أظهرت الأيام الأولى من حكم الرئيس الأمريكي، جو بايدن، تراجعه عن بعض القرارات التي أصدرها ترامب، كالعودة إلى بعض الاتفاقيات مثل اتفاقية باريس للمناخ، وإلى عضوية بعض المنظمات مثل منظمة الصحة العالمية، ناهيك عن إصداره لأوامر تنفيذية تُلغي بعضاً ممّا أصدره الرئيس السابق، دونالد ترامب، على الصعيد الداخلي كقوانين الهجرة وإجراءات الاستجابة لجائحة كورونا اقتصادياً وصحياً.
وفي هذا الصدد، فإن ما يهم الباحثين في العلاقات الدولية هو نقاط التحول التي ستُحدثها إدارة بايدن في السياسة الخارجية للبلاد، وما إذا كانت قادرة على "تصحيح المسار" وإعادة ضبط توازنات الحلفاء والخصوم على حدٍ سواء.
ولربما أدّت قرارات الرئيس ترامب التي كانت "مرتجلة" في العادة إلى التشكيك بالرأي السائد القائل بأن هوية وشخصية ساكن البيت الأبيض لا تؤثران على قرارات السياسة الخارجية، لأن عملية صنع القرار هي عملية مؤسسية بيروقراطية تخضع لحسابات معمّقة تزن الموقف بما يضمن أكبر المكاسب – أو أقل الكلف – وفق منظور المصالح الحيوية للأمن القومي الأمريكي، مما يجعل خيارات الرئيس محدودة فيما تمليه الدراسات والتوصيات الموضوعية المنهجية.
وهنا فمن الضروري التفريق بين عمليتين تدخلان في تحديد قرار السياسة الخارجية؛ وهما: عملية صنع القرار التي يقوم بها مختصون يعملون في مؤسسات سيادية (كوزارة الخارجية والبنتاغون والوكالات الأمنية المعنية بجمع المعلومات) حيث يتم خلالها إعداد البدائل المناسبة ورفعها إلى الجهاز التنفيذي الرئاسي. وهنا تأتي العملية الثانية الأكثر أهمية؛ وهي عملية اتخاذ القرار التي يتم فيها اعتماد بديل ما من البدائل المقترحة من قبل الرئيس أو وزير الخارجية.
ولا يعني ذلك أن التوجهات الشخصية والأيديولوجية لا تلعب دوراً في قرارات السياسة الخارجية، فوفقاً للعالِم في السياسة الخارجية وصاحب نظرية صنع القرار "Decision – Making"، ريتشارد سنايدر؛ بما أن العمليات والمراحل التي تمر فيها قرارات السياسة الخارجية تتم عبر أشخاص، فلا بد أيضاً من دراسة عقائد وسيكولوجية هؤلاء الفاعلين في هذه العملية المؤسسية، لأن الفرد لا يستطيع تحييد تحيزاته وانطباعاته وخبراته الخاصة – تماماً – عمّا يمارسه من عمل.
وسيكون فريق بايدن حذراً في التراجع عن اتفاقيات دولية أخذت الصفة القانونية للاعتبارات التالية:
سياسياً: تُدرك واشنطن أن مصداقيتها كطرف يفي بالتزاماته الدولية قد تراجعت في السنوات الأربع الماضية، وإذا ما عاكست إدارةُ بايدن إدارةَ ترامب – التي بدورها كانت تعاكس إلى حدٍ ما إدارةَ أوباما – سيُلحق ذلك الضرر بسمعة الولايات المتحدة وستنخفض قدرتها على ممارسة التأثير الدبلوماسي والضغط على الدول نحو احترام القواعد المسيرة للنظام الدولي.
ووفقاً لنموذج الواقعية التقدمية "Progressive Realism" في العلاقات الدولية الذي يدعو بعض المنظرين الأمريكيين إلى التمسك به، يتعيّن على الساسة الأمريكيين العمل على تسخير الحوكمة الدولية لخدمة المصالح الأمريكية، وهذه الحوكمة تتم عبر الانخراط الفاعل في المؤسسات الدولية والتأكيد على الالتزام بالقانون الدولي الذي تطور في سياق تاريخي كانت فيه الولايات المتحدة أحد أبرز المؤثرين، مما يعني أنه تطور متوائم مع الرؤية الأمريكية للواقع.
فلا يمكن لاستخدام القوة الصلبة أن يكون مُقنعاً ومُبرراً ما لم يرتكز على شرعية دولية تدعمه، وإذا رسّخت إدارة بايدن الانسحاب من الاتفاقيات القائمة، فلن يكون بمقدور واشنطن التعامل مع حلفائها وخصومها على بينة واضحة، وتوفير الزخم اللازم لدعم خطواتها العسكرية إذا ما اضطرت إلى تنفيذ عمل عسكري ضد تهديد ما.
ويُصنَّف بعض أعضاء فريق بايدن على أنهم واقعيون تقدميون، ولكن قدرتهم على التطبيق العملي للنهج النظري ستكون مقيدة بالاعتبارات الواقعية، فلا يمكن مثلاً مواجهة الإرهاب بوسائل الترغيب والتأثير الدبلوماسي، وكذلك لا يمكن التعامل مع التهديدات الاقتصادية التي تشكلها الصين عبر المضي قدماً في مبدأ "الاعتماد الاقتصادي المتبادل" الذي تدعو له "الواقعية التقدمية"، لأن هذا المبدأ - بحسب خبراء أمريكيين - تسخره بكين بصورة احتكارية عبر اقتصادها المدار حكومياً لزيادة تغلغلها في النظام الاقتصادي السياسي الدولي.
قانونياً: تعد الاتفاقيات الدولية التي تربط كيانين قانونيين - أو أكثر - من شخوص القانون الدولي مُلزِمة من الناحية القانونية، بمعنى أنه يترتب على الإخلال بها أو إنهاء العمل بها - بطريقة أحادية غير منظمة - مسؤولياتٌ قانونية قد تتجاوز في تداعياتها العلاقات مع أطراف الاتفاقية.
أما محلياً، فيلزم مراعاة الاعتبارات التشريعية والبيروقراطية الناظمة لإنهاء العمل بالاتفاقيات الدولية، ولن تكون هذه العملية سهلة في ظل هذا الاستقطاب الحزبي الذي وصل حتى إلى المستوى المهني. فقد كشف تقرير نشرته صحيفة "The Washington Post" في يناير 2021 عن أن الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، عيّن ورشّح 35 شخصية سياسية لشغر مواقع مهنية في أواخر فترته الرئاسية.
وهذا "التسييس" لهذه المناصب سيزيد من صعوبات فريق بايدن في المضي قدماً نحو اتخاذ قرارات تلغي إجراءات سابقة تم اتخاذها في عهد ترامب، لا سيما وأن إقالة أو فصل هؤلاء الموظفين سيصطدمان بعقبات قانونية تتعلق بحقوقهم الوظيفية.
خلاصة القول؛ إن إعلاء الإدارة الأمريكية لقيمة الاستقرار السياسي فيما يتعلق بالاتفاقيات الدولية النافذة سيُسهم في خفض الاضطراب الدولي الحالي، حتى لو كان هذا "الاستقرار" على حساب صوابية القرار المتخذ، فمن الأجدى عدم إنهاء العمل باتفاقية ملزمة قانونياً دون السعي الحثيث إلى معالجة أوجه القصور فيها عبر التوافق مع الأطراف المعنية على تعديلها أو إضافة ملحق أو إلغاء بعض البنود.
وبناء على ما سبق، يتعين على واشنطن تدارك موقعها كطرف ضامن للأمن والسلم الدوليين المرتكزَيْن على الالتزام بالعهود والمواثيق، وعدم إعطاء خصومها، كالصين وروسيا، الفرصةَ للبروز كطرف يراعي التزامات القانون الدولي على حساب المكانة الأمريكية.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: