصر المتطرفة بمهاجمة المصالح الأميركية في العراق، وليس المقصود هنا السفارة والقواعد الأميركية وحسب، بل بنى العراق التحتية والفوقية، ومنشآته النفطية وحدوده، خاصة تلك التي تربطه بدول الخليج والأردن، بالإضافة إلى شبابه. وعلى الرئيس بايدن الذي وعد بنشر “قيم الديمقراطية الأميركية”، أن يدعم الشباب العراقي في “حربهم” ضد الطائفية وكل ما يرافقها من فساد ومحسوبيات وإقصاء وتطرف.
وفي الختام كما في البدء، يجب ألا تتعامل الإدارة الأميركية مع العراق من منظور الأجندة الإيرانية فقط، فهذا قصر نظر واضح. العراق في صميم طموحات إيران وسياساتها التوسعية في المنطقة، والتي تعد جزءاً رئيساً من المشكلة يجب معالجته، خاصة مع تماديها في اللعب سياسياً على الوتر الديني والطائفي، وتذرعها بالدفاع عن مقامات آل البيت والمزارات الشيعية المقدسة، بينما غايتها خرق سيادة العراق والسيطرة عليه، علماً بأنه لم يتأخر يوماً بالدفاع عن مقدسات طوائفه جميعها، ورحب دائما بالزوار من الوطن العربي والعالم سواء من الشيعة أو متصوفي السنة. ومع أن إيران تحاول تقليد إسرائيل في الخفاء (قضية الوصول إلى حائط المبكى عند اليهود) فهي تحاربها في العلن، لكن خلافاً للإيرانيين، كان اليهود الكنعانيون شركاء في هذه الأرض قبل أن يُخرجهم الفلسطينيون القدماء منها.
خلاصة القول، إن أي تراجع أميركي في الملف العراقي مهما كان بسيطاً سيعني لا محالة استيلاء إيران على هذه الدولة العربية، وتمددها الذي لن يتوقف بالطبع عند حدود العراق، بل سيسهم في تغذية أطماع طهران وطموحاتها للهيمنة في الشرق الأوسط وضرب أي محاولات لتحقيق السلام فيه.
إذا أرادت الإدارة الجديدة في البيت الأبيض أن تجد حلاً مستداماً للملف النووي الإيراني، عليها حكماً مواجهة أجندة إيران التوسعية في المنطقة، فلا تنفصل هذه عن ذاك، والعراق منطلق مهم لهذه المواجهة، فتنبغي مساعدته على استعادة سيادته، وتحقيق استقلاله واستقراره، ليستعيد موقعه كقوة وازنة في المنطقة، قادرة على لعب دور مهم في الشرق الأوسط، وترجيح كفة السلام فيه. وعلى السياسيين العراقيين أن يتعاملوا بمزيد من الانفتاح مع الحليف الأميركي، وأن يعتمدوا أكثر على حلفائهم الإقليميين في الرياض وعمّان والقاهرة وأبوظبي في مواجهة التوغل الإيراني.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: