كان لأحداث 6 يناير أثراً بالغاً على الولايات المتحدة ومجتمعها الأمني على وجه الخصوص، بعد أن تمكنت مجموعة من أشد المؤيدين للرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، من اقتحام الكونغرس واللجوء إلى العنف الذي أودى بحياة 5 أشخاص، وتسبب في تأخير العملية الدستورية المتعلقة بإقرار نتائج المجمع الانتخابي وفوز الرئيس جو بايدن في الانتخابات.
وفي أعقاب ذلك، تدور اليوم مناقشات حادة وواسعة في الولايات المتحدة والعالم أجمع حول الأسباب التي حالت دون اتخاذ وكالات إنفاذ القانون للإجراءات اللازمة من أجل منع الحادث والتقليل من تداعياته المباشرة وغير المباشرة، بالرغم من التوسع في التجهيزات والترتيبات الأمنية في البلاد منذ الحادي عشر من سبتمبر، ناهيك عن الكثير من التوقعات السابقة التي حذّرت ونبّأت بالحدث.
وعليه، تسعى هذه المادة إلى توصيف الفشل في منع الهجوم من خلال استعراض مصطلح "الإرهاب المحلي" وتعريفاته، وأبرز الجماعات التي تندرج ضمنه، وتقييم حالة القوانين الناظمة له، ومدى جهوزية وكالات إنفاذ القانون لمثل هذه الهجمات.
وفي ضوء ما سبق، سنحاول الإجابة عن السؤال الرئيسي التالي: هل يمكن اعتبار حادثة اقتحام الكونغرس "إرهاباً محلياً"؟ وما الأسباب القانونية والسياسية التي حالت دون قدرة وكالات إنفاذ القانون على منع هذا الاقتحام؟
التعريف النظري "للإرهاب المحلي"
منذ اندلاع أعمال العنف في الكونغرس الأمريكي وحتى اليوم، اختلفت التسميات المتعلقة بوصف المشاركين في هذه الحادثة؛ فهناك من يصفهم بالمتمردين، أو الغوغائيين، أو أتباع ترامب، أو "الإرهابيين المحليين" وهذا المصطلح الأخير هو قيد الدراسة.
لقد شاع استخدام هذا المصطلح بشكل أساسي بين المشرعين في الكونغرس الأمريكي سواء من قبل الديمقراطيين أو الجمهوريين، وأكد عليه الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في تصريحاته عندما أطلق على مثيري الشغب في هذه الحادثة اسم "الإرهابيين المحليين" رافضاً تسميتهم بالمتظاهرين.
ومن المهم الإشارة إلى أنه ليس هناك تعريف نظري متوافَق عليه في الأوساط الأكاديمية لمصطلح "الإرهاب المحلي"، ويستند هذا التقرير عند وصفه على تلك الحوادث التي يتم فيها استخدام الوسائل العنيفة لتحقيق الغايات السياسية؛ كما جاء في التعريف الإجرائي لمصطلح الإرهاب، وهو :"الاستخدام غير القانوني للعنف والترهيب خاصة ضد المدنيين وذلك سعياً وراء تحقيق أهداف سياسية"، أما مكتب التحقيقات الفيدرالي فقد عرّف "الإرهاب المحلي" على أنه "الاستخدام غير القانوني للقوة والعنف - دون توجيه أجنبي خارجي - ضد الأفراد أو الممتلكات بهدف ترويع الحكومة أو السكان المدنيين أو أي فئة منهم أو ممارسة الإكراه عليهم، من أجل تحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية، وقد يكون المتسبب في ذلك مجموعة أو فرد يقيم ويعمل في الولايات المتحدة.
وقد توسعت المادة (802) من قانون باتريوت آكت الخاص بمكافحة الإرهاب في تعريف الإرهاب ليتضمن "المحلي" مقابل "العالمي"، ويكون الفرد متورطاً في "الإرهاب المحلي" إذا ما ارتكب فعلاً ينتهك القانون الفيدرالي أو قوانين الولايات بحيث يشكل خطراً على حياة الإنسان أو يهدف إلى ترويع الأفراد والتأثير على سياسة الحكومة بالإكراه.
وعلى ما يبدو، يتفق الخبراء على أن حادثة الاقتحام تتوافق والخصائص السابقة للإرهاب، حيث إن انتهاك سيادة الكونغرس، واللجوء إلى استخدام العنف ضد الشرطة، وتعريض حياتهم للخطر إلى جانب حياة المشرعين والصحفيين والمدنيين، يعتبر سلوكاً إرهابياً لا يختلف عما يُقْدِم عليه ذئب منفرد أو تنظيم إرهابي.
وبهذا الصدد، ترى الباحثة في جامعة بوسطن والخبيرة في مجال الإرهاب، جيسيكا ستيرن، أن أهداف المقتحمين السياسية، وسعيهم إلى إيصال رسائلهم بشكل يلجؤون فيه إلى العنف كوسيلة لتحقيق غاياتهم المتمثلة في عرقلة التصديق على أصوات المجمع الانتخابي، يعتبر عملاً إرهابياً عنيفاً.
أبرز جماعات "الإرهاب المحلي"
يطلق مكتب التحقيقات الفيدرالي مصطلح "التطرف المحلي" على أولئك المتعصبين للأيديولوجيات اليمينية أو اليسارية ويتخذون من العنف وسيلة لتحقيق أهدافهم، ويجدر هنا التمييز بينهم وبين التيارات الأكثر ليبرالية ومحافظة في الحزبين الديمقراطي والجمهوري التي تنبذ العنف.
ووفقاً لذلك تضمن الحشد الذي اقتحم الكونغرس مزيجاً من الجماعات المتطرفة اليمينية، والمتظاهرين الغاضبين من الحزب الجمهوري، أو المؤيدين السلميين للرئيس ترامب، ونجد أن 45% من الجمهوريين يؤيدون المتظاهرين الذين تواجدوا في الكونغرس، وبالتالي لا يمكن الحكم على جميع المقتحمين باعتبارهم جزءاً من الجماعات المتطرفة أو ممّن يندرجون ضمن "الإرهاب المحلي".
ولذلك، يمكن حصر "الإرهاب المحلي" في الولايات المتحدة في مجموعتين متطرفتين، حيث ترتبط الأولى بالجماعات المنادية بتفوق العرق الأبيض، أو ما يعرف بالنازيين الجدد، من أمثال "Proud Boys"، و"QANon"، و"Oath Keepers"، وبوغالوس بوا، وباتريوت براير.
في حين تتضمن المجموعة الثانية الجماعات المناهضة للفاشية أو اليسارية مثل جماعة "أنتيفا"، التي سعى الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، إلى تصنيفها على أنها إرهابية.
وأدرك مكتب التحقيقات الفيدرالي مؤخراً بأن العنف المرتبط بتفوق العرق الأبيض "أكثر فتكاً" مما يمثله الإرهاب العالمي، وقد أكد ضابط سابق في مكتب التحقيقات الفيدرالي خلال جلسة استماع في الكونغرس الأمريكي بأن: المتطرفين من العرق الأبيض والمتشددين اليمينيين ارتكبوا هجمات وقتلوا عدداً كبيراً من الأشخاص في الولايات المتحدة على مدى السنوات العشر الماضية أكثر من أي حركة إرهابية أجنبية.
وقد شهد العام 2019 وحده زيادة في الهجمات المرتبطة بالجماعات المتطرفة من اليمينيين واليساريين على حد سواء بنسبة 8% عن السنوات السابقة، ووفقاً لبيانات مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية "CSIS" لعام 2020، نفّذ المتطرفون اليمينيون 67% من الهجمات والمؤمرات، واستخدموا خلالها المركبات والمتفجرات والأسلحة النارية، واستهدفوا المتظاهرين والأفراد وفقاً لعرقهم ولونهم، في حين نفذ المتطرفون من اليسار 20% من الهجمات والمؤامرات، مستخدمين المتفجرات والمواد الحارقة والأسلحة النارية، واستهدفوا قوات الجيش والشرطة وموظفي الحكومة.
ما بين الإرهاب العالمي و"المحلي"
في حين أن الولايات المتحدة تواجه تهديداً من الإرهاب العالمي بما يشمل التنظيمات الإرهابية الكبيرة مثل "القاعدة" و"داعش"، والحركات الراديكالية الأيديولوجية، والدول الراعية للإرهاب، فإن القانون رقم (1189) المتعلق بتصنيف التنظيمات الإرهابية الأجنبية - إلى جانب قوانين أخرى - يمنح سلطات واسعة في تصنيف أي كيان أجنبي باعتباره إرهابياً، وللدلالة على ذلك فإن هنالك ما يقرب من 7700 كيان وشخص مصنفين على أنهم "إرهابيون عالميون".
في المقابل، ليس هناك قانون محلي يمكن من خلاله تصنيف أي من الجماعات المتطرفة اليمينية أو اليسارية باعتبارها "إرهاباً محلياً"، وغالباً ما تصطدم الدعوات المطالبة بتصنيفها مع التعديل الدستوري الأول، الذي يمنح المواطنين حق اختيار توجهاتهم بما فيها الانضمام إلى تلك الجماعات المتطرفة.
وبناءً على ذلك؛ لا يُجرَّم الأفراد لانضمامهم إلى تلك الجماعات، وإنما يُجرَّمون على الأعمال الصادرة عنهم إذا ما تضمنت العنف. وحينها تستند وكالات إنفاذ القانون على اللوائح القانونية غير المتخصصة، مثل تلك المعنية بالجرائم العنيفة أو جرائم الكراهية أو جرائم العصابات المنظمة.
وعلى سبيل المثال، في الوقت الذي يُصنّف فيه مكتب التحقيقات الفيدرالي تفجيرات مدنية أوكلاهوما التي أودت بحياة 168 شخصاً باعتبارها هجوماً إرهابياً، لم توجَّه لمنفذها تيموثي مك فاي تهمة الإرهاب، وإنما تهماً لها علاقة بالقتل واستخدام سلاح دمار شامل وتدمير الممتلكات الفيدرالية.
وعلى النقيض، تتطلب إدانة شخص ما بتهمة الإرهاب العالمي، قدراً أقل من الجريمة ومستويات أقل من الأدلة وفقاً لمسؤول الاتصال في اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري، مايكل آرينز. ومنذ العام 2001 وجَّهت المحاكم الأمريكية 445 تهمة إرهاب لأمريكيين بسبب ارتباطهم بـ "الجهاد العالمي.
أسباب عدم الاستعداد والجهوزية
بدا مجتمع الأمن والمخابرات الأمريكي للوهلة الأولى قوياً بما فيه الكفاية للتصدي للتنظيمات الإرهابية في الخارج ومنع الهجمات في الأراضي الأمريكية، لكن - كما ذكرنا سابقاً - فإن هذه القوة تجرّدت من الآليات القانونية لتصنيف أو تحديد "الإرهاب المحلي"، وبالتالي حدّ ذلك من الكفاءة في حظر مثل هذه التنظيمات ومطاردتها واعتقال أعضائها.
ولا يقتصر الأمر على البنود القانونية بل يتعداه إلى الجوانب الإجرائية والعملياتية؛ حيث يشير تقرير نُشر على موقع "The Daily Beast" الإخباري في أكتوبر 2018، إلى أن مكتب التحقيقات الفيدرالي لم يكن يضع الجماعات اليمينية المتطرفة ذات العلاقة بتفوق العرق الأبيض على رأس قائمة أولوياته في مكافحة الإرهاب، وفي التقرير ذاته يشير المسؤول السابق في وزارة الأمن الداخلي، جون كوهين، بأن "الممارسات الشائعة في الأمن الداخلي تتمثل في التركيز على التهديدات التي تشكل الخطر الأكبر، بدلاً من التركيز على الهجمات المتزايدة من قبل المتطرفين من ذوي العرق الأبيض".
قد يوضح ذلك عدم جهوزية المجتمع الأمني للتعامل مع أحداث اقتحام الكونغرس، بالرغم من توقع حدوثها، حيث خلص تقرير تم نشره على موقع "NBC NEWS" في يناير 2021، إلى أن المنتديات الإلكترونية التي تضم نشطاء اليمين المتطرف ضجّت بالتهديدات حول الإقدام على أعمال عنف تزامناً مع مصادقة الكونغرس على نتائج المجمع الانتخابي.
بيد أن التجهيزات والتعزيزات لدى قوات الأمن الأمريكية بعد الحادي عشر من سبتمبر لم تُجْدِ نفعاً أمام الحشود الغاضبة؛ لا سيّما تلك المسؤولة عن حماية محيط الكونغرس الأمريكي والتي كلّفت ميزانيتها ما يزيد عن 460 مليون دولار، وكانت تضم حوالي 2300 ضابط لحراسة مساحة تبلغ 2 ميلاً مربعاً فقط.
وقد يعود السبب في ذلك إلى أنهم مجهزون بشكل رئيسي للتعامل مع التهديدات الإرهابية الكبرى مثل أحداث الحادي عشر من سبتمبر ورسائل الجمرة الخبيثة التي استهدفت أعضاء الكونغرس. وهم كما وصفتهم مجلة "Foreign Policy" مستعدين لخوض معركة قديمة، أما الإرهاب العالمي فلم يعد هو التهديد الرئيسي الذي يواجه الولايات المتحدة كما كان عليه منذ سنوات.
قانون لمكافحة "الإرهاب المحلي"
من المرجح أن تشهد الأيام القادمة تركيزاً من قبل قوات إنفاذ القانون على حالات "الإرهاب المحلي"، فالتهديد القادم من الجماعات المتطرفة بات يشكل خطراً أكثر.
وبالرغم من الزيادة في عدد الهجمات، إلا أنها لم تُخلّف سوى القليل من القتلى وتم تنفيذها في نطاق ضيق، في حين مثَّل اقتحام الكونغرس الحدث الأكبر ليس فقط على مستوى الولايات المتحدة، بل على المستوى العالمي أيضاً، وقد أكد على أن صعود التطرف الأيديولوجي لليمين واليسار أصبح يمثل خطراً متزادياً، ووجّه الأنظار نحو ضرورة تهيئة الأطر القانونية والساحة السياسية لمكافحته، وتشير التقارير إلى أن الرئيس بايدن ينوي إعطاءَ الأولوية لإصدار قانون متخصص ضد "الإرهاب المحلي"، وهناك بالفعل مشروع قانون مقدَّم من الحزبين لمنع أعمال هذا النوع من الإرهاب، إضافة إلى توصيات لضرورة استحداث منصب في البيت الأبيض للإشراف على مكافحة المتطرفين من ذوي الميول الأيديولوجية وزيادة التمويل لمكافحتهم.
لكن يجب أن تتجاوز هذه المساعي في البداية جماعات الحقوق المدنية مع ضمان عدم الاختلاف حول التعديل الأول من الدستور سابق الذكر، وأحدث الأمثلة على ذلك إعلان الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية معارضته على التوسع في تعريف الإرهاب والسلطات المنبثقة عنه، في وقت يرغب فيه بالإبقاء على المحاكمات الجنائية للأشخاص الذين ينتهكون القانون حتى وإن كانوا يفعلون ذلك لأغراض سياسية.
وبناء على ما سبق، تحمل العقود القادمة للولايات المتحدة تحديات أمنية كبيرة، وقد يكون "الإرهاب المحلي" أهمها، فهناك زيادة ملحوظة في نشاط الجماعات المتطرفة التي يغذيها الاستقطاب السياسي الحاد، والأزمات الاقتصادية، والآثار طويلة الأمد لكوفيد-19. وفي وقت يتضاءل فيه التهديد الناشئ عن الإرهاب العالمي، سيكون أمام إدارة بايدن التركيز على مكافحة وتحديد وتصنيف "الإرهاب المحلي"، وتبديد العوامل الداخلية له؛ وهي مهمة أقل ما يقال عنها "أنها صعبة ومعقدة للغاية".
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.
تحاليل ذات صلة: