* هذه هي المادة الرابعة من ضمن سلسلة مقالات وأوراق يتم نشرها تباعاً، تناقش جوانب معينة من الأبعاد الداخلية والخارجية للانتخابات الأمريكية المقبلة.
انتهجت إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في سنواتها الأربع الماضية سياسة العقوبات كأداة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية وما يتصل بها من مصالح عليا للولايات المتحدة، حيث تم إقرار المراسيم الرئاسية والقرارات التشريعية التي تستهدف التأثير على قدرات كيانات اقتصادية وحكومات تُصنفها واشنطن في خانة المعادية أو المتحدية للنفوذ الأمريكي.
وتتدرج الأهداف المعلنة لهذه العقوبات من إحداث تغييرات جذرية راديكالية في سلوك النظام السياسي لدولة ما، كعقوبات الضغط الأقصى ضد إيران، وصولاً إلى فرض عقوبات على شركات تجارية تنخرط في مشاريع تتصادم والرؤية الأمريكية في قضية من القضايا، كالعقوبات الأمريكية التي فُرضت جزئياً – حتى أكتوبر 2020 – على شركات أوروبية ناشطة في تطوير مشاريع نقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أنابيب تمر بتركيا وألمانيا.
واتجهت واشنطن إلى سياسة الضغوط الاقتصادية بعد مرحلة الحرب الشاملة على الإرهاب التي ابتدأت بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، وهي المرحلة التي كبّدت الدولة الأمريكية كُلف باهظة، إنسانياً واقتصادياً وعسكرياً، ناهيك عن أنها – أي الحرب على الإرهاب – شغلت انتباه واشنطن عن تهديدات أكثر جدية تنبع من دول، كالصين وروسيا، التي تصنفهما استراتيجية الأمن القومي حالياً على أنهما التهديد الأبرز للمصالح الحيوية الأمريكية.
وإزاء هذه الكُلف، وتعذُّر الحسم العسكري في صراعات المنطقة الرمادية؛ ترتأي منظومة صناعة القرار الأمريكي اللجوء إلى العقوبات كحالة وسيطة ما بين التدخل العسكري الباهظ وبين عدم اتخاذ إجراء فعلي تجاه القضية الخلافية. وأسفر التوسع في فرض العقوبات عن تداعيات سلبية على متانة الوضع الاستراتيجي لواشنطن على الساحة الدولية، ويمكن إيجازها فيما يلي:
أولاً: الافتقاد إلى الزخم الدولي
رفض مجلس الأمن في أغسطس 2020 مشروع قرار تقدمت به أمريكا لتمديد حظر السلاح المفروض على إيران، حيث لم تُفلح الدبلوماسية الأمريكية في إعادة تفعيل عقوبات مجلس الأمن وفق القرار الأممي رقم 2231 الذي تضمن خطة العمل الشاملة المشتركة المعروفة بالاتفاق النووي مع إيران.
ومُني هذا الاتفاق بانتكاسة بعد إعلان أمريكا عن انسحابها منه في مايو 2018 وفرْضها لعقوبات "أحادية" شاملة وغير مسبوقة تمنع القطاعات الاستراتيجية الإيرانية من التعامل مع شركاء خارجيين، حيث تمتد - أي العقوبات المفروضة - لتشمل أي حكومة أو شركة تنتهك بنود العقوبات الأمريكية، مما وضع أطراف خطة العمل المشتركة من الأوروبيين في مأزق الموازنة بين التزامات الاتفاق النووي مع طهران من جهة وبين التعرض لعقوبات أمريكية من جهة أخرى. ورغم ذلك بقي الاتفاق النووي يتمتع بالمشروعية القانونية الدولية ولكن دون وجود غطاء عملي لتطبيقه.
وتجلّت هذه المشروعية عندما طالبت أمريكا بإعادة فرض العقوبات على إيران في نطاق دولي، حيث امتنعت 11 دولة عن التصويت بما فيها الدول الأوروبية الأعضاء في مجلس الأمن؛ بريطانيا وفرنسا و ألمانيا وبلجيكا وإستونيا، في حين عارضت كل من الصين وروسيا مسوّدة القرار، ولم تُصوّت لصالحه سوى أمريكا وجمهورية الدومينيكان.
ولم تكتفِ الدول الأوروبية الرئيسية الثلاث "بريطانيا وفرنسا وألمانيا" بالامتناع عن التصويت، بل حاججت في بيان مشترك أن واشنطن ليس بإمكانها تفعيل آلية "SnapBack" التي تعيد فرض العقوبات على إيران بموجب القرار 2231 لأن واشنطن أعلنت انسحابها منه في وقتٍ سابق. والملاحظ أن كثيراً من العقوبات التي أُقرت مؤخراً تندرج تحت كونها عقوبات أحادية، وليست عقوبات متعددة الأطراف تُفرض بالتشارك مع حلفائها أو عبر المؤسسات ذات الصلة كمجلس الأمن.
ولم تستثني إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الحلفاء من فرض العقوبات ورفع الرسوم الجمركية التي تأتي في سياق متوتر يجعل من تعديل هذه الرسوم أقرب لأن يُعتبر عقوبات أكثر من أنه إجراء جمركي إداري. ولذلك ليس مستغرباً انخفاض الإسناد الدولي الذي تلْقاه سياسة العقوبات الأمريكية لأن كثيراً من هولاء الحلفاء تعرضوا لـ "عقوبات اقتصادية" سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كما أن المبررات الأمريكية السياسية للعقوبات المفروضة لم تعُد مُقنعة بالقدر الذي يُحفّز الحكومات الحليفة على الانخراط في دعم العقوبات الأمريكية.
ثانياً: تطوير أساليب اقتصادية جديدة بعيداً عن النظام الاقتصادي الدولي الحالي
لا يكفي إقرار الحكومة الأمريكية لحزمة عقوبات حتى يتم تنفيذها، وإنما يلزم لذلك أدواتٌ وآليات تضبط امتثال الحكومات والشركات حول العالم لهذه العقوبات وترصد الانتهاكات المحتملة وتتخذ الإجراء المناسب في الوقت الحاسم ضد هذه الانتهاكات.
ومن أهم هذه الأدوات والآليات التي تسند العقوبات الأمريكية هي مجموعة العمل المالي "Financial Action Task Force" التي أُسست كمنظمة حكومية دولية عام 1989 على هامش قمة مجموعة السبع التي انعقدت في باريس في نفس العام، وهدفت المجموعة إلى اعتماد وتنفيذ التدابير الرامية إلى مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وغيرها من الأنشطة المحظورة، وتقديم التوصيات الملزمة أحياناً لضمان عدم استغلال النظام المصرفي في عمليات غير قانونية.
ونظراً لاكتساب بعض العقوبات الأمريكية طابعاً دولياً، ولتعدد الدول المنخرطة في مجموعة العمل المالي؛ فإن هذه الأخيرة تمارس شكلاً من أشكال الرقابة على مدى الامتثال للعقوبات، حيث تتبادل البنوك المركزية المعلومات المتعلقة بالتحويلات المشبوهة التي تنتهك العقوبات تماماً كما تتشارك المعلومات المتعلقة بتمويل الإرهاب وغسل الأموال.
وثاني هذه الأدوات التي تسند العقوبات الأمريكية هي جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك المعروفة اختصاراً بـ "SWIFT" والتي أُسست عام 1973 في بروكسل التي تحتضن عدداً من مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وتضم حالياً وفقاً للبيانات المنشورة على موقعها قرابة 11 ألف بنك ومؤسسة نقدية في أكثر من 200 دولة حول العالم، وهذا يعني أنها تغطي تقريباً كل دول العالم. ويرتكز مبدأ عملها على القيام بدور وسيط سريع وآمن للحوالات البنكية الدولية، حيث يتم تبادل المعاملات بين الأعضاء عبر رمز خاص بكل معاملة دون الحاجة إلى إجراء تحويل مالي فعلي.
ويتضح من وظيفة نظام "SWIFT" أنه يوفر نفاذاً دقيقاً إلى بيانات المعاملات البنكية بما يسمح بتحديد نقطة بداية ونهاية الحركات المالية. وتُشدد وزارة الخزانة الأمريكية على ضرورة التزام المنظومة بعقوباتها وعدم قبول أي حركة مشبوهة. وبالطبع لا تجازف المنظومة بانتهاك العقوبات الأمريكية حتى لا تتعرض هي بدورها إلى عقوبات تحد من قدرتها على التعامل بالدولار، إذ يتراوح حجم تبادل العمليات اليومية التي تتم بالدولار عبر الجمعية ما بين 5-6 تريليون دولار.
ومن الصعب الإفلات من أداتي الرقابة سابقتي الذكر: FATF", "SWIFT"" ولذلك اضطرت الدول المستهدَفة بالعقوبات إلى البحث عن بدائل لإتمام تعاملاتها المالية دون المجازفة بكشف المعاملة أمام النظام النقدي الأمريكي.
وإحدى هذه البدائل الصاعدة هي النسخة الصينية من "SWIFT" والصادرة عن بنك الشعب الصيني والمسمّاة بـ نظام دفع البنوك العابر للحدود "Cross-border Interbank Payment System". ولا يزال هذا النظام الذي أُطلق عام 2015 بعيداً جداً عن مزاحمة "SWIFT" حيث بلغ عدد أعضائه من المؤسسات المالية قرابة 980 مؤسسة موزّعة على 96 دولة ومنطقة إدارية، وفقاً لتقرير نشرته رويترز في يوليو 2020. ويبلغ حجم العمليات اليومية التي تتم عبر هذا النظام قرابة 135.7 مليار يوان – أي ما يعادل 19.4 مليار دولار.
وأطلقت الصين هذا العام اختبارات تجريبية جزئية لليوان الرقمي الصادر عن بنك الشعب الصيني أيضاً، ويتوقع أن يزداد توجه الحكومات والشركات المتخوفة من التعرض للعقوبات الأمريكية نحو هذه الكيانات المستحدثة الموازية. وإذا ما تعمّقت وطالت سياسة العقوبات، فإن الاعتماد المتزايد على هذه البدائل سيُقوّض النظام الاقتصادي الدولي بنسخته المستندة على الدولار والمدار من قبل الولايات المتحدة، فالحاجة إلى مواجهة الضغوط الأمريكية هي "أم" اختراع الدول المتضررة منها لوسائل وآليات جديدة من أجل تفادي التعامل بالوسائل النقدية الخاضعة لرقابة المؤسسات الأمريكية كوزارة الخزانة ومجلس الاحتياطي الفيدرالي.
ثالثاً: وقوع أهداف سياسية "عكسية"
اقتصادياً، نجحت العقوبات الأمريكية في إحداث ضرر واسع النطاق شمل انخفاض الصادرات النفطية وتسجيل معدلات التضخم وأسعار صرف العملة لمستويات غير مسبوقة كما في الحالة الفنزويلية والإيرانية. كما حدّت من اختراق الكيانات والشخصيات المستهدَفة إلى النظام المصرفي الدولي بصورة تُعرقل القدرة على إتمام المعاملات المختلفة.
إلا أن هذه الآثار الاقتصادية السلبية ليست غاية في ذاتها وإنما وسيلة لتحقيق أهداف سياسية واستراتيجية محددة، حيث صُمّمت العقوبات لخلق ظروف اقتصادية مجتمعية متردّية تدفع الحكومات إلى تقديم تنازلات تتسق مع الرؤية الأمريكية كوسيلة وحيدة لعدم حدوث انهيار أمني مجتمعي على شكل انتفاضة شعبية.
وقد وقعت بالفعل بعض الموجات الاحتجاجية تأثراً بالأوضاع الاقتصادية التي أحدثتها العقوبات، إلا أن أجهزة الدولة تمكّنت من احتوائها والسيطرة عليها لا بل واستغلال الموقف في توجيه خطاب دعائي إلى الشعب يدعو إلى الصمود في وجه "الحملة الأمريكية" التي تستهدف أركان الدولة؛ مُعزّزةً بذلك من الوحدة الوطنية والتماسك المجتمعي.
وعززت هذه الظروف المحلية من حضور وسطوة مَن تُصنفهم واشنطن سياسياً على أنهم متطرفون في المشهد العام في الدول التي فُرضت عليها العقوبات، حيث تكتسب الرواية السردية المناهضة لأمريكا قبولاً شعبياً كرد فعل نفسي عفوي ضد التهديدات الخارجية.
فمثلاً، حققت قوائم التيار الأصولي التي تضم قيادات من الحرس الثوري الإيراني نجاحاً واضحاً في الانتخابات التشريعية التي أُجريت في فبراير 2020، حيث حاز التيار على 221 مقعداً من أصل 290 مقعداً. وفي فنزويلا؛ لم تُفلح المعارضة المسيطرة نسبياً على السلطة التشريعية في تغيير نظام الحكم رغم فرض واشنطن لعقوبات صارمة قلّصت من صادرات البلاد النفطية. ولم ينساق الشعب الفنزويلي ذو الثقافة الاشتراكية اليسارية خلف دعوات المعارضة المدعومة أمريكياً، ونجحت القيادة الفنزويلية في امتصاص التحركات المناهضة وترسيخ سلطتها الأيديولوجية بصورة تُعيد التذكير بنجاحات الرئيس الكوبي الأسبق، فيدل كاسترو، الذي تولى مقاليد الحكم عام 1959 واستمر "يناضل" أمام شعبه ضد العقوبات والمخططات الأمريكية لفترات طويلة من حكمه الذي امتد حتى عام 2006.
وبالإضافة إلى الارتدادات السياسية، قد تتسبب العقوبات بارتدادات أمنية جيوسياسية، فبعد تشديد العقوبات على إيران في منتصف 2019 حدثت عدّة انفجارات استهدفت ناقلات نفط حول مضيق هرمز، ناهيك عن استهداف مصالح أمريكية في العراق، وتنفيذ قوات أنصار الله "الحوثيين" لهجمات دقيقة على منشآت تُمثّل عَصَبَ الإنتاج النفطي السعودي في بقيق وخريص، ووقوع عدد من التفجيرات ضد منشآت في إيران أو تتبع لحلفائها في العراق. ويُرجع بعض الخبراء هذه الهجمات غامضة المصدر إلى رغبة دول بعينها في تصدير أزماتها وتوسيع نطاق الضرر عملاً بالمثل الشعبي: "عليّ وعلى أعدائي".
وقد تشمل الارتدادت الأمنية العكسية اضطرار الدول المعاقَبة إلى تمويه تعاملاتها التجارية عبر التواطؤ مع جهات غير قانونية كالجماعات الإرهابية وكارتيلات المخدرات، وهو ما يعني وجوباً الدخول في شبكات تمويل الإرهاب والأنشطة المحظورة، لا سيّما أن التكنولوجيا تُسهّل القفز على كثير من الحواجز المادية، فلا يكاد يمر شهر إلا وتَعْرض مراكز الأبحاث الأمنية تقريراً حول نشاط تجاري يتضمَّن تحايلاً رقمياً - أحد أطرافه دولة على قائمة العقوبات الأمريكية.
رابعاً: تعزيز حضور منافسي واشنطن في الساحة الدولية
تعتمد فعالية أي عقوبات على امتثال الدول والمؤسسات الدولية لها وعدم خرقها أو تسهيلها الالتفافَ على بنودها. وقد تزامن تزايد فرض العقوبات الأمريكية مع حالة من التوتر غير المسبوق بين بكين وواشنطن، مما جعل من تعامل بكين مع الدول المعاقَبة وسيلةً للتعبير عن رفض السياسات الأمريكية.
ويتردد أن الصين تواصل شراء النفط "الرخيص" من فنزويلا وإيران رغم الحظر المفروض، لا بل اضطُرّت إيران إلى تعميق علاقاتها مع الصين ووقَّعت معها في يوليو 2020 اتفاقية وُصفت بالاستراتيجية والشاملة كوسيلة شبه وحيدة لصناعة فرص اقتصادية بعد تمسك أمريكا بعدم قبول التبادلات التجارية الأوروبية الإيرانية.
وفيما يتعلّق بالعقوبات المفروضة على كوريا الشمالية التي صادق عليها مجلس الأمن الدولي في مشروع قرار تقدَّمت به المندوبة الأمريكية، نيكي هيلي، في ديسمبر 2017، أعلن بيان صادر عن المتحدّث باسم وزارة الخارجية الصينية، غينج شوانج، في فبراير 2018، تطبيقَ الصين التي تستوعب أكثر من 90% من تجارة كوريا الشمالية، لتدابير العقوبات "بشكل كامل".
إلا أنه مع بدء "حرب الرسوم" في منتصف 2018 بين الصادرات الصينية ونظيرتها الأمريكية، يرجّح خبراء انخفاضَ الدعم السياسي الصيني لهذه العقوبات، كوسيلة للضغط على الموقف الأمريكي. فمن منظور عملي، تُشتّت الاستفزازات الكورية الشمالية، كإجراء تجربة صاروخية، التركيزَ الأمريكي وتدفع بملف ثانوي نسبياً إلى واجهة الاهتمامات.
وعلى صعيد متصل، نقلت العقوبات ضد الصين وروسيا علاقاتهما المتبادلة إلى آفاق استراتيجية تقترب من تأسيس البلدين لتحالف "ضرورة" ضد النفوذ الأمريكي، حيث كثرت المناورات الثنائية العسكرية، وازداد التبادل التجاري بين الدولتين الذي أصبح يتم بعملاتهما الوطنية. وهذا التوجه الآخذ في التوسع عالمياً – إجراء المعاملات المحلية بعملة غير الدولار – يأتي كإجراء عقابي مماثل للعقوبات الأمريكية.
وإذا ما تمددت وتعمقت تحالفات الضرورة بين الدول المعاقَبة، فإن بكين ستضطر لممارسة أدوار سياسية وأمنية تنسجم وموقعها الجديد، ولن يكن بمقدورها التعويل على قدراتها الاقتصادية لوحدها من أجل حماية مصالحها الحيوية، بل يجب إضفاء طابع أمني عسكري سياسي على تواجدها في المشهد الدولي، لإسناد هذه المصالح التي توسعت بلجوء الدول المتعرضة للعقوبات إلى بكين كمخرج طوارئ.
سياسة مستقلة بذاتها أم استراتيجية شاملة؟
لا يمكن للعقوبات وحدها أن تحقق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية ما لم تكن متسقة في إطار استراتيجية شاملة تتضمن حوافز مغرية لجذب الطرف المعاقَب نحو طاولة المفاوضات؛ هذا من جهة. ومن جهة أخرى، على هذه الاستراتيجية أن تتضمن رفع الكلفة الأمنية والعسكرية التي يتكبدها الطرف المعاقَب جراء تعنته في مواقفه.
فمن غير الصواب تعويل واشنطن على الكلفة الاقتصادية لتغيير الحسابات الاستراتيجية لخصومها، فعادةً ما تتأقلم الدول مع وضع العقوبات وتبتكر أساليب جديدة للتحايل على الرقابة الأمريكية، ويكون من الصعب جداً رصد وتتبع كل الانتهاكات المحتملة.
ولا يعني ذلك التقليل من دور المجال الاقتصادي في الحسابات الاستراتيجية، فمعظم خبراء العلاقات الدولية يصنفون العقوبات الاقتصادية كفرع من فروع القوة الصلبة التي تضم أيضاً العمليات العسكرية، إلا أن بعض كلاسيكييّ المدرسة الواقعية يترددون في تصنيف العقوبات الاقتصادية كأداة مستقلة من أدوات القوة الصلبة.
وبعيداً عن الجدليات النظرية وما إذا كانت العقوبات قوةً صلبة أم ناعمة؛ يتطلّب تحقيق الأهداف الاستراتيجية في بيئة معقدة مزيجاً من الأدوات والوسائل، فلا يهم ما إذا كانت القوة ناعمة أم خشنة، بل المهم أن تكون قوة ذكية توظف "العصا والجزرة" وفق حسابات عقلانية دقيقة.
وهنا يجادل بعض المراقبين أن واشنطن لم تعد تملك "الجزر" الكافي بعد انتزاع قوى صاعدة أبرزها الصين لمكاسب اقتصادية دولية، فلا يبدو أن المخزون الاستراتيجي الأمريكي يزخر بالمنافع التي بالإمكان عرضها لجذب موقف الدول كما كانت تفعل واشنطن سابقاً.
لذلك يمكن القول إن عقوبات المرحلة الحالية تختلف عن عقوبات سابقة فرضتها الدولة الأمريكية على دول معادية لسياساتها، ففي السابق كانت واشنطن تملك ترف الخيارات ووفرة البدائل، أما الآن فقد تعبر سياسة العقوبات عن انحسار قدرة منظومة صناعة القرار على توليد الفرص وممارسة الضغط "المرن" على غيرها من الدول.
وعليه يندرج تقييم جدوى سياسة العقوبات تحت باب المفروغ منه، فعلى الأغلب تخلُص معظم التقييمات الأمريكية إلى ضعف كفاءة العقوبات في انتزاع المصالح الحيوية التي لأجلها أُقرت. إلا أن ما يجب بحثه هو البدائل الواجب صناعتها لتحقيق أهداف السياسة الخارجية وتلبية متطلبات الأمن القومي، بأقل الخسائر و/أو أعلى المكاسب، ودون إرهاق الدبلوماسية الأمريكية في تبرير عقوبات أحادية لا تفيد دائماً في تسوية القضايا المتنازع عليها، بل قد تعقّد الموقف.
تقلبات السياسة
تعد السياسة الخارجية أحد العوامل المهمة في تحديد الخيار التصويتي للناخب الأمريكي، حيث اعتَبر 57٪ من المستطلعة آراءهم في دراسة مسحية أجراها مركز "PEW" للأبحاث في أغسطس 2020، أن السياسة الخارجية من القضايا التي تلعب دوراً في توجيه قراراتهم التصويتية.
لذلك لم تكن سياسة العقوبات بعيدة عن الشد والجذب الانتخابي أسوةً بغيرها من القضايا بين "جمهوري" يراها تخدم المصالح الحيوية الأمريكية، وآخر "ديمقراطي" يراها قاصرة عن تلبية أهداف السياسة الخارجية الأمريكية.
ولم يبقَ مسؤولو الإدارة الأمريكية بمنأى عن هذا السجال، ففي خطاب ألقاه على هامش مشاركته في منتدى "ASPEN" الأمني، كشف مستشار الأمن القومي، روبرت أوبراين، عن أن سياسة الضغط القصوى ضد إيران ستستمر إذا ما أُعيد انتخاب ترامب لولاية ثانية، محذراً بصورة مبطنة من وصول إدارة أخرى تُنهي العمل بهذه العقوبات، وهو الأمر الذي تفضله طهران بحسب ما قاله براين.
اللافت في هذه التصريحات توقيتَها الذي جاء قبل أقل من شهر على الانتخابات الرئاسية وإقحامها مؤسسةَ مجلس الأمن القومي السيادية في شأن حزبي انتخابي على خلفية أحد الملفات التي تنخرط في إدارتها.
فجرت العادة أن تُصنع قرارات السياسة الخارجية بعيداً عن السجالات الحزبية، حفاظاً على دقة الإجراءات البيروقراطية والتقنية، ومنعاً لتسييسها. إلا أن هذه المرحلة تتغير فيها أدوات السياسة الخارجية تبعاً للإدارة المسيطرة - مع مراعاة القيود والاعتبارات المؤسسية - فإدارة ترامب انسحبت من الاتفاق النووي الذي وُقّع مع طهران في الولاية الرئاسية لسلفه أوباما، وبالمثل قد ينسحب بايدن من العقوبات إذا ما انتُخب رئيساً وينفتح على طهران.
وهذا "التذبذب" ينطبق على عقوبات وملفات كثيرة وهو ما يخالف مستلزمات الاستراتيجية السليمة "Sound Strategy" التي تتطلب استقراراً واتزاناً على المدى المتوسط، أما إذا استمر هذا التقلب في السياسة الخارجية والموقف من استخدام العقوبات كأداة، فإن خصوم الولايات المتحدة سيتنفسون الصعداء مع كل تغير رئاسي.
ابقى على تواصل
تحليلات متعمقة يتم تسليمها أسبوعيا.